لا مقابر لأهالي دير الزور.. المعارك دمّرتها وأيقظت ذكرياتهم

مقاتلون في تنظيم "الدولة" يدمرون القبور في دير الزور (ولاية الخير)

camera iconمقاتلون في تنظيم "الدولة" يدمرون القبور في دير الزور (ولاية الخير)

tag icon ع ع ع

أورفة- برهان عثمان

’’انفجارات تهزّ المدينة ومحيطها وألسنة اللهب تتدفق مع الدخان المتصاعد كأنها انفجارات البراكين’’، بهذه الكلمات وصف أحد اليافعين في قرية قريبة من مدينة دير الزور، ما كان يشاهده أثناء قصف القاذفات الروسية والطيران الحربي للمناطق التي تقدم فيها مقاتلو تنظيمالدولة الإسلامية، في الجبل المطل على المدينة والمقابر المجاورة له، والتي طال الدمار جزءًا كبيرًا منها لتكون حلقة جديدة تضاف إلى مسلسل التدمير.

هذه ليست المرة الأولى التي تخرّب فيها أجزاء من مقابر المدينة، فالتنظيم دمر العديد من المقابر داخل مناطق سيطرته، والنظام فعل الأمر ذاته في فترات مختلفة.

لكن ما يجري اليوم هو الأوسع نطاقًا والأكثر أثرًا، كون المعارك دمّرت المقابر الموجودة على الجبل المطل على دير الزور والذي يعدّ المدفن الأساسي لسكان المدينة، وله خصوصية ورمزية في نفوس كثير من الأهالي، بحسب عددٍ من الناشطين، الذين أكدوا لعنب بلدي أن هذه الممارسات تدمير لصلات الناس بأرضهم وذكرياتهم، متحدثين عن الأرض التي تفقد كل شيء، وعن مقابر فارغة وقبور ترحل وموتى يتلاشون دون أثر.

وتمكّن تنظيم “الدولة” من عزل مطار دير الزور العسكري، عن الأحياء الخاضعة لسيطرة النظام السوري في المدينة، بعد شهرٍ على المعارك.

وشهدت منطقة المقابر، جنوب المدينة، عمليات كرّ وفرّ، انتهت بسيطرة تنظيم “الدولة” عليها في 28 كانون الثاني الماضي.

تدمير الموروث الاجتماعي

ويقول الناشط بكر سعود ’’هناك يتناثر ما بقي من عظام الموتى تحت وطأة القصف المكثف”، مضيفًا أن هذه المنطقة بقيت ممنوعة عن الأهالي أكثر من خمس سنوات، وتحولت إلى نقاط عسكرية ومتاريس بعد أن كانت مدفن المدينة، ثم شكلت مع بداية الحرب شريان حياة المدينة وممرها الإنساني.

ويؤكد بكر أن المدينة تحولت خلال الأعوام الأخيرة إلى “يباب”، لا شيء فيها سوى الرمل والموت، وأن الكثير من معالمها اختفت ’’المؤلم في الأمر هو فقدان أجزاء مهمة من العادات والتقاليد والذاكرة الجمعية لأهالي دير الزور، والتي لن تتعرف إليها الأجيال القادمة”.

كلام الشاب يؤكده لعنب بلدي الباحث الاجتماعي طه الطه، “فقدنا الكثير من التقاليد خلال الأعوام الأخيرة، بما فيها طقوس الجنائز التي كانت تشكل جزءًا منا وشكلًا نودع فيه موتانا”.

ويشير الطه إلى ما يشكله الموت وطريقة الحزن والجنائز ومراسم الدفن وحتى شكل القبر كجزء أساسي في ثقافات الشعوب وخاصة الشرقية، وجزء أساسي من الموروث الديني والاجتماعي.

فهذه الطقوس هي محاولة للشعور باستمرار وجود الموتى بين الأحياء، فليس معنى الدفن في القبر إقصاء الميت عن الحياة وإنما أن يصبح القبر مزارًا لأهله وأحبته. واعتبر الباحث أن هذه التقاليد “اختراع عظيم يستعيد فيه الميت وجوده، ولذا نرى صعوبة تصوّر الموت بلا قبر”.

وبحسب الطه، فمن التقاليد أيضًا تجاوز المجتمع لعدم زيارة العرس، لكنه يعتبر ترك العزاء إخلالًا بالواجب نحو الميت وعائلته.

ما هي طقوس الموت في دير الزور؟

ويتفق الكثير من أبناء دير  الزور على أهمية طقوس العزاء، التي كانت متبعةً للتخفيف على ذوي الميت وجمع شمل العائلة والمجتمع في هذه المناسبات، كما يقول عمر فرحان، أحد شباب دير الزور، لعنب بلدي، إذ لطالما شكلت هذه العادات جامعًا للناس.

ويوضح فرحان بعض مراسم الدفن والجنائز التي كانت في مدينته، حيث تسير وراء جثمان الميت أعداد من المشيعين الذين يرافقونه إلى مثواه الأخير (مكان دفنه)، ليصبح بعدها مقصدًا للزيارة من قبل ذويه، وزيارات القبور قد تكون في كل خميس بعد الوفاة ومع قدوم الأربعين، ومع كل عيد، ثم الزيارة كل عام، حيث يجتمع أفراد العائلة في المقبرة، مثل “خريطة زمنية للعائلة”، على حد تعبير الشاب الثلاثيني.

كان العزاء يمتد لثلاثة أيام بشكل متوازٍ لكل من النساء والرجال، إذ ينصب صيوان (خيمة كبيرة) لاستقبال المعزّين من الرجال، الذين توزّع عليهم القهوة العربية المرة، أما النساء فغالبًا ما يتم استقبالهن في بيت الميت.

ذاكرة قوية يتمتع بها الشاب، الذي يرى أن هذه الصور انقرضت بعد الحرب، ولم يبقَ في عقول اليافعين اليوم سوى أطياف من صور غير واضحة وحكايات الأكبر سنًا عن هذه العادات.

اغتيال الذاكرة والهوية وإزالة لمعالم الأرض، حسب الخالة “أم محمد”، التي تقول لعنب بلدي إن “ما يرسم ملكية الأرض ليس فقط الحدود والسندات الورقية المكتوبة، بل صلات عميقة وروابط مع التراب ورفات الأحبة والأهل الموجودة فيه”.

العجوز، التي تجاوزت منتصف العقد السادس من عمرها، تؤكد أن جل ما تتمناه هو أن تدفن بجوار أبيها وأمها في مقبرة العائلة ’’لقد ابتعدت عن بيتي طلبًا للأمان، لكني لا أريد أن أدفن في أرض غريبة”.

وتتذكر “أم محمد” كيف كانت تصعد لقراءة الفاتحة كل عيد، وكيف تتنقل بين مقابر العائلات بعدها لتلقي التحية، وتضيف “ذلك الجبل كان يمتلئ بشرًا صبيحة كل عيد”.

يقول ابن سيرين، في كتابه الشهير “تفسير الأحلام”، إن نبش القبور في المنام فأل سيئ وعمارتها فأل حسن، مقاربة لم تعد اليوم غريبة للكثير من الديريين الذين يبدون حزنهم لما يجري في مقابرهم من تدمير كلّي يطمس الذكريات، ويقطع الصلات، ويمحو هوية المنطقة وآثار من سكنها.





×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة