tag icon ع ع ع

ظهرت المرأة السوريّة في الدراما من خلال العديد من الشخصيات والنماذج، لكنّ أكثرها حضورًا هي تلك المرأة البسيطة المدبّرة، التي تحتفظ بكل شيء لا لقيمته الحالية، ولكن للزومه مستقبلًا. من تستطيع تقديم أفضل مائدة لأيّ ضيفٍ مُفاجئ مهما كانت محتويات مطبخها. توزّع راتب زوجها على أيام الشهر ببراعة محاسب، وتعيد تدوير ثياب قديمة لمناسباتٍ مقبلة.

كانت هذه الحبكات الدرامية تبدو مبالغةً قليلًا قبل الثورة، وهو ما تغيّر بعدها بكل تأكيد، إذ إن أي مقارنة لهذا النموذج مع ما بذلتْه المرأة من جهود لتوازن الأسرة والحفاظ عليها خلال الحرب سيجعل الدفة تميل إلى صالح سيدات المنازل اليوم، عدا عن جهودهنّ عميقة الأثر في دعم الثورة والنشاط ضد ظُلم الأسد.

قوانين طوارئ

لم تكن عائلة السيدة ميساء معتادة على الطعام “البايت”، إذ كانت تطهو يوميًا طبقًا جديدًا كمعظم العائلات السوريّة، لكن وبعد توقف معظم مظاهر الحياة في حمص، ومن بينها عمل رب الأسرة، كان على السيدة ميساء اتخاذ تدابير جديدة لتتمكن العائلة من الاستمرار، تقول “من لا يرحم لا يُرحم، أنا أعرف أحوال زوجي، توقّف عن العمل خلال كل سنوات الثورة ونحن نصرف من القليل الذي ادخره للأيام السوداء، وهكذا وضعتُ قوانين جديدة، تتناسب مع حالة الحرب”.

شملت قوانين طوارئ السيدة ميساء تقليل عدد مرات الطبخ أسبوعيًا من سبع طبخات مختلفة إلى طبختين فقط، تمتدّ كل منهما إلى ثلاثة أيام، “بهذه الطريقة نوفّر الكثير من مستلزمات كل طبخة، ومن الغاز اللازم للطبخ، ونُمضي اليوم السابع في الأسبوع بطبق بسيط كالبيض المقلي أو الحمّص، أحد قوانيني أيضًا هو الاستعاضة عن لحم الغنم بلحوم الدجاج في الطعام بشكل كبير، لفارق السعر بينهما”.

امتدّت قوانين السيدة ميساء لتطال كيفية الحفاظ لأطول مدة على الملابس، وإعادة تدويرها، وتوفير الدفاتر المدرسية لأبنائها، “في السابق كانت بداية المدرسة تتمثل باصطحاب زوجي لأبنائنا إلى المكتبة، حيث ينتقون ما يشاؤون من الأقلام والقرطاسية، أما الدفاتر فكان يشتري رُزمًا تكفيهم عامًا كاملًا وتزيد، الحال مختلف جدًا اليوم”.

حاليًا، بعد انتهاء العام الدراسي، تقوم السيدة ميساء بتجميع الأوراق غير المستخدمة من دفاتر أبنائها، وضمّها إلى بعضها كدفاتر جديدة، وتضيف “يستخدم أبنائي هذه الدفاتر كمسودّات في العام التالي”.

صناعة الأمان

عندما نتكلم عن دور المرأة في الأسرة، لا يمكن أن نتجاوز بذلَ نساء الغوطة الشرقية وتضحياتهنّ مقابل الحفاظ على لمّة الأسرة، تحت أي سقف، وبأيّ ظروف كانت، السيدة أم محمد (34 عامًا) أمٌّ لثلاثة أطفال تبذل لأجل طفولتهم كل جهد “لم نغادر الغوطة منذ عام 2012، يحمل أبنائي الكثير من الذكريات السيئة مثل قصف الطيارة لمنزلنا أثناء تناول وجبة الإفطار، ومجزرة الكيماوي، والحصار والجوع، لكنني أحرص على أن يحملوا بالمقابل ذكريات جميلة عن طفولتهم، وأبذل ما بوسعي لإسعادهم”.

