عن كونديرا وقراءته التي “ليس منها بد”

الروائي الفرنسي ميلان كونديرا

camera iconالروائي الفرنسي ميلان كونديرا

tag icon ع ع ع

هيڤا نبي 

في خضم الغزارة الكلامية المعاصرة والمنفلتة كحصان بلا لجام، على كل الحقول الجمالية المفترضة، مشكلة شعرًا ناقلًا للإحساس بلا فكرة أو لغة ذكية، وروايات “لا تقول شيئًا جديدًا، وليس لها طموح جمالي، ولا تحدث أي تبديل في فهمنا للإنسان ولا في الشكل الروائي، وتتشابه فيما بينها” (الوصايا المغدورة)، تبرز أهمية الإحاطة بالأدب كفن متكامل له تاريخ وتطور يجب أخذه بالحسبان في كل قفزة له نحو الامام. هذه الاحاطة هي ضرورة لكي لا تعتبر قفزات الرواية، خاصةً، نوعًا من المراوحة في المكان.

الدعوة للرجوع لتاريخ الرواية يطرحها “ميلان كونديرا” في ثلاثيته عن الفن الروائي “فن الرواية- الوصايا المغدورة- الستار”. ونرى أهمية هذا الطرح في وقتنا الحالي نابعًا من مآل الرواية المعاصرة، التي تم اختصارها لفن مسل، واعتُبر جمالها مقرونًا بتحقيقها أكبر نسبة مبيعات. وبعيدًا عن النظرة النقدية التي يلقيها كونديرا للرواية، أود في هذا المقال عرض القليل من الغنى الروائي الذي يثري به كونديرا الرواية.

ميلان كونديرا الروائي الفرنسي، التشيكي الأصل، هو أحد اعمدة الرواية الذين يحرصون حرص الآباء على حماية البيت الأسري وإنقاذه. إنه الروائي الذي يومئ لك إيماءة اتفاقٍ مبطن أو تآمرٍ سري، لتضيع فجأة بوصلتك وتتوه عن معرفة الطرف الذي يحاول استمالة الآخر لجهته، وارغامه على الدخول الى عالمه. إنه الروائي الذي  يغمز لك بعين كلماته أو بعين معانيها، بحيث تشعر نفسك مخصصًا للحضور والتمثيل وخوض الحياة في عالم كلماته.

لكونديرا اليد الطولى في حشر العالم في الرواية، بحيث تغدو رواياته الشيء الذي “ليس منه بد”، في كل مجال يمكِّنك من فهم العالم. رواياته بعيدة عن أن تكون محددة الهدف والوِجهة، ففيها لا يريد الكاتب سردًا تاريخيًا ولا فلسفيًا ولا سيكولوجيًا ولا اجتماعيًا ولا وضعيًا ولا ايديولوجيًا ولا ميتافيزيقيًا، بل كل هذا الميراث الإنساني دفعة واحدة. فالرواية تقف عنده على نفس السوية مع الفلسفة وعلم النفس في فهم خفايا الكائن الإنساني، بل وتزيد عليهما بقدرتها على اجتياح الأنا بطريقة أكثر ودّية، والاقتراب أكثر من فهم تناقضاتها التي تصعب أحيانًا على الدراسات العلمية البحتة.

ففي روايته الأشهر “كائن لا تحتمل خفته” يقدم لنا كونديرا وثيقة تاريخية لفترة حساسة من تاريخ التشيك، كذلك الأمر في روايته “المزحة”، دون أن تكون الخاصية التاريخية إحدى مقاصد الكاتب الأولية. كما يبني روايته المذكورة “كائن لاتحتمل خفته” على أسس فلسفية متعلقة بالعود الأبدي لنيتشه ولازمة رباعية بيتهوفن “ما ليس منه بد”، دون أن يكون المقصد الفلسفي إحدى أهدافها المباشرة، كذلك تتناول أغلب أعماله مواضيع تأملية عميقة خاصة بالوجود الإنساني، دون أن تكون هذه الوجهة وجهته الوحيدة في الرواية، ودون أن تؤطر هذه الأدوات أيّ من حالات السعي المتكررة نحو فهم الأنا.

لا حصر لما يمكن أن تُحبه في عوالم كونديرا، فكل شي يعد اكتشافًا، اكتشافًا بالمعنى العميق للكلمة. اكتشاف هواجسك، جهلك، عواطفك، أخطاءك، أفكارك، سخريتك، فجورك، وخاصة الوجه الثاني لما تعرفه عن نفسك. إنه عالم مكدس ومكثف من الإكتشافات. الإكتشافات التي يمكن أن تمر عليها عادة دون أن تشعر بها أو تستطيع تسميتها أو تلقي لها بالًا.

