الفن السوري في المناطق المحررة… أوركسترا بلا قائد

  • 2016/03/18
  • 5:48 م

إعداد فريق التحقيقات في عنب بلدي

خلال‭ ‬السنوات‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬انطلاقتها،‭ ‬وتحديدًا‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬2012،‭ ‬دفعت‭ ‬الثورة‭ ‬ومطالبها‭ ‬بالسوريين‭ ‬للتعبير‭ ‬عنها‭ ‬بوسائل‭ ‬متنوعة‭ ‬من‭ ‬الفنون،‭ ‬بالتزامن‭ ‬مع‭ ‬تصاعد‭ ‬الحراك‭ ‬الثوري‭ ‬المدني،‭ ‬فبرزت‭ ‬الأعمال‭ ‬المسرحية‭ ‬والغنائية،‭ ‬وألفت‭ ‬النصوص‭ ‬الدرامية،‭ ‬التي‭ ‬قدمها‭ ‬فنانون‭ ‬شباب‭ ‬على‭ ‬شكل‭ “‬سكيتشات‭” ‬تناولت‭ ‬يوميات‭ ‬السوريين‭ ‬في‭ ‬الثورة،‭ ‬وصورت‭ ‬أحلامهم،‭ ‬وعكست‭ “‬سوريا‭ ‬المستقبل‭” ‬في‭ ‬أعمالهم‭. ‬

ربيع الفن الثوري والخريف المستعجل

مثّل‭ ‬العام‭ ‬2012،‭ ‬ربيع‭ ‬الفن‭ ‬المرتبط‭ ‬بالثورة‭ ‬السورية،‭ ‬لكن‭ ‬تلك‭ ‬اللوحة‭ ‬الفسيفسائية‭ “‬المشرقة‭” ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬بدأت‭ ‬تختفي‭ ‬ملامحها،‭ ‬مع‭ ‬تصاعد‭ ‬وتيرة‭ ‬العنف‭ ‬التي‭ ‬فرضها‭ ‬نظام‭ ‬الأسد‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬وظهور‭ ‬جماعات‭ “‬متشددة‭”‬،‭ ‬حاربت‭ ‬الفنون‭ ‬لاعتبارات‭ “‬دينية‭” ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭.‬

فحلت‭ ‬الأناشيد‭ ‬التعبوية،‭ ‬التي‭ ‬غلبت‭ ‬فيها‭ ‬النبرة‭ ‬الطائفية،‭ ‬مكان‭ ‬الأهازيج‭ ‬الشعبية،‭ ‬وطليت‭ ‬اللوحات‭ ‬الغرافيتية‭ ‬التي‭ ‬عبرت‭ ‬عن‭ ‬روح‭ ‬الثورة‭ ‬بالشعارات‭ ‬العسكرية‭ ‬والرايات‭ ‬الفئوية،‭ ‬ولوحق‭ ‬الفنانون‭ ‬والمبدعون‭ ‬واعتقل‭ ‬بعضهم،‭ ‬فغاب‭ ‬الغناء‭ ‬والمسرح‭ ‬والرسم،‭ ‬وبقيت‭ ‬هذه‭ ‬الأنشطة‭ ‬تمارس‭ ‬على‭ ‬نطاق‭ ‬ضيق‭. ‬وتراجع‭ ‬اهتمام‭ ‬الأهالي‭ ‬بتعليم‭ ‬الأولاد‭ ‬الفنون‭ ‬على‭ ‬اختلاف‭ ‬أنواعها،‭ ‬بسبب‭ ‬استمرار‭ ‬العنف،‭ ‬وتحت‭ ‬ضغط‭ ‬الحالة‭ ‬الاقتصادية،‭ ‬ما‭ ‬ينذر‭ ‬بولادة‭ ‬جيل‭ ‬سوري‭ ‬جديد‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬شيئًا‭ “‬اسمه‭ ‬فن‭”‬،‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬المسرحي‭ ‬السوري‭ ‬حسين‭ ‬برو‭. ‬

هذه‭ ‬الحالة،‭ ‬أوصلت‭ ‬المناطق‭ ‬المحررة‭ ‬في‭ ‬سوريا،‭ ‬دون‭ ‬غيرها،‭ ‬إلى‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬السوداوية،‭ ‬والحزن،‭ ‬والكآبة،‭ ‬لا‭ ‬يصدر‭ ‬عنها‭ ‬إلا‭ ‬العنف‭ ‬والقتل‭ ‬والتهجير،‭ ‬ولا‭ ‬يصور‭ ‬فيها‭ ‬الإعلام‭ ‬إلا‭ ‬المجازر‭ ‬والبراميل‭ ‬ويراقب‭ ‬عداد‭ ‬الضحايا،‭ ‬بينما‭ ‬توارى‭ ‬الفنانون‭ ‬بمواهبهم‭ ‬خلف‭ ‬الحدود،‭ ‬وركبوا‭ ‬القوارب‭ ‬إلى‭ ‬بلدان‭ ‬اللجوء،‭ ‬وبقي‭ ‬من‭ ‬أعمالهم‭ ‬الأطلال،‭ ‬تاركين‭ ‬حسرة‭ ‬في‭ ‬قلوب‭ ‬السوريين،‭ ‬الذين‭ ‬مايزالون‭ ‬يرددون‭ ‬حتى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا‭ ‬أغاني‭ ‬الساروت‭ ‬والقاشوش‭.‬

لكن‭ ‬ثمة‭ ‬من‭ ‬يملك‭ ‬بقية‭ ‬إصرار‭ ‬وعزيمة،‭ ‬ويحاول‭ ‬تصدير‭ ‬الفن‭ ‬من‭ ‬المناطق‭ ‬المحررة‭ ‬رغم‭ ‬مرارة‭ ‬الحياة‭ ‬وصعوبات‭ ‬المعيشة،‭ ‬ودخول‭ ‬هذا‭ ‬الجانب‭ ‬من‭ ‬ثقافة‭ ‬السوريين‭ ‬وتراثهم‭ ‬في‭ ‬قاموس‭ “‬المحرمات‭” ‬في‭ ‬بعض‭ ‬المناطق،‭ ‬ليبرز‭ ‬تساؤل،‭ ‬يصفه‭ ‬البعض‭ ‬بأنه‭ “‬ترفي‭”: ‬هل‭ ‬بقي‭ ‬أثر‭ ‬للفن‭ ‬بعد‭ ‬خمس‭ ‬سنوات‭ ‬من‭ ‬الثورة؟‭ ‬ما‭ ‬صفاته‭ ‬وخصائصه؟‭ ‬هل‭ ‬لدينا‭ ‬مؤسسات‭ ‬فنية‭ ‬وأعمال‭ ‬ومشاريع‭ ‬قابلة‭ ‬للاستمرار‭ ‬لما‭ ‬بعد‭ ‬الحرب؟‭ ‬

“الغناء للوطن” مع شرارة الثورة الأولى

الزمان: 17 شباط 2011

المكان: مدخل سوق الحريقة الشهير وسط دمشق

الحدث: “مظاهرة شعبية” كسرت أهم المحرمات في عرف النظام السوري، والمتمثل بالتجمعات الشعبية، تطالب بمحاسبة شرطي مرور أهان مواطنًا، ونادى المتظاهرون لأول مرة منذ تولى البعث السلطة، “الشعب السوري ما بينذل”، مدفوعًا بعواطف عفوية ومشحونًا من أشقاء سبقوهم في ميادين التحرير في مصر واليمن وليبيا.

بعد شهر تقريبًا.. بدأت شرارة الثورة في درعا، وانطلقت إلى بقية أنحاء سوريا، وكان وقودها سوريون طالبوا بالحرية، وكانت المظاهرات الحاشدة وسيلتهم الأبرز للتعبير. تلك الاحتفاليات اليومية في ساحات البلدات والمدن السورية كانت بمثابة كرنفالات تضم مختلف أنواع الفنون، أبرزها الغناء والرسم والرقص.

شكلت المظاهرات في سوريا مزيجًا فنيًا متكاملًا أنتجه الشعب بعفوية، ليخلق منه حالة فنية لم تشهدها البلاد خلال أربعين عامًا، لا تشبه أي احتفال كرنفالي، ولا إرث شعبي. لقد كان إنتاجًا ثوريًا بامتياز، ساهم فيه الفنان مع المطرب والملحن والكاتب، والخطاط والرسام، ودخلتها الرقصات الشعبية، وحملت خطابًا سياسيًا، وتبنت مواقف أثرت على مجرى الأحداث، وأيدت تيارات وشخصيات، وأسقطت أخرى.

حناجر المنشدين قادت جموعًا من الناس، أنشدت لهم أغان ألفّت كلماتها من صميم مطالب الثورة الشعبية، ورددت الجموع الأناشيد، بمشاهد فنية امتزج فيها الغناء بالرقص الشعبي، على وقع هتافات “يلا إرحل يا بشار”.

ورافق الغناء، إبداع الرسامين في تلك المظاهرات، وكان لهم دور كبير، فبرز الكاريكاتير واحتل موقعًا مهمًا في اللافتات، واشترك في الرسومات خطاطون ومبدعون من الناشطين، الذين أغنوا المظاهرات بأفكار، لم تخل من الفكاهة والسخرية من كافة الأطراف، النظام والأمم المتحدة والمجتمع الدولي، وأيضًا بعض الفصائل المقاتلة وقادة المعارضة.

قاسم جاموس: الغناء للوطن.. أسمى الفنون

كان المغني قاسم الجاموس (صدى حوران) قبل الثورة يهم بالمشاركة في برنامج مواهب غنائية مشهور، عله يحقق حلمه في أن يصبح مغني عصره.

دخل إلى أروقة أحد الفنادق في دمشق لمقابلة لجنة التحكيم لكنه عدل عن الفكرة عند آخر لحظة، وقرر الانسحاب، وفور سؤاله عن سبب تراجعه، قال لأحد سائليه “القصة مو زابطة معي، أنا ما بغني ياي وهاي، في شي أسمى ممكن غنيله، هو الوطن”.

لم يكن الجاموس يعلم أن سوريا ستكون على موعد مع ثورة تتفجر فيها طاقات ومواهب فنية شابة تعطي للفن السوري بعدًا آخر، يقوم على حب الوطن والإيمان بقضية التحرر من الظلم وبناء بلد ديموقراطي تعددي. وقد كانت الثورة بسنواتها الخمس الماضية ملهمة لإنتاج أعمال فنية في مجالات عديدة، رغم ما تعرض له الموهوبون من تضييق وضغوط من الأطراف المتصارعة.

فن الثورة السورية وموت “حارس البوابة”

بين “الفن” و“ما يسمى فنًا”، يحار النقاد في إطلاق الوصف الصحيح على الفن السوري في مرحلة الثورة في مناطق النظام والمعارضة، ويذهب المراقبون إلى القول أن ما يصدر عن مؤسسات النظام الفنية أو التي لا زال يتحكم حارس البوابة (الرقيب) بمحتواها، ما هي إلا امتداد لحقبة ما قبل الثورة، حيث سادت ثقافة “التدجين” والإسفاف في تناول القضايا بأسلوب أمني مدروس، يشعر المواطن بأن حرية التعبير عند أعلى مستوياتها.

حسين برو – فنان مسرحي وصحفي

في مقابلة لعنب بلدي الفنان المسرحي والإعلامي حسين برو، تبنّى وجهة نظر مماثلة، معتبرًا أن التوجه العام للإنتاج الفني قبل الثورة كان جزءًا من ثقافة “الإسفاف” السائدة آنذاك، واعتبر أن الجيل في تلك الفترة تربى على أنواع المسرحيات التي عززت تلك الثقافة، مشيرًا إلى أن الإنتاج الفني كان محصورًا بالمؤسسات الرسمية فقط وخاضعة لرقابتها التامة، واستثنى من ذلك المسرح الجامعي، الذي كان يقدم “طفرات في العمل بعد الالتفاف على الرقابة”.

يرى برو أن الفن قبل الثورة كان مقيدًا بعراقيل ويخضع لموافقات وإجراءات أمنية معقدة، وقال “يجب أن يتم كل شيء تحت الغطاء الرسمي وإلا فمصير الفنان الاعتقال”، حتى ما كان يقدم بقالب النقد للدولة أو للمسؤولين، يراه برو محاولات مدروسة لتحويل الفاجعة إلى ضحكة، مثل مسلسلات مرايا وبقعة ضوء، وكانت محاولة “للتنفيس ليس أكثر”، على حد تعبيره.

في المقابل، ينظر إلى الأعمال الفنية التي برزت في ظل الثورة على أنها نتاج نضوج لأفكار “ثورية” طرحها ناشطون وفنانون ومواطنون رغبوا بتوصيل الفكرة عبر لوحة أو مشهد تلفزيوني أو قصيدة، بعدما كسرت الرقابة المخابراتية للنظام. وما أعطى قيمة نوعية لهذه الأفكار هو أنها صدرت في جوقة فنية خالصة، من مناطق تتعرض يوميًا للقصف والتدمير الممنهج، يفترض بالسكان فيها أن يفكروا في كل شيء إلا الفن، فهو يحتاج إلى جو خاص وعوامل فيزيائية تسمح للفنان بالإبداع.

وهنا يمكن القول، أن مقاييس الإبداع لم تتوقف على الأساليب التقنية، والحرفية في الأداء، وضخامة الإنتاج التي ترفع من القيمة الجمالية والفنية للعمل، بل على المضمون الهادف والذي يعد “حجر الأساس” في التقييم.

ثقافة البعث ووجبات الدراما السريعة

سماح هدايا – وزيرة الثقافة في الحكومة السورية المؤقتة

ترى وزيرة الثقافة في الحكومة السورية المؤقتة، سماح هدايا، أن “الفن الحقيقي هو الذي يقدم إبداعًا، ويحمل مشروعًا تنويريًا ويكون بمثابة التوثيق التاريخي الذي يقدم للجيل”.

وتوضح الوزيرة لعنب بلدي أن “الإنتاج الفني في ظل حكم البعث قبل اندلاع الثورة، مثل الوجبات السريعة المغلفة (بأمبلاج) جذاب، يطرح فقط للاستهلاك ويعتمد على إثارة الغرائز، وهو فعليًا يعد لتشكيل الإنسان السوري والهوية السورية بصورة مشوهة كما رُسم لها أن تكون، فهذا ليس فنًا حقيقيًا”.

ولعل القطاع الفني الذي يعبر عن هذه الظاهرة بأبرز وجوهها هو “الدراما”، فرغم النجاجات الكبيرة التي حققتها والانتشار الواسع الذي اكتسح الشاشات العربية، وأنعش الاستثمارات في هذا الجانب، وقعت بالفخ هي الأخرى، إذ تعمدت بعض الأعمال على تعميم الجزئيات السلبية في المجتمع، والتي كانت ترتبط بحالة الشعبوية والغوغائية، ففي كل مجتمع عيوب وحالات غير صحية، لكن التركيز عليها وإبرازها وتعميمها لتبدو وكأنها الحالات الاجتماعية السائدة، يعتبر هدفًا سيئًا للفن، ويدلل هذا على وجود خطة وبرنامجًا سيئًا كان يُشتغل عليه، حتى تحول الفن شيئًا فشيئًا إلى “معول هدم” في سوريا، “لا بل في كل المجتمعات العربية”.

وكان لبعض النصوص الدرامية دورًا سلبيًا على المجتمع، إذ حطت في مشاعر ومخيلة وفكر الإنسان السوري، وغيرت في الشخصية نحو الجشع والنهم والنهب، وغيرت في الشخصية السورية حتى على مستوى الخطاب، وأبرزت المرأة السورية بشكل مبتذل وسيء، وكأنها تحفة فنية جميلة لا تنجح إلا بصنع المكائد، إذ كانت هذه المسلسلات تجسيدًا لأنماط تختلف عن واقع مجتمعنا، قدمت لنا باستمرار لنتقبلها ونتشربها للأبد. في حين لم تعالج هذه الدراما المشاكل الجوهرية.

ويبدو أن لوزيرة الثقافة في الحكومة المؤقتة، سماح هدايا، رأيًا متوافقًا مع هذا الطرح، التي اعتبرت من خلال خبرتها أن “هناك برنامجًا فنيًا متعلقًا بالآثار والتراث، ومتعلقًا بالهوية بشكل عام، كان يجهز في مرحلة حكم آل الأسد، يهدف إلى تحطيم الهوية التاريخية، والهوية الحضارية، والهوية الجامعة لكل السوريين”، وأضافت “ركز هذا الفن على الجانب الذي أصابه انحطاط في حضارتنا السورية العريقة، وعممه على كافة إرثنا الحضاري، ليصبح أداة تشويه للمجتمع السوري”.

الفن السوري ينفرد بالرواية التسجيلية

ارتبطت الإنتاجات الفنية في العالم بظروف تاريخية، وكان لهذه الظروف ارتباط كبير بتغيير الأنماط والأساليب الفنية، كالفن المرتبط بالثورة الصناعية في القرن العشرين والثورة الفرنسية وغيرها.

وعلى سبيل المثال، لو نظرنا للتجربة الروائية، فهي إنتاج يتم تصنيفه أوروبيًا على أنه ارتبط بفترة البورجوازية، وكذلك السينما فهي إنتاج أمريكي ارتبط بصعود الطبقة الوسطى واحتلالها لمواقع ثقافية واجتماعية، وفي الحالة السورية وفي ظل الثورة أنتج كم كبير من الأعمال والتي يصح أن نسميها “توثيقية”، وأخذت أشكالًا جديدة كالرواية التسجيلية، والتي تعتقد الوزيرة هدايا أنه سيكون لها دور كبير في سوريا.

تقول هدايا “الفيلم التسجيلي والوثائقي موجودان من قبل، ولكن النكهة السورية الآن ستوجه الفن في سوريا وربما في الثقافة العربية في اتجاه جديد، باتجاه مخاطبة الإنسان بواقعه الحقيقي، وبواقع حياته ومعيشته وواقع معاناته”.

المظاهرات السورية

حركات فنية وأهازيج توحّد خطاب السوريين السياسي

إذا تكلمنا عن الفن في زمن الثورة يجدر بنا الإشارة أولًا إلى أعظم حدث سياسي وفني قام به السوريون، ألا وهو المظاهرات.. القاعدة التي انطلقت منها كل الفنون الثورية.

 “يلا إرحل يا بشار”، “جنة جنة جنة، جنة يا وطنا”، وغيرها الكثير من الأغاني لا يجهلها أي إنسان سوري، حتى أن القاشوش والساروت وأبو مالك الحموي، وعبد الوهاب الملا، وأبو الجود الحلبي، باتوا من الأسماء التي دخلت تاريخ سوريا الحديث.

الثورة السورية التي انطلقت في آذار 2011 لتنادي بالحرية وإسقاط نظام بشار الأسد، سرعان ما تطورت من مظاهرات طيارة واعتصامات أمام أفرع الأمن، وأخذت مع توسع رقعتها الجغرافية على امتداد المدن السورية شكلًا فنيًا محدثًا، لم يشبه أي نمط من الفنون التراثية التي عرفتها سوريا.

حملت هذه المظاهرات خطابًا سياسيًا ومطالب شعبية أجمع عليها السوريون، انطلاقًا من تسمية أيام الجمع التي كانت تنطلق فيها التظاهرات، إلى الهتافات التي كانت تتردد فيها واللافتات التي يحملها المتظاهرون.

تفجرت حناجر منشدين سوريين بأصوات خلدها التاريخ، لتقود جموعًا من الناس، مترافقه مع حركات بالأيدي بالتصفيق تارة أو بالتلويح، يتمايل معها الجميع بحركة متناغمة وروح واحدة. وأحيت هذه الأهازيج ألحانًا من التراث السوري، كما ابتكرت في بعض الأحيان ألحان جديدة ألفها هواة أو فنانون أفرزتهم الثورة ولمع نجمهم من خلال المظاهرات.

وكان لإبداع الرسامين في المظاهرات دور كبير، فبرز فن الكاريكاتير ليحتل موقعًا مهمًا في اللافتات، اشترك فيه مع الخطاطين والمبدعين من الناشطين الذين أغنوا اللافتات بأفكار لا تخلوا من روح الفكاهة، وربما كان المكتب الإعلامي في كفرنبل الأكثر شهرة في هذا النوع من الأنشطة بلوحاته وأفكاره، التي أخذت دورًا رائدًا في الثورة، وبات السوريون ينتظرونها كل أسبوع، كما بلغت حد توجيه الرسائل للمجتمعات الغربية ووسائل إعلامها للتأثير على الرأي العام لديها.

هل ما أنتجته الثورة فنًا أم ارتجالًا؟

يعتقد بعض النقاد والمتابعين لحال الفن في ظل الثورة، أن الثورة لم تفرز فنًا جديدًا، وإنما ما أنتجته من فنون متعلقة بالأدب أو التصوير أو الرسم يعد ارتجاليًا، لم يرتق بعد لدرجة الاحترافية، ويخلو من ابتكار أنماط جديدة.

الفن مرآة للمجتمع، تعكس واقع جيل في مرحلة ما، وتعكس ثقافته وتقاليده ما يمر به من أحداث تاريخية. فإذا كان تعاطي الفن مع مرحلة الثورة فاقدًا للشفافية ومرتبطًا بأهداف قد تخدم مشروعًا سياسيًا معينًا، أو كان موجهًا لتشكيل هوية وثقافة الإنسان بقالب معين، يفقد الفن قيمته ومصداقيته، ويخرج من إطار الإبداع الحقيقي ويصبح مستهلكًا، وربما ينطبق هذا على ما أُنتج خلال الثورة من أعمال فنية تحت إشراف مؤسسات الإعلام المُسيطر عليها من قبل النظام.

وعلى اعتبار أن ما يمر به المجتمع السوري اليوم، هو “مخاض” حقيقي يعيد بناء الذات، وتحديد الهوية السورية الجديدة، فإن الفن يكون من أهم ما يساهم في ذلك.

في هذا السياق تعتبر هدايا “أن الثورة السورية فتحت المجال واسعًا أمام إبداع فني جديد”، معتبرة الفترة التي تمر بها الثورة الآن مخاضًا لإنتاج فني “مذهل” ستقبل عليه البلاد.

لذلك يعتبر الكثير من المحللين أن سوريا في المرحلة الحالية تعيش مرحلة إبداع فني جديد، مرتبط بتجربة الواقع السوري المتمثل بالمآسي والتضحيات واللجوء، ونابع عن تجارب صادقة تصل للجمهور بشفافيتها دون مواربة أو تحريف أو تشويه.

هذه الأرضية، التي تنتج الفن حاليًا، مع وجود حجم ألم كبير يعاني منه الناس، تعتبر مؤججًا ومولدًا أساسيًا للفنون، وستكون أرضًا خصبة لولادة إرث فني ضخم، قد يكون له سبق في أنماط وقوالب جديدة، ربما تكون قد بدأت تتبلور في المرحلة الحالية.

وفي هذا الإطار، تقول وزيرة الثقافة، سماح هدايا، “انطلاقًا من اطلاعي على الكثير من الأدب الشبابي والكثير من التجارب، استمعت لسيدات وفتيات كتبن في القصة القصيرة والشعر، وكان لديهن الجرأة للخوض في وحشية الحرب وقسوتها، وهذه أمور كانت ربما لا تخوض فيها مسبقًا لأنها مواضيع موجعة”.

وترى هدايا “أن الثورة غيرت وجيشت المشاعر والوجدان والتفكير والرؤى والتجارب، وصار الفرد السوري يدرك أن له دورًا اجتماعيًا وسياسيًا يجب أن يقوم به”.

أغان ثورية وصلت شهرتها العالمية

الطريق الأقرب إلى القلوب، والرسالة الأصدق التي تنبع من القلب، هي الأغنية التي اختارها السوريون منذ انطلاق الثورة كوسيلة للتعبير عن احتجاجاتهم ومطالبهم بإسقاط النظام في مظاهراتهم، لاسيما أن فن الغناء متأصل في السوريين منذ القدم.

وأكثر الأسماء التي لمعت في الثورة السورية وحلت محل القيادات لهذا الحراك الشعبي (الذي لم يترأسه قائد محدد) كانت لمنشدي الثورة ممن قادوا المظاهرات، على رأسهم “حارس الثورة” عبد الباسط الساروت، و”قاشوش حماة” و”أبو مالك الحموي”، ثم الحلبيان عبد الوهاب الملا، و”أبو الجود”.

وكانت أغنية “يا حيف” للمغني سميح شقير ابن السويداء، التي أطلقها في بداية الحراك الشعبي تضامنًا مع درعا، مهد الاحتجاجات السورية، نالت شهرة واسعة. تزامنت معها أغنية الموسيقىر الحمصي مالك جندلي “وطني أنا”، التي أثارت النظام ودفعته لاقتحام منزله في حمص والتعرض لوالديه بالضرب.

عبد الباسط ساروت.. المنشد الأول

حارس نادي الكرامة السوري، ومنتخب سوريا للشباب، ومنشد الثورة الأول الذي ذاع صيته في كل الوطن العربي، حين تميز بإحياء المظاهرات بصوته الشجي وأغانيه التي لاقت صدًى كبيرًا عند الناس، أشهرها “جنة جنة جنة… جنة يا وطنا”.

كان الساورة يعتلي منصة “الليالي الثورية” ليحي أمسية في حي الخالدية الحمصي حيث يقطن، ترافقه الممثلة السورية فدوى سليمان، والتي تنتمي للطائفة العلوية، ليوصلا بوقوفهما سوية جنبًا إلى جنب في الاحتفالات الثورية السورية أكبر رسالة للنظام السوري، مفادها أن العلوي والسني وكافة مكونات الشعب السوري واحدة وترفض الطائفية، وليؤكدان على أن ثورة الشعب هي ضد نظام الأسد.

قاشوش حماة.. وسيمفونية “يلا إرحل يا بشار “

أخذت المظاهرات في حماة شكلًا فريدًا في الثورة السورية، وجذبت حشود “المليونية”، التي تكررت على مدى شهرين في أيام جمع متتالية في ساحة العاصي،  كل الأنظار إليها، حتى اقتحم جيش النظام المدينة مع بداية رمضان 2011 لينهي الحراك السلمي فيها.

كان المنشد الحموي الملقب بالقاشوش، أو المعروف بالرحماني، هو الرمز الأكبر في هذه الملحمة الوطنية، والحنجرة الأكثر شهرة، والذي أطلق أغان خلدها تاريخ الثورة بعفويتها وبساطتها، كان أشهرها “سوريا بدها حرية” و”يلا ارحل يا بشار”، والتي باتت رمزًا للاحتجاجات، وصلت شهرتها للعالمية، وخلدها الموسيقىر مالك جندلي بسمفونيته الشهيرة.

نال القاشوش من الشهرة ما جعل اسمه لقبًا يطلق على أي منشد في الثورة، حتى تاريخ اللحظة، ليقال قاشوش درعا، وقاشوش إدلب.. الخ.

القاشوش هو من يؤلف كلمات أغانيه البسيطة الشعبية، التي تحكي أهم الأحداث السياسية في وقتها، وتوجه النقد وتؤكد على مطالب الشعب، فشعر الناس حينها بصدقها وقربها من أحاسيس كل السوريين. وكان هو من يلحن هذه الأغاني، كما أكد مقربون منه لجريدة عنب بلدي، إذ كان الكثير من شباب حماة يتشاركون في تجهيز الاحتفال الثوري الأسبوعي، وبدعم مالي من التجار.

وبحسب مقربين منه “كانت جرأته على الظهور كاشفًا وجهه أمام الحشود، هي السبب الرئيسي في نيله هذه الشهرة العالمية”.

وعليه، أصبح القاشوش الهدف الأول للنظام عندما اقتحم جيشه مدينة حماة، وسرعان ما ذاع خبر قتله في القنوات الإعلامية، ونشرت صور لجثة مرمية عند نهر العاصي مقتلعة الحنجرة، اعتُقد أنها لمنشد الثورة السورية، ونال خبر مقتله شهرة جعتله موضع نقاش في أروقة الأمم المتحدة.

مطرب الثورة الحلبي “أبو الجود”

مع اقتحام جيش النظام لمدينة حماة، بدأت المظاهرات تكتسح أحياء حلب وجامعتها، وكانت الكلمة الأولى فيها للأهازيج والأغاني، فبرز مطرب الثورة الحلبي جهاد سقا “أبو الجود”، الذي لقب بمطرب الثورة.

وحول تلك الفترة، تحدث سقا لعنب بلدي قائلًا “نحن في حلب لا غنى لنا عن الطرب، وكان الوسيلة التي نعبر فيها عن مطالب ثورتنا، وكنت أغني في المظاهرات وكثيرًا ما كان يرافقني منشدون آخرون أبرزهم عبد الوهاب الملا”.

الشاب سقا، ليس له تجارب سابقة في الغناء، بل كان مجرد هاو يتقن العزف على آلتي البيانو والعود، ويشارك بها في الاحتفالات. وبعد انطلاق الثورة نشط السقا في الأعمال الفنية تمثيلًا وغناءً. يقول “لدي الآن سبعة أغان مكتوبة وملحنة، لحنتها بنفسي، من بينها الأغنية الثورية التي كنت أغنيها في المظاهرات، لكن لم أسجل هذه الأغاني في ألبوم حتى اللحظة لأنها بحاجة لتمويل، ينقصها التوزيع الموسيقي والعازفين، لتحصل على تسجيل احترافي”.

ويشير السقا إلى أن سوريا تمتلك الكثير من المواهب التي برزت في الثورة، من مطربين وملحنين وكتاب، لكن سرعان ما خسرتهم وهاجر معظمهم بسبب ضعف الإمكانيات المادية، وبسبب تمدد المتطرفين.

عبد الوهاب الملا.. وغدر داعش

لمع نجم عبد الوهاب الملا بعد دخول الجيش الحر لأحياء حلب، وانتقال الثورة إلى العسكرة.

كان ثائرًا بروح مرحة، محبوبًا في أوساطه، حلو المعشر خفيف الظل، لا يسكت عن حق، ينتقد الجميع، ويسلط سخريته على المسيئين من كل الفصائل مهما علت سطوتهم، حسبما يقول أصدقاءه والمقربون منه، حتى بدأ بإنتاج برامج ساخرة تركز على أخطاء الثورة، وتنتقد المسيئين نقدًا لاذعًا. يقول عنه زميلة جهاد سقا “كثيرًا ما كنت أنبهه من عواقب نقده العلني محذرًا إياه بأننا نعيش في غابة، لكنه لم يكن يخشى أحدًا”.

أنتج الملا عدة برامج تلفزيونية ناقدة وساخرة، أبرزها “ثورة 3 نجوم” الذي كان طاقمه من معدين ومقدمين ومخرجين نشطاء من حلب، وعرض على قنوات تلفزيونية ونال شهرة واسعة.

ومما تميز به برنامج “ثورة 3 نجوم” هو تناوله لقضايا فكرية وجدلية شائكة، كانت مثار جدل واسع في المناطق المحررة حينها، مع بداية دخول “المتطرفين” بقوة ومحاولة فرض فكرهم وعقيدتهم، وما كان له من أثر عميق في شق الصف بين الثوار. فاستطاع الملا دحض الكثير من حججهم بالرغم من البساطة المتناهية في تعاطيه معها، إلا أنها كانت تحمل حججًا قوية، ما جعله الهدف الأول لتنظيم “الدولة”.

وسجل الملا العديد من الأغاني الثورية، ولاقت صدًى كبيرًا بالرغم رغم بساطة إعدادها وتسيجلها.

وكانت نهاية الملا الاعتقال على يد تنظيم “الدولة” تشرين الثاني 2013، واقتياده إلى جهة مجهولة عندما غادر حلب، ولا يزال مجهول المصير حتى اللحظة.

ألبومات “أبو مالك الحموي” تتحول إلى أعمال فنية خالدة

أطرب الناشط أبو مالك الحموي، الحشود بصوته منذ بداية الثورة، واشتهر بالإنشاد خلال المظاهرات، ولا يزال يؤدي هذه الطقوس حتى اليوم، رغم انحسار مساحات المظاهرات.

اختارته إذاعة “هوا سمارت” المحلية لتسجل له ألبومًا غنائيًا، في خطوة لدعم فناني الثورة، وأنتجت ألبومها بداية العام 2015 ويضم مايقارب عشرة أغاني.

يقول عروة خليفة، أحد معديّ البرامج في الإذاعة، “كان تسجيل هذا الألبوم خطوة منا لدعم الفنانين السوريين الثورين، الذي نعتبره أحد أهداف إذاعتنا، وضم الألبوم أغانٍ للمنشد أبو أسامة الحموي أيضًا، بالإضافة إلى وجود أغنية مشتركة للمنشدَين سويةً”.

وكانت السمة الرئيسية لهذا الألبوم هي وصف حالة الشباب الثوار داخل سوريا، والحديث عن حياتهم وأمانيهم، كما وضح خليفة.

وتميزت جميع أغاني الألبوم بالجدية والحداثة عن تلك التي غناها سابقًا، وشارك في كتابة كلمات بعض منها شباب من الثوار، كما ذكر خليفة، وأضاف “سُجلت الأغاني في استوديو مختص في مدينة اسطنبول، كما تم تسجيل البعض منها في الأردن”.

يصف خليفة العمل بالاحترافي، وقال “إن تلحين الأغاني وإنتاجها تم من قبل موسيقيين محترفين، بالإضافة إلى مشاركة أبو مالك وآخرون في بعض الألحان”.

تحرر الأغنية الثورية من تزكية مخابرات النظام

قاسم جاموس: الفن يتغلب على الفقر

عندما انطلقت الثورة من درعا في آذار 2011 شعر الفنان قاسم جاموس الملقب (صدى حوران) أن الفرصة التي كان يحلم بها قد أزفت، فبدأ صوته يعلو في المظاهرات المطالبة بالحرية، غناء القصائد الثورية التي استمدت كلماتها من الثورة ومعانيها “السامية”، بمساعدة عدد من الشعراء الذين يحيطون به في بلدته “داعل”، وعدد من القرى المحيطة.

يقول جاموس “هناك مواهب كثيرة في مدينتي، لكن استثمارها وتطويرها لم يتوفر والأسباب كثيرة، منها عدم توفر مناخٍ يساعد هذه المواهب، وعدم وجود مقرٍ مخصصٍ لدعم هذه المواهب تتلقى فيه دروسًا حول كيفية الغناء وتعلم “النوتات” واستثمار الخامة الصوتية بالشكل الأمثل”.

وأضاف “أصوات الكثيرين رنانة ولهم شعبية عارمة وخامة أصواتهم تحكي ألمًا ووجعًا نعيشه كل يوم ولكن يؤسفني عدم اختيار الكلمة … الغناء لا تكتمل رسالته إلا عند اختيار الكلمة فهي الأساس للفنان”.

وبرأي جاموس، سوف يتطور الفن الثوري في الداخل وسيصبح في وضع “جيد جدًا”، لكن الفنان السوري في المناطق المحررة يحتاج إلى الدعم، وليس المقصود هنا المادة فحسب، بل تهيئة مناخ يطور نفسه، معاهد واستديوهات تسجيل، للاستفادة من الخامات الموجودة في عموم حوران.

وبحسب جاموس يعد تحرر الأغنية وكلماتها الثورية من سلطة النظام وأجهزته الأمنية من أهم إنجازات الثورة، ويقول “خلال الثورة نضج الفنان، وأصبح قادرًا على التعبير دون إرسال الأغنية للمخابرات لتزكيتها”.

قصيدة في خمس دقائق

يعتقد جاموس أن الفنان في المناطق المحررة يتمتع بالديناميكية كونه يعايش الحدث ومطلوب منه تقديم شيء فور تشكل المظاهرة أو غيرها من الفعاليات التي يراد فيها التعبير عن الرأي بطريقة فنية، فقبل مظاهرة بصرى الشام الأخيرة التي انطلقت خلال الهدنة منذ أيام، وتم دعوة كل النشطاء والإعلاميين والقادة العسكريين والمؤسسات والهيئات، لم يجهز الجاموس نفسه لمثل هذا الحدث، كما قال، وفي البداية رفض الغناء تخوفًا من عدم قبول الجماهير لما سيقدمه.

لكن “خلال خمسة دقائق كتب لي أحد الشعراء قصيدة تحكي الحدث، وكانت تشرح الموقف، ومن أبياتها (هدنة هدنة هدنة … الأسد دمر بلدنا) … (نحنا ارجعنا نتظاهر … بقلعة بصرى وعدنا)”.

فن يقهر الفقر

لا يعتبر جاموس ضيق الحال، والفقر الشديد الذي يقع فيه المواطنون في المناطق المحررة مبررًا لمنع أبنائهم من تعلم الفنون على اختلاف أنواعها، من غناء إلى المسرح والرسم، فهو يعتقد أن “الفن يتغلب على الفقر، والأهالي يشجعون أولادهم على فنون عديدة مثل الرسم والغناء، لأنه لا يكلف الفقير شيء سوى الاجتهاد، وهناك الكثيرون من الطبقة الفقيرة أولادهم مصانع للشعر، لما يمتازون به من بلاغة وسلاسة في نطق اللغة”.

فن الغناء من الفردي إلى الجماعي في المناطق المحررة

قاد تطور الحالة الفنية في مجال الغناء في المناطق المحررة خلال سنوات الثورة، لتأسيس فرق للغناء والإنشاد، وأخرى للرقص الشعبي والفلوكلور، وبدأت أعدادها تزيد مع توسع رقعة المناطق المحررة، وصارت هذه الفرق تقيم الحفلات والكرنفالات والمهرجانات، وتحيي الأعراس، ولكن ربما حد من انتشارها لاحقًا دخول الفكر “المتشدد”، إذ حارب كل تنظيم “الدولة” والتنظيمات “التكفيرية” كل هذه النشاطات عندما أدخلت فكر التحريم والتكفير، مما دفع بالفنانين إلى الهجرة، لا سيما بعد عمليات الاعتقال، واقتصرت مثل هذه الفعاليات على المناطق غير الخاضعة لسيطرة هذه الفصائل.

فرقة التراث الحلبي.. تأكيد على التراث الشعبي رغم الحرب

تأسست فرقة التراث الحلبي قبل الثورة بسنوات، وضمت فريقًا للرقص العربي وآخرًا للمولوية، وشاركت في الكثير من المهرجانات داخل سوريا وفي العديد من الدول العربية كما روى لعنب بلدي أحد أعضائها، عبد الرحمن مجوز.

وخسرت الفرقة الكثير من كوادرها بسبب القصف الشديد، فمنهم من قضى ومنهم من هاجر، وقال مجوز في هذا الصدد “كانت تتكون فرقتنا من 20 شخصًا، أصبحت الآن ثمانية فقط، ولكن من تبقى منها حافظ على كيان الفرقة وعملها، ومازلنا الآن نمارس نشاط فرقتنا في مدينة حلب”. مشيرًا إلى أن ممارسة الرقص وإحياء الحفلات ليست أكثر من هواية.

يرى مجوز أن ثبات الفرقة في أرضها ومزاولتها لفنها، “هي رسالة كبيرة للعالم، بعدم التخلي عن القضية التي اخترنا السير فيها منذ اندلاع الثورة، وبقاءنا وثباتنا حتى النصر”.

ويضيف أن الناس لم تفقد شغفها بالفن والتراث الشعبي، بالرغم من قسوة الحرب والظروف التي عاشوها، وإلى الآن مازالوا يملكون حب الحفلات والسهرات، ولكن ما يعيق إحياءها هو الخوف من التجمعات التي تكون دائما هدفًا لقصف النظام، ما حد من انتشارها.

“صيحة حرية”.. صرخة فن من وسط الحصار

منذ أيام الثورة الأولى انتفض الريف الدمشقي والغوطة نصرة لأهالي درعا، وانطلقت فيها المظاهرات التي سرعان ما أخذت شكل “المسائيات الثورية” التي يعلو فيها الغناء الدمشقي.

كانت فرقة “صدى الإمام” واحدة من فرق الإنشاد المعروفة في دمشق قبل الثورة بـ 15 عامًا، كانت تغني في احتفالات ليالي دمشق ومهرجاناتها وتشارك في إحياء الأعراس، كما لها نشاطًا خارج سوريا.

اختار الفريق الالتحاق بركب الثورة منذ انطلاقها، وحاول تجميع عناصره لينشئ ما عرف بفريق “صيحة حرية” في أيار 2011.

وبدأ عمل الفرقة بشكل سرّي مثل أي نشاط ثوري إعلامي. وقال عن تلك الفترة المنشد شادي الحسن، في حديث خاص لعنب بلدي، “أطلقنا أول عمل لنا (يا شهيد)، وكان عملنا سري للغاية بسبب الملاحقات الأمنية، وكنا نسوق لفكرة أن مؤسستنا تعمل من خارج سوريا”.

وأضاف الحسن “كانت أعمالنا تعرض في المسائيات الثورية، وكنت أنا وزملائي نحضرها، ولا يعلم أي إنسان أن إنتاجها قد تم في الغوطة، ولقد لاقت حينها صدى كبيرًا”.

بعد تحرير الغوطة الشرقية، أصبح عمل صيحة حرية كمؤسسة، واتخذت مقرًا لعملها، وبدأ إنتاجها الفني يتوالى، وفي ذلك، أشاد الحسن بعمل مؤسسته “التي بدأت تكبر”، وقال “كانت معداتنا متفرقة قبل تحرير الغوطة، ومباشرة بعد التحرير جمّعناها وبدأنا نعمل كمؤسسة إنتاج”.

“كان لنا السبق بأول مهرجان إنشادي على مستوى الثورة السورية (مهرجان ربيع الشهداء) الذي أقيم في حزيران 2013” وفق رواية الحسن، الذي اعتبر أن المهرجان لاقى صدى كبيرًا، وحظي بتغطية إعلامية ضخمة عرضت على عدة قنوات تلفزيونية، ولاقى أيضًا إقبالًا ضخمًا، واصفًا الجمهور بـ “الأعداد الكبيرة التي لم تتسع المقاعد لها”.