في قبو البناء، حيث تُمضي أم محمد وأبناؤها معظم نهاراتهم وأحيانًا لياليهم، زيّنت أم محمد رُكنًا خاصًا، تقول “القبو مستودع في الأساس، لكنني هيّأتُ إحدى زواياه، وأحضرتُ لوحًا وطباشير ليكتب أبنائي ويرسموا، زيّنته برسماتهم وما تبقى من ألعابهم، وأضأناه بالليدات للتخفيف من عتمته ما أمكن، عندما يشتدّ القصف أحكي لهم الحكايات، نقرأ القرآن معًا، ننشد ما نحفظه من الأغاني، وأرسمُ لهم لينشغلوا بالتلوين، أحاول أن أعوضهم ما استطعت عن أجزاء طفولتهم الضائعة، وأمانهم المبعثر”.

تغيّرت حياة المرأة كليًا

تقول السيدة أم محمد إن حياة المرأة في الغوطة تغيّرت كليًا، وتضيف “لا أعني أن حياة الرجل لم تتغير، جميعنا ندفع من صحتنا وحياتنا وأعصابنا ثمن الحرب، لكن روتين حياة المرأة هو الأكثر تأثرًا بالحصار”.

تشرح كلماتها “قد تكون طبيعة الطعام تغيّرت علينا جميعًا، لكن أسلوب الطهي تغير أيضًا، أمضي ساعات أمام النار حرصًا على عدم انطفائها وأذكيها بالحطب لأصنع الطعام، الخُبز كان يأتينا جاهزًا، بينما أعدّه اليوم مرورًا بكافة مراحله كالعجن والتقريص والتخمير والرقّ والخَبز، أبتكر وسائل لحفظ الأطعمة لعدم وجود برّاد، أغسل الملابس على يدي بأقل القليل من الماء، تنظيف المنزل أيضًا تغيّرت أدواته، مع ذلك نحن حريصات على إشباع عائلاتنا، نظافة منازلنا وثيابنا، لمّة العائلة ودفء المنزل، رغم كل شيء”.

امرأة بألف رجل

في أول عامين للثورة كان منزل السيدة أم حُسام في ركن الدين مقصدًا لكلّ ثائر ومطلوب، وكل نازحٍ وهارب من الموت، تقول الآنسة ماريّا، إحدى المتظاهرات اللاجئات لمنزل أم حسام في بداية الثورة، “عندما تنفضّ المظاهرات ونهرب من الأمن، كان منزل أم حسام ملاذًا لنا، أحيانًا نُضطر لترك الكاميرات واللافتات لديها، لم تكن تمانع على الإطلاق”.

وتضيف ماريّا “لا يسعني أن أصف نشاطاتها الثورية، كانت سيّدة بألف رجل”.

لم يكن أبو حسام يوافق زوجته على نشاطاتها الثوريّة، فهو يخاف النظام، ولا يمتلك قوّة شخصيتها عند المرور على الحواجز أو الحديث مع العناصر، تقول أم حسام “لديّ خمسُ بنات وابن، ابني يشبه أباه في كل شيء، لم يشارك بالثورة ويخافُ من ظلّه، لذا هرب إلى لبنان أواخر عام 2012، أمّا بناتي فهنّ جميعًا مثلي شجاعةً ونُصرةً للحقّ، وهنّ من يقفن إلى جانبي عندما أرغب بإيواء أحد في منزلنا رغم رفض زوجي”.

ادفعي ثمن نشاطاتك الثوريّة

بعد أن بدأت الشكوك تحوم حول أم حسام ومنزلها، وخفّت وتيرة المظاهرات في دمشق بشكل كبير، فكّرت بالسفر للمرة الأولى، “صار الأمن يحومون حولنا، لاحظنا تدقيقًا زائدًا عند مرورنا على الحواجز مع أننا نساء، وهنا فكّرت بالسفر لتركيا، لكن زوجي عارضني بالطبع، فهو لا يعيش إلا في دمشق، وأنا المسؤولة عن نتائج نشاطاتي الثوريّة”.

لم يكن لدى أم حسام الكثير من الوقت، فهي تعلم أن يوم اعتقالها لم يعد بعيدًا، وهنا اتخذت قرارها بالسفر مع بناتها، “استلزم مني قرار السفر الكثير من التفكير، ليس لدينا مصدر دخل إذا سافرنا، لكنني أخشى على بناتي ونفسي من الاعتقال، لهذا توكّلت على الله، ودفعتُ ما أملكه للسفر إلى تركيا واستئجار منزل في ولاية اسكندرون”.

في تركيّا، أخذت أم حسام قرارًا بفتح صالون حلاقة للنساء مع بناتها الخمس لتأمين مصدر دخلٍ لهنّ، وبالفعل استأجرت محلًا بالقرب من منزلها “كنتُ قد عملتُ سابقًا في فترة صباي في صالون حلاقة نسائية، واكتسبتُ هناك المبادئ الأساسيّة كالقص والسيشوار والمكياج، وموديلات الحفلات البسيطة، كان عليّ أن أعتمد على هذه المهارة لكسب الرزق، ليس لديّ حلٌ آخر”.

تُعيل أم حسام اليوم بناتها الخمس، ويتكفل صالون الحلاقة بتكاليف معيشتهنّ كاملة، تضيف بلهجة واضحة الرضا “نحن في تركيا منذ عامين أصبح الصالون خلالهما مصدر رزق مستقرٍ نوعًا ما، زوّجت ابنتيّ الكبيرتين لعائلتين سوريتيّن هنا، الحمد لله على كل حال”.

ابنتي سندي

لم تكن عائلة آلاء تسمح لها بالعمل بشهادتها، من معهد تقانة الحاسوب، قبل الثورة، إذ رأوا أن عمل المرأة في بيتها فحسب، لكنّ الثورة والحرب غيرتا كل شيء، بما في ذلك تفكير أهل آلاء تجاه عملها، عن ذلك تقول “استُشهد والدي وأصيب أخي الأصغر، تركنا منزلنا في جوبر ونزحنا إلى التلّ، بعدها أصبح أخي مطلوبًا للنظام بسبب تخلّفه عن العسكرية، ولم يبق للعائلة مصدر رزق واحد أمام إعاقة أخي نتيجة لإصابته”.

لم تجد آلاء فرصة عمل بشهادتها في مدينة التل، وهنا انتقلت للعيش في بيت عمّتها بدمشق للعمل في شركة باختصاصها الدراسيّ، “الحمد لله أنني أرد جميل أهلي، صحيحٌ أننا نعيش في مكانين مختلفين ولا أراهم بشكل دائم، إلا أنني أرسل لهم راتبي وأكفيهم الحاجة وسؤال الناس”.

تقول آلاء إن هناك الكثيرات مثلها حولها، وتضيف “شباب سوريا اليوم ما بين الهجرة والاعتقال، ما ترك الحمل على عاتق نساء العائلات، معظم الشركات قائمة على الموظفات اليوم، بالإضافة إلى سهولة تنقّل الفتيات أمنيًا مقارنة بالشباب”.

وتشير آلاء إلى أن معظم زميلاتها في الشركة يعملن لإعالة أهاليهنّ ولو بشكل جزئيّ، وتضيف”عندما أرسلتُ لأهلي راتبي للمرة الأولى، سمعتُ من أمي ما لم أتوقع سماعه في حياتي، من بين دموعها قالت لي: (طلعتي حيط يابنتي وبينسند فيكي)”.

تابع قراءة ملف: بنت البلد.. أين أصبحت في الثورة السورية

– بين “الاتحاد النسائي” والسيدة الأولى.. تدجين فكري في بوتقة “البعث”

– حكومتان للمعارضة تفشلان في تعزيز دور المرأة.. الثالثة تبحث عن “شخصية مناسبة”

– ما مدى تمثيل المرأة السورية في المنظمات والهيئات الحكومية؟

– كيف أثرت سلطة الفصائل العسكرية على نشاط المرأة في الشمال السوري؟

– أول مؤتمر نسائي في إدلب.. ومشاركة في إدارة المدينة

– ورشات للارتقاء بواقع المرأة وتأهيلها

– نشاط نسائي واسع في حلب وتمثيل في مجلسها

– درعا.. المرأة إلى جانب الرجل في شتى المجالات

– وضحة الحريري.. المرأة التي شاركت في تحرير اللواء 52 في درعا

– “سوريات عبر الحدود”.. تجربة نسوية ناجحة دون اهتمام حكومي

– الغوطة الشرقية تغصّ بالمراكز النسائية وتفتقر للكوادر المؤهلة

– بيان ريحان.. من تنظيم الخرائط إلى قيادة نساء الغوطة

– المراكز النسائية تغيب عن حمص.. المرأة تنشط طبيًا وإنسانيًا

– مها أيوب.. رباها والدها على الثورة “حتى آخر نفس”

– المرأة في الجزيرة.. نشاط ملحوظ يقابله استغلال

– “طلعتي حيط يا بنتي وبينسند فيكي”.. الإمكانيات الاستثنائية في المرأة العاديّة

– “الصحفيات السوريات”: عوائق كثيرة في وجه المرأة السورية

– رأي: حقوق المرأة في دستور الأسد دعاية سياسية

لقراءة الملف كاملًا: بنت البلد.. أين أصبحت في الثورة السورية

مقالات متعلقة