اختصار العالم إلى فكرة، والفكرة إلى كلمة والكلمة إلى فراغ هو السحر الذي يطغى على سطوره، خاصةً تلك التي يتخذ فيها كونديرا وجهه التأملي التهكمي ليُلقى بضوء الخالق على كائناته العالقة بالفعل أو بالحدث وعلى الأخص بالتأمل. لكن هذا الفراغ لا يظل فراغًا مبهمًا، بل يؤلف عالمًا واسعًا للاحتمالات الإنسانية، عالمًا للامكانيات المنطقية واللامنطقية التي لا يمكن لعلم أو نوع أدبي أن يضمها سوى الرواية.

ميلان كونديرا هذا الكاتب العجوز (تولد 1929)، الذي يغريك بهيئته الكهلة بالذات، وبكل ما في الكهولة من قوة وخبرة وفساد وربما فجور. في أدبه كذلك هناك كهولة ممزوجة بطيش وجمال الطفولة، كأن عالم كونديرا مؤلف من قطبين اثنين، عالمين اثنين لا ثالث لهما: بريء جدًا وفاسد جدًا، هما العالم المبتدأ بخفة (عالم متمثل بالطيش والفكاهة الطفولية) وعالم الكهولة المنتهي بخفة ايضًا، دون المساس بالجدية التي يصر كونديرا على السخرية منها متأثرًا بأعمال رابليه وبروخ وكافكا وغومبروفيتش. فلا يمكنك الالتقاء في عالم كونديرا بالبالغين الجديين المنتصفي الخبرة والتجربة، تلك الكائنات غير المكتملة، التي ماتزال في طور السعي، والتي تتخد نفسها بجدية مبالغ فيها. وإن صدف ووجدث آثارهم فهي حتمًا لإظهارعيوبهم، التي ذكرناها سابقا، من عدم الاكتمال، ووهم السعي، والجدّية المبالغ بها. وخير مثال على ذلك سيرة الشاعر ياروميل (رواية الحياة في مكان آخر)، البطل الذي يتخذ من عيون الكبار المثل الأعلى لنفسه ويكبر وهو يرهن نفسه لدور بطولي لا يعرف عنه شيء.

لكن هذين العالمين المتمايزين  ليسا عبثيين في حضورهما، إنهما المرحلتان الأكثر حساسية على الإطلاق. هما مرحلة اللاجدية والدعابة والفكاهة الفلسفية. وليست الدعابة، يتوجب التنويه، خصيصة متعالية عن العالم أو مضافة إليها بل هي ركيزتها وإحدى أركانها الأساسية المغيّبة، ذلك أن العالم حسب كونديرا مزيج متماسك من الكوميديا والتراجيديا. وفي بعض الأحيان تطابق الإثنين مع بعضهما بحيث تنبعث كل واحدة من قلب الأخرى بلا تمايز أو تميز. في قلب هذا التصادم لا يجد الكائن الكونديري إلا المزاح ردًا وحلًا، كأن الحياة تبدأ لدى شخصياته بالمزحة، لتجرهم هذه الأخيرة إلى الواقع ثم تعيدهم إليها بالتحدي ذاته، ولكن أهناك سبيل للتخلص من الواقع بالمزاح؟ نعم، الكائن الكونديري يصطدم بالعالم بواسطة مزاحه وفكاهته، يصطدم بثقل العالم الذي يوقن تمامًا أن لا انفكاك له عنه إلا بالخفة، بالمزاح، بالدعابة.