عروض لتنفيذ أعمال من خارج سوريا

بدأت أعمال الفريق تأخذ صدى إعلاميًا كبيرًا، وبدأت عروض تنفيذ أعمال لقنوات تلفزيونية خارج سوريا تقدم لهم.

يقول الحسن “طلبت منا قنوات تنفيذ عدة أعمال، وكان اختصاصنا موسيقى المقدمة لبرامج، أو الفواصل الموسيقية، كون امكانياتنا للصورة محدودة، ولا نملك التجهيزات والكاميرات وغيره”.

وأعقب الحسن “أنتجنا عدة أعمال لقناة شدا وقناة الوصال، كما ساهمنا بإنتاج أفلام وثائقية بالتعاون مع مؤسسات أخرى، مثل الفيلم الوثائقي بعنوان (قاتل الطفولة) بالتشارك مع مؤسسة شبكة مراسلي ريف دمشق، وفيلم (الموت القادم من قاسيون) والذي عرضته قناة أورينت الفضائية”.

يعتبر الحسن أن فريقه استطاع أن يثبت حرفية في العمل، كونه ينتج أعماله كاملة دون اقتباس، ابتداءً من وضع الكلمة إلى التلحين، انتقالًا إلى التوزيع والأداء، وأخيرًا النشر.

هكذا كان لفريق صيحة حرية بصمة في عمله ميزته عن غيره برأي الحسن، الذي قال “ولكن هذا لا يمنع من إحياء بعض الأناشيد القديمة التي يراها الدمشقيون تراثًا شعبيًا له رمزيته وذكراه، وكنا كل فترة من الزمن نعيد تسجيل هذه الأناشيد التراثية ونقدمها للناس بقالب جديد وتوزيع جديد، ما جعل الكثير من الجهات الخارجية تتواصل معنا وتطلب أعمالنا لعرضها على قنواتها”.

أوضح الحسن “كنا نحرص دائمًا أن نأتي بالجديد، وإنتاج (عمل ناجح) هو تحد صعب بحد ذاته، فالبحث عن الكلام الجميل والذي يصح للتلحين، والبحث عن اللحن العذب ليس بالمهمة السهلة”.

وعليه اعتبر الحسن أنهم نجحوا أخيرًا بوضع بصمة واضحة لهم، وأردف “القبول الذي نراه عند الناس، والكلام الذي نقرأه بعيونهم، يقول لنا بنا رسالتنا وصلت”.

مرحلة جديدة والعمل كمؤسسة إنتاج فني

اعتبر المنشد شادي الحسن أن مرحلةً وحقبةً جديدةً بدأت في عمل الفرق الإعلامية في الغوطة الشرقية، قبل سنة ونصف، إذ اتجه العمل إلى تضافر الجهود وتكاتف المؤسسات. فكوّن فريق “صيحة حرية” مؤسسة إنتاج فني تمتلك استوديو احترافي لإنتاج الصوت، أصبحت تستقطب بقية المؤسسات لإنتاج أفلام وثائقية أو تسجيل تقارير أو إشراف فني على أعمال من قبيل تنظيم مهرجانات أو مؤتمرات، وقال الحسن في هذا السياق “صرنا نقدم خدماتٍ واستشاراتٍ ودعمًا للمؤسسات الأخرى التي تعمل على الأرض، وهذا ما شكل ضغطًا كبيرًا علينا في حجم العمل، ما بين إنتاج العمل الخاص بمؤسستنا، والإشراف على الحفلات والتدريب، وتنفيذ أعمال المؤسسات الأخرى”.

أضاف الحسن “وصلنا لمرحلة ما عدنا قادرين على تغطية احتياجات الغوطة الشرقية، وبدأنا بالتفكير بإطلاق دورات تأهيل بالقريب، تعلم تقنيات إنتاج الصوت والتعامل معه، حتى نرتقي بالخبرات ونخفف ضغط العمل على فريقنا”.

إنتاج ضخم وتمويل ذاتي ضعيف

يموّل فريق صيحة حرية ذاتيًا حتى اللحظة، ويعتمد على الأجور التي يصفها الحسن بـ “الرمزية” والتي يتقاضاها الفريق لقاء أعماله، وهذا ما أدى إلى توقيف العمل عدة مرات، وقال “تعرض مقرنا للقصف المباشر خمس مرات، وبسبب عدم توفر الدعم، كان فريقنا يتوقف عن عمله لمدة شهر أو أكثر حتى يتمكن من ترميم المقر”. ولكن ومع الظروف القاسية التي عاشتها الغوطة من حصار وتجويع وقصف، يعتبر الحسن ما أنجزوه “نوعيًا” كمؤسسة، تشكلت وكبرت في ظل الحرب، وفي أكثر المناطق السورية معاناةً وألمًا.

 

شمعة وسط الظلام

بناء مسرح للأطفال في إدلب وتعليم الخط العربي

يعد مركز “بيت الحكمة” في أريحا بمحافظة إدلب من أهم المراكز الثقافية التعليمية التي تصقل الخبرات والمواهب السورية الشابة في مجالات عديدة، لكن القصف الذي تعرض له المبنى قبل فترة حال دون التوسع في نشاطات أخرى لتشمل مجالات عديدة كانت إدارة المركز تنوي العمل عليها مثل الندوات التثقيفية والشعرية.

ويتألف المركز من عدة أقسام، منها تأهيل وتدريب (بناء القدرات)، التدريب المهني، بناء مهارات اجتماعية، إدارة المؤسسات، قسم الإعلان، المكتب الإعلامي، أنشطة ثقافية، ويتبع للمركز المكتبات ودار القراءة والندوات الثقافية.

ويحاول المركز بناء شراكات ثقافية مع مختلف العاملين في المجالس الثقافية في المناطق المحررة، معرة النعمان، سراقب.

وقد أجرى المركز عدة ندوات سابقًا في مجالات عديدة، أبرزها حول نشوء الخط العربي ومراحل تطوره وفترة إزدهاره، وكذلك في الشعر، ويعاني المركز من إكمال هذه النشاطات بعد تضرر المبنى، إذ من المقرر الانتقال إلى مقر جديد في نيسان القادم.
وحول مدى اهتمام ومدى إقبال الأهالي على حضور منتديات ثقافية وأمسيات شعرية وغيرها، يقول المدير التنفيذي لمركز بيت الحكمة، ابراهيم تريسي، الوضع المادي للمواطنين صعب جدًا، “لا يمكننا التوجه لكل المجتمع بل لفئة معينة، نحاول التوجه للشباب لتأمين ندوات ودورات تأهيلية”، ويضيف “سنمضي في هذا المشروع في المقر الجديد لأننا مؤمنيين بهذا العمل كونه في صلب الثورة وهو أساسي للمجتمع … نواجه سؤال: من يلقي بالًا للثقافة في ظل الحرب؟ نحن نحاول تغيير وجهة النظر هذه، نقول للمواطنين هذا نوع من المقاومة والتحدي وهذا يوازي كل المجالات في الثورة كالمجال السياسي والعسكري، لأن مجتمع إن لم ينهض ثقافيًا لن ينهض بأي طريقة أخرى لا بالسلاح ولا السياسة، الثقافة هي ركيزة للنهوض”.

محاذير فنية!

تلاقي بعض الفنون، وخاصة الموسيقى، ممانعة من قبل بعض الجماعات التي ترى فيها نوعًا من التعلم “الحرام”، ما فرض على مركز بيت الحكمة نوعًا من الرقابة الذاتية لما هو مسموح وما هو ممنوع. وعن ذلك قال تريسي “نحن نضع المحاذير، نعرف أن هناك محظورات لا نخوض فيها، مثلًا لا نقيم ورشة للتدريب على عزف العود أو البيانو الموسيقى، بعض الجهات تعتقد أن الموسيقى من وجهة نظر شرعية حرام، هناك حساسية من قبل بعض الجماعات تجاهها”.

وحول الخطوات التي ينوي المركز القيام بها لتعزيز تعليم بعض الفنون للأطفال، قال تريسي “نخطط لافتتاح فرع آخر في إدلب المدينة، ونحن الآن بصدد التعاون مع مخرج مسرحي للأطفال لتأسيس مسرح للطفل في أريحا وإدلب، وهذا المشروع قائم وسنعمل به قريبًا”.

وحول التعاون مع وزارة الثقافة في الحكومة المؤقتة، قال “لم نتوجه لوزارة الثقافة لأنه ليس لدينا ثقة في الحكومة المؤقتة وهي ليست ممثلة للشعب السوري، نعتبرها بؤرة فساد غير مستعدين نتعامل معهم”.

التشكيل والكاريكاتير والرسم على الجدران (الغرافيتي)

دخول العسكرة والتشدد قيّدا فكر الثورة

يعد رسام الكاريكاتير علي فرزات من الفنانين القلة الذين تجرأوا على النظام، ووجهوا ريشتهم ضده منذ بداية الثورة. وقد دفع ضريبة وقوفه إلى جانب الثورة، بعدما تعرض لاعتداء وضح النهار في آب 2011، حين تم خطفه وضربه ضربًا مبرحًا، أدى إلى تكسير أصابعه ونقله إلى المستشفى، ما أوصل رسالة تهديد إلى كافة فناني سوريا تحذرهم من استخدام فنّهم لدعم الحراك الثوري، أو تحريض الشارع ضد النظام.

ولم يمنع هذا استمرار الحركة الفنية، بل ساهم في بروز أسماء جديدة تعبر عن واقع المرحلة، وتوصف بالقيمة، بحسب فنانين واكبوا تلك المرحلة.

خالد قطاع – فنان كاريكاتير سوري

يصف رسام الكاريكاتير السوري خالد قطاع، الأعمال الفنية في ظل الثورة بـ “القيّمة”، ويؤكد على أن الفن ارتبط بالحراك المدني، “وهذا ما وجدناه في بداية الثورة، فقد ظهرت أعمال فنية قيّمة ومواكبة للحدث قدمها هواة بينما الفنانون المحترفون تردد أغلبهم في الانضمام للثورة، بالتالي لم يكن هنالك أعمال تعبر عن الشعب ومعاناته وآماله بشكل احترافي”.

ومع سعي النظام الحثيث لعسكرة الثورة، أصاب الحراك المدني ضعف، وعطّل العقل والإبداع لصالح السلاحن فعلا صوته على باقي الأصوات، بالإضافة لظهور طبقة المعارضة السياسية لم تلقِ بالًا لأهمية الفن وقدرته على إيصال رسالة الثورة وتوسيع قاعدتها الشعبية. ويضيف قطاع قائلًا “القوتين العسكرية والسياسية تحكمتا في الموارد المالية المقدمة للثورة مبتعدة عن تقديم أي دعم يذكر للأعمال الفنية”.

وبحسب قطاع “لعب الفكر المتشدد دورًا كبيرًا في تحجيم وإضعاف الأعمال الفنية لتطرح أعمالًا تتماشى مع رؤاها لكنها ضعيفة وهزيلة من حيث الجودة الفنية والاحتراف التقني”.

غياب العمل الجماعي يشتت الجهود

إضافة إلى ذلك، ساهم غياب العمل الجماعي في زيادة مشكلات العمل الفني وتشتيت الجهود، ليس فقط في مجال الرسم الكاريكاتوري بل في مختلف مجالات الفنون، فالأعمال الفردية ورغم تميزها، لو كانت أعمالًا جماعية لوجدت صدى أكبر في الثورة، كما يقول رسام الكاريكاتير والصحفي السوري علي حمرة، الذي يرى أن مباردة الفنانين بعد انطلاق الثورة كانت مبادرات فردية لمناصرة الحق والمظلومين، “ولم يكن للفن منصة أو أرضية صلبة لدعمه واستمرار انتاجه، ما أدى إلى الفقر في الإنتاج الفني الثوري”.

النظام يوظف الفن والمعارضة تهمله

لم يوظف سلاح الفن في الثورة كما يجب حتى هذه اللحظة، برأي قطاع، عكس النظام السوري، الذي يدعم الإنتاج الفني “لمعرفته بأهمية هذا السلاح”، بينما القائمون على الثورة مازالوا يتعاملون مع الأعمال الفنية كنوع من الترف الذي لم يحن وقت النهوض به “للأسف”، على حد تعبيره.

علي حمرة – صفحي ورسام كاريكاتير سوري

تحرر الرسم من قيود “البعث”

لا يمكن المقارنة بين سقف الحرية الذي ارتفع خلال الثورة، وما أتاحه للفنان السوري، بما كان عليه قبل الثورة في ظل حكم البعث، إذ ساهم مناخ الحرية في منح الفنان مساحة أكبر يتحرك فيها، وبالتالي طرح مواضيع وأفكار جديدة ما كان يسمح له من قبل بالتطرق إليها، فالفنان تحرر من “سلطة القمع” وفق ما يرى علي حمرة، ويعتبر أن الفن الثوري كان صادقًا وقويًا، عبر عن حال المجتمع وحمل همومه ومشاكله وأوصلها للعالم باحترافية ومهنية عالية، وقال “عندما يمتلك الفنان الحرية يظهر إبداعه على طبيعته، ولا يكون إبداعًا متنكرًا بأدوات وحيل فنية”.

اغتراب الفنان عن مجتمعه يحجم فنه

تبقى مشكلة الفنان السوري الجوهرية هي اغترابه وعدم وجود الأرضية السليمة لعمله، من وجهة نظر الفنان والصحفي حمرة، “الفنان السوري مغترب ويعيش في المنفى، أي أنه لا يعيش في مجتمعه الفني الحقيقي، سواء كان داخل سوريا أو خارجها”.

مشيرًا إلى أن عدم الاستقرار أثر على الفن كغيره، وهو ما ينعكس على الإنتاج أيضًا.

ويتوافق مع هذا الرأي فنانو الداخل ممن تواصلت معهم عنب بلدي، إذ يرون أن عامل الأمان هو البيئة الأهم لعمل الفنان لا سيما الرسام.

رسام حوران: الألم يولد فنًا وإبداعًا

لم ينقص الإبداع عند الفنان السوري في ظل الحرب والمآسي، بل على العكس شكل الألم والمعاناة “مادة حية” ودافعًا لتولد الإبداع، الألم السوري الذي توزع على العالم ولّد فنونًا سادت العالم، وتجلت هذه الصورة بشكل واضح في بلدان اللجوء وفي الداخل حيث الموت الذي يخيم طوال الليل والنهار.

يقول أسامة المحمد الملقب (رسام حوران) “الألم السوري يتوزع على العالم بأسره، وهو ما ولد الإبداع”، ويستدرك “لكن ما ينقصنا لحظات أمان”.

يروي المحمد أنّ كل ما عاشه في الحرب وكل ما رآه من مآس كانت تولد الأفكار لديه، تمامًا كما كان يستوحي أفكار رسوماته قبل الثورة من الفقر والبؤس الذي شاع في بلده، فالإبداع والموهبة برأيه ليس إلا “امتلاك القدرة على رؤية البعد الثالث”.

يضيف “دائمًا لدي الكثير من الأفكار، لكن الظروف لا تسمح لي، حارتي التي أسكنها الآن قُصفت بـ 25 برميلًا، ومنزلي الذي أسكنه هو الخامس، بعد أربع عمليات نزوح سابقًا”.

ويساهم غياب أبرز مقومات الحياة في منطقة المحمد في عدم استقرار حالته وتتالي رسوماته بشكل دوري، ومن الممكن أن يمر عليه شهر أو شهرين حتى يتمكن من رسم فكرة تولدت في رأسه، فلا مقومات الحياة اليومية متواجدة، ولا أقل شعور بالراحة والسكينة متوفرتين ليتمكن من إمساك ريشته والرسم، “يتضح لمن يرى رسوماتي أن هناك خطوطًا لست متمكنًا منها … هناك رجفة في يدي، والخوف واضح على خطوطي”.

زخم فني في أول الثورة تراجع مع اشتداد الحرب

منذ بداية الثورة اتجه الرسامون للتخطيط والرسم على اللافتات، وبالرغم من الحذر الشديد بسبب الملاحقات الأمنية إلا أن إقبال الرسامين في درعا على الرسم كان زخمًا.

روى الرسام المحمد والملقب بـ “رسام حوران” تجربته في بداية الثورة، عندما كان يعمد إلى تغيير أسلوب الرسم كي لا يتم التعرف عليه، لأنه كان معروفًا في المركز الثقافي من كثرة مشاركاته الفنية”.

وكان الرسامون في درعا يسعون للتواصل مع بعضهم ليشكلوا “مجموعة شباب درعا”، سعيًا منهم لتنسيق العمل على المستوى الجماعي، ولكن الظروف فيما بعد أعاقتهم كثيرًا، حيث كان القصف والتهجير والقتل، حتى شبكة الإنترنت التي كانت من الممكن أن تجمعهم، ولو افتراضيًا، لم تكن متوفرة في الكثير من الأحيان.

عتب على وسائل الإعلام

يعتب المحمد على وسائل الإعلام المحلية، ويعتبرها غير مهتمة بالفن، فمنذ بداية الثورة وحتى الآن لا يوجد وسائل إعلام ولا جهات داعمة للفن الثوري، توفر له المنصة التي تعرض الأعمال الفنية في المناطق المحررة، فعلى سبيل المثال “رسام حوران” أنتج أفلامًا كاريكاتيرية قصيرة جدًا، لكنها لم تر النور حتى اللحظة، لأنه بحاجة للدبلجة والمونتاج، على حد قوله.

وحاول رسامو درعا منذ بداية الثورة إنشاء مجلة محلية، لكن حالت الظروف دون ذلك، ولم يكن لديهم خيار عرض أعمالهم إلا على صفحات الإنترنت، وكانت ضعيفة بسبب ندرة توفر الإنترنت لديهم.

الرسم “ما بطعمي خبز”

كحال غيرهم من أصحاب الكفاءات والحرف الفنية والمهنية، ضاق الفنانون ذرعًا بالعوامل المادية، فالمردود المادي الذي يأتي من العمل الفني لا يكفي نفقات المعيشة للفنانين وغيرهم، ممن لا زالوا يعيشون داخل سوريا المحررة، إذ يضطر الرسامون حاليًا للعمل في مجالات عدة لكسب الرزق، فمثلًا “رسام حوران” يعمل مدرسًا للغة العربية في إحدى المدارس، لأنه يحمل شهادة أدب عربي، أما الرسم فكان هواية يمارسها.

وبالرغم من عدم تفرغه لممارسة فنه، إلا أنه لا يستطيع الإبتعاد عنه، يستدرك “قبل الثورة، لم يكن يمر علي يوم إلا وأرسم، ولم أنقطع بحياتي عن الرسم، حتى اللحظة لا يمكنني التوقف عن الرسم، فحصتي لمادة اللغة العربية في المدرسة، أخصص خمس دقائق منها للرسم دائمًا، كما أنني أقوم بتدريب الأطفال على الرسم بدروس خاصة بعد انتهاء الدوام المدرسي، وأدرك ما للرسم من تأثير نفسي رائع على هؤلاء الأطفال”.

مجلة أكرم رسلان.. تغطية أحداث الثورة برسوم الكاريكاتير

العدد (0) من ملحق أكرم رسلان الكاريكاتوري

مع تغييب الفنان السوري أكرم رسلان في سجون النظام السوري عندما اعتقل العام 2012 على خلفية رسم كاريكاتوري ضد النظام السوري، ولدت فكرة تأسيس مطبوعة تحمل اسمه وتمثل فنه، من أجل لفت انتباه العالم لقضية رسلان وقضية المعتقلين السوريين في سجون النظام. فتداعى عدد من رسامي الكاريكاتير السوريين لبحث فكرة تأسيس مجلة “أكرم رسلان”، سرعان ما أصبحت حقيقة بين يدي القراء بعد تداول معلومات عن استشهاده تحت التعذيب العام 2013.

المجلة التي صدر منها ثلاثة أعداد حتى الآن، تصدر حاليًا وبشكل مؤقت على شكل ملحق شهري مع جريدة سوريتنا لمدة ستة أعداد، كما يقول رئيس التحرير جوان زيرو.

وجاء إصدار المجلة “حباً بسوريا واحتراماً للثورة وتقديراً للفنان السوري المُغيب في سجون نظام الأسد منذ تشرين الأول عام 2012 “أكرم رسلان”.

يضيف زيرو “عندما علمنا باستشهاد الفنان رسلان أصدرنا المجلة، وهدفنا الأساسي الاقتراب من الناس وتمثيل الثورة بالرسوم الكاريكاتورية والتعبير عن رأي الشارع السوري بعيدًا عن التحيزات، كوننا مستقلين عن أي جهة”.

تسعى المجلة لاستقطاب رسومات من فنانين عرب وأجانب بشكل تطوعي، وتعد بمثابة “أرشيف للثورة” وفق زيرو، وهدفها توصيل الأحداث للجمهور عبر رسوم الكاريكتير، بحيث يحتوي كل عدد تقريبًا على 15 لوحة.

ويعتبر الفنان السوري أكرم رسلان من أهم الفنانيين السوريين الذين جسدوا الثورة السورية بحوالي 300 عمل فني قبل استشهاده، وهو من مواليد عام 1974، في مدينة صوران بحماة، وخريج عام 1996، كلية الآداب جامعة دمشق، قسم المكتبات، وعمل في صحف عربية وسورية.

فنانوا الغوطة يحوّلون أدوات الموت إلى تحفٍ فنيةٍ

“رح ضل مستمر بهالعمل حتى تنجح الثورة، وإقدر مثّل الغوطة بمعارض في كل بلدان العالم، وورجي الناس الأسلحة اللي كان يقصفنا فيه”.

أبو علي الدوماني، من الغوطة الشرقية، كان يعمل في الرخام والسيراميك والإكساء منذ ثلاثين عامًا، والمفعمٌ بالفن بطبيعته، يهوى الآن جمع “فوارغ” ومخلفات القصف.

بدأ الرجل بجمع فوارغ الرصاص، ثم انتقل لمخلفات قذائف الهاون، وكلما اشتد القصف وتغيرت أسالبيه كان يواكب هذا التغير ويقتني مخلفات الأسلحة الجديدة.

صار الأطفال والكبار من بلدته يحضرون له المخلفات، حتى أصبح بحاجة إلى مستودع لجمعها وحفظها، وبالنظر لهذا المستودع يدرك الإنسان أنواع الأسلحة التي استخدمت بقصف دوما، وتطورها مع الزمن.

يقول الدوماني لعنب بلدي مفتخرًا بأعماله الفنية، وبعد أن انتهى للتو من تحويل قذيفة هاون إلى مزهرية بألوان مزركشة “إبداعي هو باستخدامي لمواد وظيفتها فقط القتل، صنعت منها فنًا، وحولتها لتحف فنية”.

ظروف عمل من “العصر الحجري”

يعمل الدوماني ضمن إمكانيات تكاد تكون “معدومة”، فهذه الصناعة تحتاج لمواد لاصقة ولحام وغيره، “نحن في الغوطة نعمل بإمكانيات وظروف تعتبر من العصر الحجري، فلا كهرباء ولا محروقات”.

وقد لاقت أعمال الدوماني صدى كبيرًا في الغوطة الشرقية، ورسمت البسمة على وجوه الناس، وهذا ما جعله يستمر بعمله، يقول “طالما القصف مستمر، فإن المواد الأولية لعملي موجودة باستمرار، وسأكمل عملي ولن أتوقف حتى تنجح الثورة”.

وعلى حد قوله، أكثر فكرة أعجبت الناس من أعماله هي “ألعاب الأطفال في العيد” حيث صمم “دويخة ومراجيح”، وهي ألعاب معروفة عند الأطفال السوريين، وقد لاقت هذه الأعمال صدىً وصنعت بهجةً “كبيرةً”، وبالنسبة له يعتبرها “إنجازًا عظيمًا” أدخل الفرحة للأطفال المحرومين منها.

فن يُستوحى من البيوت الدمشقية مادته الأوليةالقذائف والصواريخ

منذ بداية الثورة، كانت تجول في بال الشاب أكرم سويدان الملقب “أبو الفوز”، من الغوطة الشرقية، فكرة اقتناء أو جمع بعض من آثار الحرب، ليصنع في أحد زوايا منزله “تحفة” لعرضها، لتبقى ذاكرة الثورة والحرب جزْءًا من حياته.

بدأ سويدان مزاولة مهنة الرسم منذ صغره، واستمر بممارسته إلى جانب عمله الأساسي في إكساء المنازل والديكور، يقول “الرسم موهبة منحني إياها الله عزّ وجلّ، ولم أدرس أساسياته أو قواعده إطلاقًا، بدأت بالرسم بالفحم ومن ثم انتقلت إلى الزخارف والشرقيات، ثم انتقلت إلى الرسم على الزجاج”.

يعشق أبو الفوز البيوت الدمشقية ويستوحي منها أفكاره، وأغلب أعماله ورسوماته يعرضها في منزله، لأنه “لا يحب الظهور” كما يصف نفسه، ويتحدث عن فنه قائلًا “تقنية الفن التي أستخدمها عبارة عن زخارف ونقوش إسلامية تضم الكثير من أنواع الرسم فمنها العثماني ومنها الدمشقي ومنها الفارسي ومنها الروماني”، ولا يُعنى أبو الفوز خلال رسمه بتحديد نوع الرسم، فهو يرسم ما يجعل القطعة جميلة ويعطيها رونقًا، على حد وصفه.

“نحن شعب يصنع الحياة ويحب السلام ولسنا إرهابيون كما يصفنا النظام، وستبقى أعمالي شاهد على العصر للأجيال القادمة”، يقول أبو الفوز.

ونتيجة لتفرد منتجات سويدان، وإبرازها الموهبة الكبيرة التي يتمتع بها، أُقيمت لأعماله معارض في دول عديدة، شارك بها صحفيون ناشطون لفتهم فنه، وكانت صور أعماله تعرض أمام البيت الأبيض، وفي دولة قطر، وداخل مبنى الأمم المتحدة، في حين لم يغادر هو الغوطة الشرقية منذ اندلاع الثورة. وفي المقابل، صُمدت أعمال سويدان في “فاترينة” بيته، متحديةً القصف وصعوبات العيش في في أكثر بقعة خطورة في العالم.

 رسائل على جدران بنش

الفنان عبد العزيز الأسمر، (43 عامًا) عسكري وفنان، من سكان مدينة بنش في إدلب، يتخذ من الجداران المهدمة والأسقف التي سقطت فوق المواطنين بسبب القصف منصات لرسومات وعبارات من روح الثورة، وبعد 20 عامًا من الغربة قضاها في لبنان يعمل في إحدى دور النشر، عاد عبد العزيز ليعيش الثورة ويعبر عما يجول في داخله بالفن، كما يقول لعنب بلدي.

“خلال سنوات الثورة الخمسة كنت خارج الضيعة، وعندما عدت شعرت بالتقصير ورغبت في تقديم شيء للثورة ضمن إمكانياتي المتاحة، وأحببت المشاركة في الخط والرسم”.

يقول عبد العزيز إنه يحاول عبر الفن إيصال رسائل عديدة، منها للداخل ومنها للخارج، ليؤكد على استمرار الثورة من أجل تحقيق أهدافها، ولإثبات أن الشعب السوري صاحب قضية.

ويريد عبر الرسم أن يوصل رسالة أيضًا إلى أهالي الشهداء ليقول لهم “لن ننسى أولادكم، ماتوا وأعمارهم صغيرة لكنهم كبار بيننا الآن”.

لا يرى عبد العزيز في البيوت المهدمة والأنقاض إلا أرواحًا تحس وتشعر وربما تنطق، ويحاول أن يحاكيها بالرسم علها تعود وتنبض بالحياة، وذلك عبر رسومات تعبر عن الثورة وأحلام السوريين في بلد حر مستقل.

رسومات كفرنبل الشهيرة

شكلت الرسومات في مدينة كفرنبل، شهرة عالمية، وعبّرت بالمواضيع التي تطرق إليها الرسامين عن الحال السياسي والعسكري الذي تمر به سوريا، يقول رائد فارس، مدير المكتب الإعلامي ومدير راديو فريش، “تأسس مكتب كفرنبل مع أول مظاهرة في الأول من نيسان 2011، وكان يعمل فيه طاقمًا كاملًا من خطاط ورسام ومترجم للغة الإنكليزية، وأنا من كان يضع الأفكار”.

وأردف “كان خطابنا في اللوحات التي حازت شهرةً كبيرةً، موجهًا بالمجمل إلى المتلقي الغربي، وبالرغم من كتابتنا لبعض اللوحات باللغة العربية، إلا أننا شعرنا بتقصيرنا تجاه حاضتنا الشعبية الأساسية، وهي الشعب السوري في الداخل، وعليه قررنا تأسيس إذاعة فريش التي كانت وسيلة الخطاب الموجهة للداخل”.

 

دراما خجولة.. لم ترق لمستوى الثورة.. من المسؤول؟

غياب النخب والكوادر الفنية وشركات الإنتاج قيّد العمل الدرامي لصالح النظام

قليلة هي الأعمال الفنية “الدرامية” التي صورت داخل سوريا لتعبر عن الثورة، باستثناء بعض التجارب الفردية التي ساهمت إلى حد ما في توصيف الواقع السوري في المناطق المحررة، وعبرت بصدق عن أمنيات الشارع السوري وتطلعاته.

وتعتبر الفنانة يارا صبري أنه “لم ينتج عمل فني محترف حتى اللحظة يحكي عن الثورة أو على الأقل، لم ينتج ما يعبر عن المرحلة الماضية بصدق دون مواربة”.

يارا صبري

وتقول صبري لعنب بلدي “إن هناك إنتاجًا لما يسمى فن الثورة بعضه يعتبر على مستوى جيد، والبعض مازال يبحث عن طريقة أو أسلوب”.

ولم يمنع القصف والدمار الناشطين، أو حتى الفنانين “الثوريين”، من التصوير في الداخل السوري، وقدموا أعمالًا تحكي عن واقع الحياة “المرير” في الداخل، لكن ربما افتقدت هذه الأعمال “الحرفية في الأداء”، ولم تتوفر لها نهائيًا الإمكانيات اللازمة، لو بأقل الحدود.

وكانت هذه الأعمال قليلة، وربما حد من كثرتها، إضافة إلى الوضع الأمني، انتشار المتطرفين، مما جعلها تقتصر على مناطق الجيش الحر، ولكن برأي جهاد سقا، الناشط والممثل الحلبي، يوجد الكثير من المواهب في الداخل، لكن بسبب عدم دعمهم، وعدم وجود حاضنة تجمعهم، اضطر غالبيتهم للهجرة.

ويعقب سقا، أفرزت سوريا مواهب مماثلة للمواهب الموجودة قبل الثورة، بل وتفوقها، واعتبر في حديثه “أن هناك كفاءات قادرة على إدارة أكبر مؤسسة يديرها النظام حاليًا، ولكن العائق هو المادة”.

ومقارنًة بين ظروف العمل في مناطق النظام وفي المناطق المحررة “هم يملكون الأريحية في العمل، ويتوفر لديهم الدعم المفتوح، وبالرغم من ذلك أعمالهم فقدت شعبيتها بسبب فقدانهم الحاضنة”.

ويعتبر مسلسل “أم عبدو الحلبية” أول مسلسل صوّر في الداخل السوري يعكس الحياة الحلبية في المناطق المحررة، مثل الأطفال دور البطولة، وتم التصوير في أجواء صعبة متزامنة مع القصف.

ويعد مسلسل “وجوه وأماكن” للمخرج هيثم حقي والذي صور في مدينة مرسين التركية، ويتألف من ثلاثة أجزاء مدة الواحد منها عشرة حلقات، أول مسلسل سوري يوصف الحالة السورية، ويصور في الخارج، ويضم نخبة من الفنانين السوريين المعارضين للنظام والذين أرادوا تصوير الأحداث في سوريا من وجهة نظر مختلفة.

إضافة إلى ذلك ظهرت الكثير من الأعمال الفنية (stand up comedy) والتي وجدت من يوتيوب ووسائل الواصل الاجتماعي منصة للتوجه إلى الجمهور، وغالبًا ما تناولت الواقع السوري والمشاكل الاجتماعية التي يعيشونها في الداخل والخارج، وكذلك تناولت أهداف الثورة وتطلعات الشعب عبر اسكتشات فنية.

أعمال الداخل تتكفل بانتقاد أخطاء الثورة

كما انتفض الفنانون ضد النظام، وعبروا عن مطالب الشعب بمختلف أنواع الفنون، استعمل هؤلاء الفنانون ايضًا فنهم بتسليط الضوء على الأخطاء التي ارتكبت باسم الثورة وأساءت بشكل كبير، بلغ حد التأثير على الحاضنة الشعبية للثورة.

ويرى “رسام حوران” أن الفنانين المتواجدين في الداخل هم أكثر من تجرأ على انتقاد الثورة، في حين لم يتطرق لها فنانوا الخارج، يقول رسام حوران “هناك وجع عند الناس…. ولم أرى هذا الوجع في أعمال فناني الخارج”.

ربما لاعتقاد فنانوا الخارج أنهم لا يملكون حق النقد، لا سيما مع ترسخ الشرخ الكبير بين معارضي الداخل والخارج، وتبني فكرة “عدم الأحقية لمن في الخارج بنقد الثورة” عند بعض معارضي الداخل، والتي لا يتوافق معها رسام حوران.

وكان “تجمع شباب سراقب” من التجمعات الثورية التي أنتجت أعمالًا قصيرة ناقدة، قد يصح تسميتها (اسكتشات)، تطرقت فيها إلى بعض العيوب التي ظهرت في الثورة.

من أجل الاستمرار.. اندماج أبرز فرقتين للتمثيل في حلب

بالتوازي مع الأعمال الدرامية، ظهرت فرق عديدة للتمثيل، منها من قدّمت أعمالًا تصلح للعرض على القنوات العالمية ومنها من قدمت تجارب “خجولة” لاعتبارات كثيرة، منها قلة الدعم، والحالة الأمنية بشكل عام. ففي حلب ظهرت على سبيل المثال “فرقة حارة” مع الممثل جهاد سقا الذي اشتهر أول الثورة بوصف “منشد الثورة”، صورت الفرقة اسكتشات صغيرة اسمها “موهيك” وسجلت بعض الأغاني، وفي ذات الفترة التقى “فريق حارة” مع “فريق ريشة حرة” والتي كان من أعضائها يامن نور، الممثل الحلبي الذي اشتهر أيضًا خلال الثورة بالرسم على الجدران.

توحّد هذان الفريقان وشكلا “فريق وتر”، وفق ما يقول جهاد سقا لعنب بلدي، “مثل هذا الفريق العديد من المسلسلات والتي نال البعض منها شهرة كبيرة مثل منع في سوريا بجزئه الثاني”.

وكانت هناك فرقًا أنتجت أعمالًا خاصة بالأطفال، مثل فريق “فضائيات بكرة أحلى”، الذي أنتج مسلسلات خاصة بالأطفال، وتشارك مع “فريق وتر” ببعض الأعمال مثل “منع في سوريا”، الجزء الأول، و”أم عبدو الحلبية”، الجزء الأول.

محاولات فنية من لا شيء.. فرقة طريق الخبز

يعتبر سلمان الإبراهيم، مخرج في فرقة “طريق الخبز”، أنه “من الصعب اعتبار ما تم تقديمه في منطقتنا في إطار الفن المتعارف عليه، ففي هذا الواقع الصعب غاب معظم متصدري الساحة الفنية في سوريا قبل الثورة، حتى الذين تبنوا الثورة وانتموا لها غادر معظمهم إلى الدول المجاورة ودول اللجوء”.

وبحسب رأيه “حاليًا لا يوجد فن في الأراضي المحررة، هناك بعض المحاولات التي نجحت أو فشلت ولكن مجرد المحاولة في هذا الواقع هو نجاح”.

لكن، لهذا الواقع الفني والحالة التي وصل إليها مبررات كثيرة، أبرزها غياب الكوادر البشرية المهتمة والعاملة في هذا المجال، وحداثة التجربة للكثير من الشبان الذين أرادوا ان يسهموا به، وكذلك ضعف الإمكانات المادية، وغياب الأدوات والوسائل المساعدة على إنتاج الأعمال، وبحسب الإبراهيم “لا يوجد مسارح ولا تجهيزات كل شيء يبدأ هنا من الصفر”.

أعضاء فرقة طريق الخبز

وإضافة إلى ما سبق يبقى رفض بعض القوى على الأرض للأعمال الفنية والتضيق على العامين فيه من أهم العقبات التي تعترض الفن السوري في المناطق المحررة.

فنان بالهواية

علاقة غريبة تربط بين الإبراهيم والمسرح، فهو لا يعتبر نفسه فنانًا وكل ما يشعر به متجه نحو خشبة المسرح هي لحظة “الصدق المطلق”، كما يقول، وبالنسبة له يحاول أن يمتلك مع باقي عناصر الفرقة الأدوات الفنية التي تمكنهم من تقديم عمل مسرحي يحاكي الواقع ويغازله بصورة فنية وجمالية ممتعة.

يقول “لا ندرك السبب الحقيقي وراء هذه المغامرة سوى رغبتنا بالتأثير في مجتمعنا بشكل فعال، وأن نترك وثيقة فنية للتاريخ تعبر عن هذه المرحلة التي نمر فيها، هذا أكثر ما شعرنا به في العمل الأخير (حفلة عربية من أجل الحرية) في 25 كانون الأول الماضي”.

الفن كمحرك اجتماعي

يعتبر المخرج في فرقة طريق الخبز، أن الثورات وحالات التغيير الاجتماعي والسياسي، لابد أن تستحضر محركًا عاطفيًا يلتزم بالقضايا الجوهرية التي تسكن وجدان الشعب، وهنا يبرز دور الفن، فهو يعتقد أن “ثورة بلا فن لا تستحق الوجود”.

وما يميز الثورة السورية أن “التأثير الفني” بدا بشكل واضح وجلي منذ البداية من أغاني “يا حيف” لسميح شقير، إلى وصفي المعصراني ومالك جندلي والعديد من التجارب الفنية لمجموعات من الشبان، وهذا ما مكن الحراك من التطور وأعطاه بعدًا وجدانيًا لدى معظم الشباب.

 الصراعات الطائفية تضيع بوصلة الثورة

أمام الشحن الطائفي، ومشاركة الميليشيات الطائفية في القتال إلى جانب النظام، طفت على السطح الصراعات المختلفة (الدينية والعرقية والطائفية)، وهو ما أدى إلى تعثر الثورة، وفق وصف الإبراهيم.

وزاد في ذلك، أن هذه الصراعات أفقدت الثورة بوصلتها الحقيقية نحو التحرر وبناء مجتمع يقوم على العدالة والمساواة، وانعكس على الفن وكان واضحًا وجليًا، وعليه تراجعت الأعمال الفنية كما ونوعا . و”هذا لا يعني النهاية فالفن بمختلف مجالاته يحتاج لفترات زمنية لينضج ويواكب مسيرة التغيير التي تطرأ على المجتمع”.

 

الكوميديا السوداء تقتحم الفن الثوري

يامن نور – مسلسل منع في سوريا

“بقعة ضوء” الثوار

يقول جهاد سقا إن مسلسل “منع في سوريا”، والذي يطلق عليه اسم “بقعة ضوء الثورة”، حظي بشهرة كبيرة وحقق أكثر من مليون مشاهدة على يوتيوب، “كان لدينا متابعين مؤيدين للنظام، شاركوا حلقات المسلسل على حساباتهم في فيسبوك، وأثار المسلسل الكثير من الجدل بينهم، حتى أن المؤيدين أصبح لسان حالهم (ها قد ظهر مسلسل بقعة ضوء الثوار)”، كما قال سقا، الذي اعتبر أن مسلسل بقعة ضوء الحقيقي فقد شعبيته بعد الثورة، بسبب فقدانه الحاضنة الشعبية.

واستقطب مسلسل “منع في سوريا” اهتمام الكثير من وكالات الأنباء العالمية، والفنانين والمخرجين العالميين الذين تحدثوا عنه، وتناولته عدة صحف وذكرت أنه عربيًا كان ترتيبه الثاني كمشاهدات على يوتيوب (بعد مسلسل وجوه وأماكن للمخرج هيثم حقي).

كما تناوله صحفيون بريطانيون قاموا بإجراء إحصائيات وتكلموا عن أهمية هذا العمل في الداخل، دون أن يتطرقوا للأعمال الثورية التي مُثلت في الخارج.

وأشاد بهذا العمل أيضًا المخرج ماهر صليبا، كونه مُثل في الداخل، وبرأي يامن نور، بطل هذا المسلسل بالتشارك مع جهاد سقا، أن المحللين الغربيين لهم تقييم للأعمال الفنية يختلف عن رأي المشاهد العربي، الذي ينظر إلى ضخامة الإنتاج والإخراج، بينما تقاس المادة الفنية بظروفها، معتبرًا أن “منع في سوريا لعب معه أكبر بطل في تاريخ البشرية وهو الأرض السورية”.

جهاد السقا – مسلسل منع في سوريا

فنيًا، أشرف على إخراج العمل الممثل يامن نور، وشاركه جهاد سقا في التوزيع الموسيقي وهو أيضًا بطل المسلسل.

وفي هذا الصدد يقول يامن نور لعنب بلدي “لا يمكن أن نعتبر أن عملية إخراج بالمعنى الحقيقي للكلمة أجريت، فالظروف لم تكن مساعدة، ولا الإمكانيات”.

يامن نور خريج المعهد العالي للفنون السرحية 2002 ومختص بالديكور، وكان هذا عمله الرئيسي قبل الثورة، وأوضح أن الاستعداد للتصوير وتحضير موقع التصوير يختلف تمامًا عن أي عمل فني آخر، ففي حين يلجأ المصممون للهدم للتعبير عن أماكن الحرب، كان يامن نور يلجأ للترميم.

وقال “نحن لم ندمر أماكن للتصوير فيها، بالعكس يصعب في حلب إيجاد أماكن فيها حياة. فقمنا ببعض أعمال الترميم للديكور، ووضعنا (تركسات) لتبدو وكأنها ترمم لتعيد الحياة للمنطقة، وأحضرنا بعض الناس، حيث كان هدفنا إظهار وجود بعض مظاهر الحياة الطبيعية، كما رممنا بعض البيوت لنستطيع التمثيل فيها”.

وبالرغم من هذه التحضيرات، كان ينقص الكادر الكثير من الاختصاصات مثل الإضاءة والماكياج، وكلها أمور تُفقر المادة الفنية.

وحول إمكانيات العمل، بلغ عدد الكادر 24 شخصًا، وبلغت كلفة العمل 100 ألف دولار.

 

راديو فريش.. وتجربة الإنتاج المرئي

رائد فارس – مدير إذاعة راديو فريش

برزت الإذاعات في الثورة السورية كجهة إعلامية تتناول القضايا المتعلقة بالشأن السوري. وركزت على الأخبار والأمور الخدمية، وتناولت المواضيع الثقافية المتنوعة والنشاطات الرياضية، والعسكرية.

وانتشرت هذه الإذاعات بكثرة، ومنها ما حقق نجاحًا ملحوظًا وشهرة عالية، مثل راديو روزنة وراديو حارة إف إم، وراديو هوا سمارت وغيرها، لكن لراديو فريش في كفرنبل بإدلب “ميزة” لم تتحقق عند الإذاعات الأخرى، وهي “أنها الإذاعة الوحيدة التي تأسست واستمر عملها حتى اللحظة في الداخل السوري”.

كان لهذه الإذاعات دور في دعم فناني الثورة، لكن ربما لم يكن على المستوى المطلوب، في هذا السياق يقول عروة خليفة، معد برامج في إذاعة هوا سمارت، لعنب بلدي “اهتمت هذه الإذاعات بدعم فناني الثورة وأنتجت البرامج عن المغنين والفنانين، كما نشرت لهم على صفحاتها على فيسبوك بعض الأعمال التي مًثلت في الداخل”، ويضيف خليفة “الإمكانيات المادية والإنتاجية تلعب دورًا أساسيًا لدعم الفن وخاصة الفنون الموسيقية، إذ يتطلب إنتاجها استوديوهات خاصة وإنتاجات كبيرة غير متوفرة عند الغالبية”.

واستقطبت هذه الإذاعات دعم كل المنظمات الأوروبية والأمريكية، وفي هذا المجال ترى وزيرة الثقافة سماح هدايا، بحكم عملها السابق في المجال الإعلامي، أن هذه المنظمات تتجه دائمًا بدعمها إلى الإذاعات، لأن ومن وجهة نظرها “الخبر المسموع والمرئي أقوى بكثير من المكتوب”، وألمحت من خلال حديثها، إلى “أن هذه المنظمات من الممكن أن تفرض أجندتها على توجه هذه الإذاعات”.

وفي هذا السياق يقول رائد فارس، مدير إذاعة راديو فريش “أصبحت الإذاعات مصدرًا للرزق، وهناك إذاعات تتلقى دعمًا كبيرًا، ولا أحد يعرفها”.

فيديوهات قليلة بشهرة عالمية

أنتج راديو فريش بضعة فيديوهات، مع أنه لا يملك الخبرة بهذا المجال، كما قال فارس، الذي يرى أن هناك أحداثًا عظيمةً لا يكفي الحديث عنها في الأخبار مثل قصف الغوطة بالكيماوي واستشهاد 1400 شخصًا في لحظة واحدة، فأنتج فارس فيديو عن هذا القصف، وحقق ضجة عالمية، أجرى بعدها فارس 45 مقابلة خلال ثلاثة أيام على قنوات أجنبية تكلمت عن هذا الفيديو.

وكان لرائد فارس وفريقه تجربة أخرى مع فيديو أنتجه يوم صدر قرار أوباما بـ”ضربة” يوجهها لنظام الأسد إثر استخدامه الكيماوي، كانت فكرة الفيديو هي لقاء مع أطفال ونساء مسنات، وكان الجميع يؤيد هذه “الضربة”، وتمت ترجمة الفيديو للغة الإنكليزية، كما روى فارس، الذي قال “أقيمت جلسة في الكونغرس ومجلس الشيوخ خصيصًا لمشاهدة هذا الفيديو”.

 

وزارة الثقافة المؤقتة.. دور معدومفي تطوير الفن الثوري

وزيرة الثقافة: لم ندعم مديريات الثقافة بفلس واحد

لا تستطيع الحكومة المؤقتة أن تلعب دور الحكومة الحقيقي، لعدة أمور أبرزها الصعوبات المادية التي تواجهها، كما أنها لا تستطيع القيام بدورها كحكومة، فمقرها تركيا وبالتالي هي حكومة داخل حكومة” كما تقول وزيرة الثقافة في الحكومة المؤقتة سماح هدايا.

وأضافت “كل المنظمات الدولية تقف ضد الحكومة السورية المؤقتة، ولا تعترف بوجودها ولا تقدم الدعم من خلالها لمؤسسات الثورة، وإنما تتجاوز وجودها تمامًا، وهذا ماجعل كل الثوار والناشطين ضد الحكومة المؤقتة”، معتبرةً “أن هناك مشروعًا مضادًا للحكومة المؤقتة” على حد تعبيرها.

حلم لم يتحقق

تتحدث هدايا عن تجربتها “عندما استلمت منصب وزيرة الثقافة منذ عام، كنت أفكر بالدرجة الأولى ببناء مظلة تحوي كافة الفنانين وتدعمهم، ولكن عندما واجهت الواقع كانت الصدمة”.

وأردفت “الحكومة لا تملك المال، وبالرغم من ذلك أسست مديريات ثقافة بالداخل لكن لم نتمكن من دعمه بفلس واحد”.

“كنت أحلم أن أقدم أي شيءٍ في مجال الثقافة والفن، وفي مجال المرأة وشؤون الأسرة والشباب، وفي مجال الأدب، لكن عجزت تمامًا”، هذا واقع حال وزارة الثقافة الذي شرحته هدايا لعنب بلدي، مؤكدة أنها أخبرت المديريات بأنهم يستطيعون التعاون مع أي منظمة تريد أن تدعمهم، وأنها “لا تمانع نهائيًا، فقط تريد منهم أي يعلموها بالجهة التي ستدعمهم”، مشيرةً إلى حالة “العجز الشديد” لدى الحكومة.

الإصرار على استمرار وزارة الثقافة

بالرغم من العجز وقصر اليد، ترى هدايا ضرورة استمرار وجود الوزارة، “الكثير من المسؤولين يرون أن وجود وزارة الثقافة ليس ضروريًا، وإنما يجب الإكتفاء بوزارة الدفاع والصحة والتربية والداخلية”، مع أنه، وبرأي هدايا، “وزارة الثقافة وشؤون الأسرة الآن هي أهم الوزارات، لأنها معنية ببناء الذات وتكوينها، وأيضًا معنية ببناء الهوية وعدم السماح للأفكار الظلامية الهدامة أو الأفكار الموالية للاستخبارات في التجذر بالإنسان”.

وفي هذا السياق تشير الوزيرة إلى أنها وضعت خططًا تصفها بـ “الرائعة” لكل المناطق الشمالية، وأعدت برامج بمساعدة خبراء أجانب مختصين في مجال التعامل مع الأزمات، “لكن لم نستطيع تطبيقها نهائيًا … بقيت حبرًا على الورق”.

انحسار دور الوزارة في مجال النشاطات

تلقت الوزارة دعمًا من بعض المنظمات السورية، مكنتها من القيام ببعض النشاطات، وتكشف هدايا عن مشاريع وتعاون بين الوزارة وجهات أخرى، “لم يكن بمقدورنا إقامة معرض كتاب، فتعاونا مع مجموعة السنكري على تنفيذه، وتعاونا مع جمعيات تنموية قي أنشطة الحكاية، وفي أنشطة بيت القصة والحكاية، وفي أنشطة الرسم وغيرها”.

مشيرةً إلى أن الدعم من هذه الجمعيات كان تعاونًا وليس تبنيًا كاملًا للمشروع.

الفن وعلاج الأطفال.. حكايا من الداخل السوري

لا يكاد يوجد فنان سوري أو فرقة فنية سورية في الداخل، لم تلتفت لتدريب الأطفال على كل أنواع الفنون، لما لمسوه جميعًا من الأثر النفسي لهذه الفنون على الأطفال، وكيف نجحت مزاولة الفن بإخراج هؤلاء الأطفال من جحيم الحرب، ولو لساعات قليلة يختلون بها مع مسرحياتهم أو رسوماتهم أو رقصاتهم.

وفيما يلي سنستعرض قصصًا حكاها لنا فنانون من تجاربهم مع الأطفال، وكيف نجح الفنان بتغيير نظرة هؤلاء الأطفال للحياة.

رسام حوران وشغفه بالأطفال

“رسام حوران” يعتبر أن أحلى لحظات حياته تلك التي يقضيها بتدريب الأطفال على الرسم، فهو مدرس لغة عربية في روضةٍ للأطفال، ويرى أن الرسم نشاطًا يجب أن يمارسه الأطفال وليس مادةً للتدريس.

يحكي لعنب بلدي بداية تجربته مع الأطفال وكيف تطورت. “كنت أجلس مع الأطفال وأطلب منهم رسم ما يخطر لهم … فيرسمون الدبابة والطيارة والصاروخ”.

وأردف “هنا شعرت بدوري في تغيير نظرتهم إلى الحياة ورؤية الجانب المشرق منها، وصرت أخبرهم بأن هناك أمورًا أخرى في الحياة … هناك الطائر والأزهار … هناك الألوان وليس السواد فقط”، وأضاف “من يرى رسمات طلابي بعد شهرين من التدريب، يدرك الفرق الواضح في الزاوية التي صاروا ينظرون من خلالها إلى الحياة”.

من حوران إلى الغوطة الشرقية، حيث تفوح رائحة الموت من كل شبرٍ فيها، هل كان من الممكن إخراج الأطفال من جو الحصار والقصف والدمار؟

التفت فريق “صيحة حرية” إلى تنظيم حفلات الدعم النفسي للأطفال، بالرغم من كل الأعباء التي يتحملها من ضغوطات العمل في دوما، إلا أنه يرى، وعلى لسان مديره شادي الحسن، أن دعم الأطفال والتمكن من إفراحهم أولوية اساسية لدى الفريق.

منذ عامين بدأ يلتفت الفريق إلى العمل لأجل الأطفال المتضررين من الحرب والأيتام، فكان يتفق، وبحسب رواية الحسن، مع جمعيات مختصة بموضوع برامج الدعم النفسي للأطفال، ويقيمون لهم الحفلات، فيتولى فريق صيحة حرية الإشراف الصوتي للحفل، وروى الحسن “كنا نقدم لهم الأناشيد والمسرحيات، وكانت هذه الساعة والنصف التي يقتطعها الطفل من الثورة والخوف والحصار والحزن كفيلة بأن تشعرنا بلذة لا نتذوقها بأي فعالية أخرى من حفلات أو أعراس أو مهرجانات”.

وقال الحسن “عندما تشعر أنك رسمت بسمة على وجه طفل في هذا الوقت وفي هذا الظرف، فهو أكبر إنجاز ممكن أن يكون لفريقنا”. وأضاف ” لو لم يكن لـ (صيحة حرية) إلا هذه البسمة التي رسمتها على وجه الطفل لكفتها عن الثورة كلها”.

فرقة بسمة نور

وفي حمص “بسمة الطفل” كانت مفتاحًا لانطلاقة عمل فني جديد، أنتج “فرقة بسمة نور”.

كانت انطلاقة هذه الفرقة نتيجة الضغط الذي عاشه أطفال حمص من الجوع والحصار والدمار والقتل، فبدأت الفكرة لدى الشابة “مايا” باختيار أطفال من الفتيات تمتلكن الموهبة.

تقول مايا لعنب بلدي “جمعتهن كفرقة صغيرة، وبدأت معهن بإمكانيات بسيطة جدًا، وكنا نقدم حفلات بأماكن عامة أيام عطل المدارس”.

فيما بعد تطور عمل الفرقة، وصارت تقدم مسرحيات دينية وثورية، “كان كثيرًا ما يباغتنا القصف أثناء التدريب، وهنا كان التحدي الأكبر أمامي، أن أستطيع تهدئة روعهن وإعطائهن شعور الأمان، فكنت أحاول إضحاكهن حتى يخرجن من حالة الذعر”.

بدأت الفرقة بإمكانيات بسيطة جدًا فكانوا يتدربون في”مدخل بناية، وعلى صوت الموبايل” كما روت مايا، حتى تمكنت أخيرًا من تأمين صالة كمقر للتدريب.

وسرعان ما انتشرت الفرة في حي الوعر، وتطور أداء أعضائها وتتوقع مايا “أن يكون لهن بصمة في المجتمع في المستقبل” مؤكدةً أن هدفهن الأول هو زرع البسمة.

 

يارا صبري: نحن بحاجة لمؤسسات وطنية تجمع الكوادر الفنية

هل مثل الفنانون السوريون الأحرار قضيتهم؟

كان من الواضح في الدراما السورية التي حازت على إعجاب الجمهور العربي في العقد الماضي، أنها صمتت عن أكبر حدث سياسي حلّ ببلدها وشكل القضية الأولى عالميًا منذ اندلاعه، ألا وهو الثورة السورية.

لم ينتظر أحد من الدراما السورية التعاطي بصدق وشفافية مع أحداث الثورة، لأنها وكأي منتج سوري آخر، لا يمكن أن تنتج إلا من تحت عباءة النظام، وإن تناولت أحداث الثورة بقلة، فستطرحها كـ “أزمة سورية”، أو “مؤامرة كونية” أو “خلاف أهلي تتساوى كافة الأطراف فيه بالمسؤولية”، فالعين التي ترى الأحداث السورية هي عين بشار الأسد، والرقيب على الإنتاج السوري هو المخابرات والأمن السوريين.

لكن هذا لا يخلي المسؤولية عن الفنانين “الأحرار”، الذين وقفوا موقف المؤيد للثورة منذ البداية، ونالهم ما نال كافة السوريين من ملاحقة ومضايقة أمنية لم يسلم منها أي مواطن سوري مهما بلغت شهرته وشعبيته، فلقد انتظر الجميع من هؤلاء الفنانين أعمالًا فنية ضخمة، تروي أحداث الثورة السورية بصدق وشفافية بعيدة عن مواربة وتحايل النظام السوري.

فهل الفنان السوري مقصّر فعلًا؟

يارا صبري من أبرز الفنانين الذين تبنوا قضايا الشعب السوري، وربما أكثر من اهتم بقضية المعتقلين والدفاع عنهم، وتوثيق أسمائهم، والتحري عن مصائرهم.

تتحدث صبري في مقابلة مع جريدة عنب بلدي، عن دور الفنان السوري الحر في الثورة، وفي تمثيل قضايا الشعب السوري، تقول “أعتقد أن كل فنان قد اتخذ موقفًا مع الثورة يحاول أن يقوم بما يمليه عليه ضميره، وأكثر ما يمكنه فعله في ظل غياب المؤسسات الحرة الداعمة للفن أن يتعامل مع وجوده كشخصية عامة ويتنقل من أجل المشاركة في أي من المحافل الإنسانية لنقل معاناة الناس والدعم المعنوي لهم”.

يرى الجمهور أن الفنان الحر يتوجب عليه تمثيل قضية بلده وتجسيدها بأعمال فنية تُري العالم أجمعه حقيقة ما يحصل في بلده، لكن ما لا يدركه الناس أن الفنان كفرد لايملك القدرة على إنتاج الأعمال الفنية، وهذا ما وضحته صبري في حديثها، “للأسف دائمًا يحمّلون الفنانين (الأفراد) مسؤولية التقصير في المشاركة بأعمال فنية تساهم في نشر رسالة السوريين وحقيقة الثورة … وما لا يدركه الناس عامة أن الفنان لا يمكنه إنتاج أعمالٍ أو التسويق لمنتجٍ فنيٍ دون مؤسسةٍ أو جهةٍ وطنيةٍ داعمةٍ وممولةٍ لتلك الأعمال”، مشيرةً إلى أن كل ما دون ذلك يبقى تجارب فرديةٍ.

وترى صبري “أننا بحاجة إلى منهج وحالة تراكمية حتى نصل الى استيعاب كل الإمكانات وإتاحة الفرص لها، وعدم تركها تضيع هدرًا … وأتمنى أن نرى في المستقبل القريب مؤسسات وطنية برؤوس أموال تقوم برعاية هذه التجارب وصقلها مهنيًا”، مشيرةً إلى أن هناك الكثير من المبدعين لديهم مشاريع فنية بين المسرح والسينما وحتى التلفزيون، وأيضًا الموسيقى والغناء والشعر والفن التشكيلي، يحتاجون إلى كيان يجمعهم ويدعمهم ويستغل طاقاتهم.

لومٌ للمعارضة

ترى صبري أن المسؤولين لدى النظام يدركون تمامًا أهمية الفن والإعلام في التأثير على الجمهور والرأي العام، وهذا ما جعلهم لا يغفلون هذا الجانب، ولا ينقصونه دعمًا، وما يحدث اليوم برأيها “هو زيادة جرعة التوجيه في مواضيع الدراما والإعلام المرئي في مناطق النظام”، مضيفةً “هذا ما لم تدركه أيٌ من الجهات المعارضة حتى الآن”.

مسرحية “تحت السما” وحكاية سورية

تتحدث صبري عن تجربتها خلال الثورة، “منذ 5 سنوات مرت عدة ظروف منعتني من أن أكون متواجدة على الساحة الفنية، أهمها عدم توفر العمل المناسب مما عرض علي بالإضافة لما واجهته أنا ومعظم السوريون من مشاكل بسبب جواز السفر ومدته، مما أجبرني في وقت معين على الالتزام بالبقاء في الإمارات، حيث كنت أقيم مع عائلتي إلى أن استطعت السفر في 2015 إلى تركيا، وذلك للعمل في مسلسل وجوه وأماكن من إخراج الأستاذ هيثم حقي، في الوقت نفسه كنا نعمل على مشروع مسلسل إذاعي مع راديو روزنا من 48 حلقة تم إنجازه ومازال يبث حتى اللحظة”.

وأضافت “مؤخرًا قمت مع زوجي المخرج ماهر صليبي والصديقة الكاتبة الإعلامية فاديا دلا بإنجاز عرض مسرحي بعنوان ( تحت السما)”.

والمسرحية عبارة عن “أم، تحكي فيه حكايتنا السورية من أولها وكيف فقدت عائلتها خلال السنوات الخمس الماضية بدءًا من انطلاقة الثورة السلمية وما تعرضت له هي وعائلتها وصولًا إلى لحظة موتها برصاصة قناص”.

رسالة إلى العالم

يهدف العرض بشكل أساسي إلى توجيه رسالة إلى العالم لتذكيره بما كاد أن يصبح طي النسيان، بسبب اختلاط الأوراق والدخول في حرب يشارك فيها العالم كله من أجل تحقيق مصالح سياسية وأقليمية على حساب الثورة والشعب السوري المنكوب. تقول صبري “أتامل تحقيق ما أردناه من هذا العمل وهو إمكانية عرضه في دول العالم وترجمته إلى عدة لغات حتى تصل حكاية البداية، كما ينبغي لها أن تروى للجمهور الغربي. البداية التي روج لها في كل المنابر الإعلامية الغربية على أنها حرب أهلية وتحمل هوية إسلامية متطرفة في حين أنها كانت ثورة سلمية أجبرت بسبب استخدام العنف الشنيع معها على اتخاذ منحى آخر بعد حشرها في زاوية التخلي عنها من كل المحافل الدولية”.

 

الفن الكردي يرسخ هوية سوريا الجامعة

الأوضاع المادية تحرم الأطفال تعلم الموسيقى والفنون

فنان كردي: نحن بحاجة إلى شركات إنتاج لدعم الفنانين والموسيقيين

تكاد معاناة السوريين تتشابه في مختلف البلاد بعدما عم العنف بسبب الأعمال العسكرية والفوضى، ويكاد يكون الحديث عن الفن بمختلف أنواعه نوع من الترف ويخالف مقولة “لكل مقام مقال”. لكن مناطق الإدارة الذاتية بقيت محافظة على لونها الثقافي واستمرار الحركة الفنية فيها، ولو بوتيرة أخف مقارنة ببقية المناطق كحلب وإدلب وريف دمشق ودرعا وغيرها، بعدما انعكست الأعمال العسكرية على أوضاع المواطنين ماديًا واجتماعيًا.

وفي لقاء لعنب بلدي مع عدد من الكوادر الفنية والثقافية في مناطق الحسكة وعامودا، لاستطلاع آرائهم حول الواقع الفني خلال الثورة وهل تتشابه معاناة الفنانين في تلك المنطقة مع نظرائهم في المناطق السورية المحررة، وإلى أي مدى تم تسخير الفن لخدمة قضية السوريين على اختلاف أولويات اهتماماتهم، قال الفنان جوان جميل محمد، “كأكاديمي متخرج في كلية التربية الموسيقية، أملك معهدًا موسيقيًا باسم (ساز ميوزيك)، وهدفي تعليم سكان المنطقة الصغار منهم والكبار الموسيقى بشكلل أكاديمي ونشر ثقافة الموسيقى الأكاديمية في المجتمع، وأحاول تحفيز الأهالي من أجل تعليم أولادهم الموسيقى الأكاديمية لإبعادهم عن الظروف التي يعيشونها وتأهيلهم نفسيا ولتفادي العشوائية في تعلم الموسيقى”.

لكن الأمور المادية وعدم امتلاك الأهالي القدرة على تعليم أولادهم الموسيقى بسبب الأزمة التي تمر بها المنطقة، كان السبب الأساسي في تراجع الفن وثقافته في المجتمع.

الفنان مرآة المجتمع

انعكست الأزمة التي تمر بها سوريا على الحالة الفنية، وأصبح الفنان مرآة لما يحدث، فتأثر الفن بالظروف التي تمر بها المنطقة “ولا يخفى على أحد أن الفنان بطبيعته يكون مرآة للمحيط الذي يعيشه، فمثلًا أصبحت غالبية الإهتامات الفنية تتناول مواضيع الأزمة وما يندرج تحت سقفها من لجوء ونزوح وتشرد وغربة”.

وفي معرض توضيحه لأبرز الصعوبات التي يعاني منها الفنانون في مناطق الإدارة الذاتية، يقول جوان إنها تبرز في ضعف الثقافة الفنية لدى غالبية سكان المنطقة وانحسار اهتماماتهم الفنية بالأغنية الشعبية وعدم انتشار الفن الأكاديمي كثقافة، “وكذلك عدم توفر الآلات الموسيقية بشكل جيد كالبيانو والتشيلو والآلات النحاسية والنفخية”، وعدم وجود صالات مناسبة لتقديم الأعمال والحفلات الفنية، “نحن بحاجة إلى شركات إنتاج فنية لدعم أعمال الفنانين والموسيقيين”.

وبحسب رأيه “أصبح الفن مستهلكًا بشكل أكبر، لمواكبة الظروف المتسارعة التي تمر بها المنطقة، كما أن الهجرة أثرت سلبًا على المستوى الفني وطول أمد الأزمة التي نعيشها في المنطقة”.

يوم الزي الكردي

لا يزال المواطنون الكرد السوريون يحافظون على عاداتهم وتقاليدهم التي ترسخ هويتهم، وتدل على ارتباطهم ببلدهم وبثقافتهم وتراثهم، ويتمثل ذلك بالمحافظة على تأدية الطقوس الاجتماعية والتي يتخللها أعمال فنية وثقافية لا تخلو من الإبداع، وبالتزامن مع إعداد هذا التحقيق صادف العاشر من آذار الجاري ذكرى “يوم الزي الكردي” أو اللباس الكردي، وهو مناسبة يحتفل فيها الكرد في سوريا، وذلك للحفاظ على التراث والفلكلور والتاريخ الكردي، ويتم إحياء هذا اليوم من خلال ارتداء الشباب والشابات للزي الكردي الفلكوري، إذ حافظ الشعب الكردي على تراثه منذ آلالاف السنين.

تغيّر ديموغرافية الفن

يجمع عدد من الفنانين، أن الأداء الفني في مناطق الإدارة الذاتية تراجع كثيرًا وذلك لأسباب عدة، منها “تغير ديموغرافية العطاء الفني”، والمقصود به تغير الشخص المبدع مكانه ومكان عمله.

وكذلك تعد الأوضاع المادية، والبيئة المحيطة بالفن من أهم الصعوبات التي تواجه الفنانين على اختلاف تخصصاتهم في مناطق الإدارة الذاتية، ويعتبر الفنان الكردي السوري سربست جان، الحاصل على إجازة تعليمية في الأدب الفرنسي، أن الإبداع دائمًا بحاجة إلى دعم مادي وبيئة فنية ذات انفتاح اجتماعي قادر على استيعاب ما يقدمه الفنان أو المبدع

وحسب جان فإنه “في زمن الحروب تتقلب موازين الحياة، وينقلب الإبداع إلى إبداع ثوري، ويصبح كأي محارب يدافع عن قضيته لكن بأسلوبه الخاص”، وعلى المبدع ألا ييأس وأن يتابع مهما قذفته أمواج الحياة “فالفن رسالة سامية لكل أمة”، وعلى حاملي هذه الرسالة أن يتحملوا مشقة حملها، “لأنك في النهاية من اخترت هذا الطريق”.

ويبقى للأهل الدور الأبرز في تعليم الأطفال وتعوديهم على الفنون، والسعي لتنمية مواهبهم ومهاراتهم، لأن تشجيع الأطفال منذ الصغر على الإبداع “هو بمثابة حجر أساس لبناء فن متكامل، فالكثير من الإبداعات والمواهب تناثرت بسبب عادات وتقاليد ورثناها”، بحسب قول جان.

الفن السوري والنزع الأخير

لا يختلف إثنان على حقيقة مفادها أن الفن السوري في المناطق المحررة، قد خرج من عباءة النظام السوري ومن إيديولوجيا البعث، وبالرغم من الطاقات الضخمة التي تفجرت خلال الثورة والتي عبرت بصدق عن أهداف الثورة، ومهدت لتطوير الفن والتراث السوري الأصيلين، إلا أن هناك “غصة” لا يمكن لكل مهتم بهذا المجال من البوح بها، مفادها أن عوامل كثيرة تهدد إرث السوريين الفني فاقمه تمدد الجماعات المتطرفة التي تحاول طمس هوية سوريا بإثنياتها وأعراقها، وأمام هذا الواقع لا بد من تضافر الجهود ببين مختلف الفعاليات السورية للملمة ما يمكن الحفاظ عليه من لوحة سوريا الفنية المتبقية. كثير من الحلبيين يخشون تلاشي أصوات فنية مثل صباح فخري، وكثير من الدمشقيين يخافون اندثار فن العراضة، ومثلهم يخشى الأدالبة حرمانهم من فنون الرسم والتعبير عن الثورة، كما يخشى الحوارنة اندثار فن الغناء والدبكة وكذلك الحماصنة وأهل المنطقة الشرقية.

مقالات متعلقة

  1. الفن السوري في المناطق المحررة... أوركسترا بلا قائد
  2. تفاؤل‭ ‬حذر
  3. فِرَق‭ ‬الشباب‭ ‬التطوعية‭ ‬في‭ ‬تركيا‭ ‬تستمر‭ ‬بتقديم‭ ‬العون‭ ‬للسوريين
  4. أكثر‭ ‬من‭ ‬عشرين‭ ‬وسيلة‭ ‬إعلام‭ ‬محلية‭ ‬يطلقون "ميثاق‭ ‬شرف‭ ‬للإعلاميين‭ ‬السوريين"

تحقيقات

المزيد من تحقيقات