إنها حال مجمل قصص “غراميات مضحكة”، ولنذكر على سبيل المثال القصة الأخيرة منها. في هذه القصة المعنونة بـ “لعبة الاوتو-ستوب” تسيطر فكاهة مُرة على مجريات القدر نفسه، بحيث تقلب مقاييس إيمان العاشق بمحبوبته وتدمر معرفته لها عن طريق لعبة صدفوية رخيصة وبحتة، وهي لعبة السائق والمجهولة التي تستوقفه. هذه اللعبة تبدأ كهروب من الملل أو ما شابه بين الشاب السائق ومحبوبته، التي كانت حتى قبل تلك اللعبة مثالًا مميزًا للمرأة الخجولة والعفيفة التي تستهويه. لكن ما إن تتجذر اللعبة وتتطور نتيجة اندفاعهما الصبياني نحوها، حتى تتوسع الهوة بين الإثنين، فالفتاة من جهتها تشعر بحريتها في قول ما لم يكن حيائها يسمح لها بقوله قبل تمثيل دورها هذا (مثل حاجتها للتبول). إذ تتحرر بمجرد أن تدرك أنها ليست سوى ممثلة في لعبة صغيرة، يضاف إلى ذلك شعورها بالقوة، إذ تتشبه هنا بكل النساء اللآتي عرفهن صديقها واللآتي كن يثرن غيرتها بشدة. لكن الشاب من جهته يضيع في الصفات الجديدة لصديقته. إنها تبتعد عن نفسها بتمثيلها شيئا فشيء وتبتعد بالتالي عنه حتى لا يكاد يتعرف إليها. وتبدأ صفاتها الحديثة بإثارة التقزز والنفور فيه، بحيث لا يبقى منها سوى الجسد الذي يشتهيه بقوة أكثر لتشابهه بأجساد كل النساء اللاتي عرفهن سابقًا. في نهاية القصة يدرك القارئ أن لاطريق للعودة بعد، فاللعبة تمكنت من الطرفين وغيرت نظرتهما إلى الأبد.

كان يمكن لقصصه الأخرى، والتي تدور في زوبعات فكاهية وعبثية مشابهة، أن تكون في قمة التراجيديا لولا أن كونديرا التفت إلى تراجيديتها وضحك منها ساخرًا، وهكذا نقل لنا ضحكته عبر مجريات القصة. كأن القصة هي المشهد وضحكته هي الخلفية الموسيقية له. وبهذه الطريقة بالذات أدمجنا وجعلنا جزءًا من المشهد الذي بتنا لا نراه إلا بعيون كونديرا نفسه.

ولكن إن لم يكن بالإمكان إلا مقابلة الكوميديا (الدعابة) في قلب التراجيديا، التي تطفو على سطح العالم، فهذا لا يعني أن الكوميديا، كما يوردها كونديرا، موجودة دون جهد، إنها في الحقيقة السر الممتنع على الرؤية، لأنها تحتاج لوعي أمثل بالعالم وبالتكوين الإنساني وهي قد ولدت، كما يرى كونديرا، بولادة الرواية ووجدت موطئها في أرضها فحسب.

من هنا فكل تحليل لأدب كونديرا سيودي إلى المفتاح غير السري لفكره وهو الجدية/الدعابة. لقد اختار كونديرا لفكره وقصصه هاتان الخصيصتان، وبهما يمكن قراءة كل ما يرد من كونديرا: “أدركنا منذ زمن طويل أنه لم يعد بالإمكان قلب هذا العالم، ولا تغييره إلى الأفضل، ولا إيقاف جريانه البائس إلى الأمام. لم يكن هناك سوى مقاومة وحيدة ممكنة. ألا نأخذها على محمل الجد.” هذا ما يقوله رامون في رواية “حفلة التفاهة”.

وكما أن هذه الدعابة صدمت الكثير من شخصيات كونديرا واصطدمت بفكرتهم عن العالم والعلاقات مع الآخرين، كذلك فقد شكلت هذه الدعابة، حسب اعتراف كونديرا نفسه، حاجزًا بينه وبين قرّائه، فيقول في الوصايا المغدورة: “لو سألني أحد عن السبب الأكثر تواترًا لسوء الفهم بيني وبين قرائي، لما ترددت بالإجابة: الفكاهة”. فهو يدرك أن “لا شيء أصعب من إفهام الفكاهة”.

بالنسبة لأسلوب الكاتب فهناك محاور أساسية جعلت فهم رواياته أكثر معقولية وإمكانية، وهي، إن كانت لا تتلخص ببعض العناصر التي سنوردها بخفة هنا، أكثر من مجرد تقنيات كتابية، إنها الطرق الأمثل لقول ما يود كونديرا قوله، إنها بعبارة أخرى “ما ليس منه بد”.

أسلوبه الأساسي يتمثل في الكتابة بشكل عالق، بطريقة تجعل كل شيء عالقًا إلى اللحظة التي “ليس منها بد”، حيث سيعود الكاتب إليها ليثير فينا اندفاعًا مجنونًا نحو إعادة ترتيب الأفكار وإعادة الفهم، كأنه يختبرنا بالذاكرة والنسيان، يختبرنا بقوة وضعف إيماننا بالأشياء. كونديرا لا يترك شيئًا يفلت منه، يجب أن يدمغ كل حدث أو مزحة أو شعور وأن يعود له مرارًا ليتفحص فيه ويقلّبه على كافة جوانبه، فلا شيء اعتباطي، رغم أن الحياة تبدو لأبطاله اعتباطية وساخرة. كذلك يقلب كونديرا تجارب أبطاله على كل أوجهها ويعطيك الأمل بالفهم، ثم يخيبك بذات السخرية التي يُوقع فيها أبطاله، ويعود فيريك أوجه أخرى لذات التجارب، ويوهمك من جديد بالتوصل للمعرفة، وهو يعرف أنك بين يديه ورهن هباته. ولكن هل تفهم في نهاية المطاف ما يريد أن يمليه عليك؟ في الغالب لا، فالروائي الذي يحاول أن يفهم مع قارئه جوانب حياة وتجارب أبطاله يقول لنا بسخرية في ختام كل رواية: “إن الرواية هي روح التعقيد، كل رواية تقول للقارئ: إن الاشياء أكثر تعقيدًا مما تظن”.

أما تعدد الأصوات (Polyphonie) فهو ظل لتعددية الاحتمالات التي يؤمن بها كونديرا بشدة. فالكون هو المجال اللامنتهي للاحتمالات ووجهات النظر. والرواية التي تتشكل في نهاية هذه التعددية الصوتية هي عبارة عن تضافر الأولويات والاعتقادات التي تحملها كل وجهة نظرعلى حدة. في هذا التضافر المتشكِّل غالبًا بشكل تصادمي يتوصل الكاتب لإعطاء معنى وجودي لكائناته ويقترب من فلسفته في الحياة.

وبسبب أسلوبه المميز والكتابة بطريقة الوقف والاقتطاع المفاجئ ثم العودة الدائمة، يتميز كونديرا عن معظم الروائيين بأنه يعرف تمامًا النهاية التي ينتظرها هو وأبطاله في ختام الرواية. فمنذ البدء يمسك كونديرا بالخيوط الختامية للرواية دون أن يمتثل لتلك الحرية التي يتمسك بها الروائيون عادةً، والتي تنتج نهايات مفتوحة، غير متوقعة وغير معروفة للروائي نفسه. هذا البناء الذي يعتمده كونديرا شبيه بالتأليف الموسيقي، حيث يكون الموسيقي على دراية بنهاية مقطوعته منذ بدايتها. وتتعلق هذه الخصيصة التي تجعل النهايات مكشوفة بالبناء الأوركسترالي لرواياته التي يقسمها كونديرا كمقطوعة موسيقية ويجزئها على الغالب إلى سبعة اجزاء.

لكن إن كان المزاح والدعابة هما ركيزتا تأليف كونديرا لرواياته، فالحال ليس كذلك بالنسبة للقارئ أو الناقد، فلكي تقرأ كونديرا، عليك أن تتسلح بكل الجدية الممكنة وتستعد لصفعات السخرية والدعابة، وأن تنتقي الكلمات وأنت تحاول فهمه أو شرحه، ذلك لأن عالم كونديرا الحسّاس جدًا تجاه مفرداته وتراكيبه، يُملي عليك غالبًا ما تصفه به. إذ على الرغم من حريته اللامحدودة في اختيار كل ما يتعلق برواياته، يقيدك كونديرا باختيار الكلمات والأفكار التي تتناولها أنت في تحليله.

بقوة كلمات كونديرا، التي لا تتعب من المراوغة وتعابيره المنطرِحة من ثِقل المعنى، يُغرق كونديرا رأسك بالماء ثم يخرجه ليدَعَكَ تتنفس بضع دقائق هواءً نقيًا، قبل أن يعود ويغطس رأسك مجددًا في حوض الماء. إنه يتسلى بك، ولكنك تكاد تطير من الفرح واللذة، تُطلق له حريته وتسامحه على حركته السادية تلك، مقابل أن تحصل على المتعة المثقلة بالمعاني والدلالات، مقابل أن يهبك هو داخله الفسيح. أنت لست مازوخيًا حين تشعر بالنشوة ورأسك تحت الماء، أنت لا تفكر من تكون في هذه اللحظة أصلًا، لأنه وعدك منذ البداية بالنصر. أما ذلك الهواء القليل الذي تتنفسه بين كل غطسة تحت الماء والأخرى ليست على كل حال فاصل لإستعادة قوتك، بل فاصل لتفهُّم ضعفك، ضعفك أمام ما يفتتح كونديرا من عوالم بين يديك.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة