«وجدت ثيابي تباع على بسطة بمبالغ زهيدة؛ البائع حاله كحالي وليس هو السارق طبعًا»

ثياب البالة في سوريا بين السرقات و«ستر العورة»

tag icon ع ع ع

حنين النقري – عنب بلدي

 

يمسكها بين راحتي يديه يتفحصها، يشمّ رائحتها ويتأكد من بطاقتها الداخلية (made in germany)، يتمتم «كنزة لاكوست لا تفوّت»، يجادل البائع في سعرها ويناوله 900 ليرة سورية ثم يخرج سعيدًا بكنزه.

بالة حمصية

اعتاد رامي التوجّه إلى حيّ كرم الشامي في حمص بعد دوامه الجامعي، باحثًا عن ثياب تناسبه بين محال البالة المنتشرة بكثرة، ورغم أنه قادر على شراء ثياب جديدة محليّة الصنع فهو يفضّل أن يشتري ما يحتاج من أسواق البالة «الثياب كلها أوروبية؛ أشتري معظم ما ألبسه من هنا، ماركات عالمية شهيرة وبأسعار رخيصة، ماذا أريد أفضل من هذا؟ بات أصحاب المحلّات يعرفونني ويخبروني بمواعيد قدوم وجبة جديدة».

وتعتبر تجارة الثياب المستخدمة من الأمور الشهيرة عالميًا منذ ما يزيد عن 100 عام، إذ بدأت كحاجة اقتصادية مع بداية الحرب العالمية الأولى وانتشار الفقر والهجرات المكثفة للمدنيين من بلد لآخر، فظهرت جمعيّات خيريّة توزّع الثياب المستخدمة للمهاجرين والفقراء المحليّين، لتتوسع بعدها الثياب المستخدمة كتجارة وتتعزز بشكل أكبر مع قدوم الحرب العالمية الثانية.

الحاجّة أم هاني من أهالي حمص القديمة مقيمة حاليًا في حيّ الإنشاءات، تشتري لأبنائها ما يحتاجون من ثياب البالة مباشرة «فالكنزة الجيّدة هنا بـ 850 ليرة سورية، بينما سعر الكنزات متدنية الجودة يزيد عن ثلاثة آلاف ليرة سورية».

تؤكّد المهندسة (ك.س) ازدياد إقبال الناس على الثياب المستخدمة -وهي منهم- وترى أن الحرب والفقر ليسا السبب الوحيد «بل تدنّي جودة البضائع الوطنية بشكل كبير بالإضافة لأسعارها الناريّة؛ صديقتي اشترت حذاءً شتويّا بقرابة 15 ألف ليرة سورية، لكنني بعُشر هذا المبلغ أشتري قطعة أجنبية أجمل وذات جودة أفضل».

ثيابٌ مسروقة!

وتعتبر مسألة البضائع المستخدمة في سوريا عمومًا من الأمور الشائكة، إذ يؤكد البعض أن هذه الثياب مسروقة من الأماكن التي اقتحمها جيش الأسد ونهبها ليبيع ما فيها، لكنّ رامي له كلام آخر «معظم الباعة من الأشخاص الذين أعرفهم قبل الثورة والبضائع كلّها أجنبية لا يمكن أن تكون مسروقة، أخبرني أكثر من بائع أنهم يحصلون على البضائع بتهريبها من لبنان -مع دفع مبالغ كبيرة للحدود لإدخالها-، بينما يأتي آخرون بها عن طريق تجار الساحل».

ويضيف «البضائع المسروقة تباع في سوق السنّة في وادي الذهب بشكل علنيّ، حتى أن أحد أقربائي ذهب إلى هناك ووجد كتبه ممهورة باسمه تباع على إحدى البسطات».

أما الآنسة (ع.م) فتخالف رامي بما تراه في شوارع العاصمة دمشق، وهي من سكّانها، إذ تعتقد أن كثيرًا مما يُعرض على  البسطات منهوب من بيوت المدنيين «أكاد أجزم بوجود مسروقات ضمن ما يباع في الثياب والأدوات المستخدمة؛ العديد منها بضائع وطنيّة كما أن الباعة يطلبون أحيانًا ثمنًا أرخص بكثير من قيمتها الحقيقيّة، الأمر الذي يعكس أنهم عناصر مخابرات وأنها بضائع مسروقة».

وسواء أكانت مسروقةً أم مستوردة، يبقى لدى آخرين أسباب كافية لشرائها كالسيّدة (ه.ن) النازحة من الغوطة الشرقية إلى مدينة التلّ وتشتري لأبنائها الأربعة من بسطات البالة المنتشرة في المدينة «بصراحة لا أسأل أحدًا عن مصدر هذه الثياب، لأنني لا أستطيع شراء ثياب جديدة كما كان حالنا سابقًا، أتجوّل على كافة البسطات الموجودة هنا، أشتري ما هو مناسب لهم وأغسله، ما يهمني هو أن أرى أبنائي سعداء».

خط أحمر اجتماعي

انتشار محالّ الثياب المستخدمة وإقبال الناس عليها لا يعني أنهم تخطّوا الحاجز الاجتماعي أمام الناس، فمعظمهم يتخفى أو يبحث عن محال بالة في حارات بعيدة عن مسكنه ليخفي ذلك عن المحيطين به، ومنهم المهندسة (ك.م) «في الحقيقة المجتمع ينظر إلى من يشتري البالة نظرة دونيّة، فلم أتعرض لها؟ أخترع قصّة لكل قطعة ثياب مميزة ألبسها أمام أصدقائي، وحدهم أهلي يعرفون المصدر الحقيقي لثيابي».

يضيف رامي بهذا الشأن «المجتمع يمارس رقابة مزعجة بمن يخالفه بهذا الشأن، علمًا أن من يقومون بالاستنكار والتكبر على الثياب المستخدمة قد يكونون من روّادها ومشتريها بكثرة».

الآنسة مروة نازحة وأهلها إلى التل في ريف دمشق لها رأي آخر، فرغم عمل والدها كموظّف وتواضع راتبه إلا أنهم لم يعتادوا أن يلبسوا «قديم غيرهم»، تقول مروة «كانت أمي تدّخر لتشتري لنا ثيابًا جديدة، ورغم حاجتنا المادية لم نشتر يومًا قطعة ثياب من البالة، لا يروقني أن أرتدي ثياب غيري لكنّي لا أنكر هذا على أحد».

تجارة «مربحة»

يخطّط الشاب محمّد من سكّان الإنشاءات لافتتاح محلّ لبيع الملابس المستخدمة رغم انتشار العديد من المحلّات في حيّه فهو يرى أنّ «تجارة البالة مربحة للغاية ولا تحتاج لرأس مال، فقط تحتاج لعلاقات مع الحواجز والحدود لتمرّ البضاعة، نشتري البضائع بالوزن، ونبيعها بالقطعة، وهكذا يكون المربح كبيرًا ويغطي الرشاوى التي ندفعها للحواجز ودرك الحدود».

ويرى محمّد أن النظرة من زاوية واحدة هي ما يجعل الناس يخفون تداولهم للبالة، في حين أنها تجارة رائجة عالميًا ولها أسواق على الإنترنت «بل إن هناك جماعات في الغرب تروّج للبالة باعتبارها إعادة تدوير للثياب وتسهم في الحفاظ على البيئة، بالإضافة إلى عدم وجود خطر صحيّ من استخدامها بسبب خضوعها لعمليّات تعقيم في البلد المصدر، ثم يغسلها أصحاب المتاجر مرة أخرى».

وراء الحصار

وللبالة مع الغوطة الشرقية المحاصرة شأن آخر، حيث تنتشر بسطات ومحال الأدوات والثياب المستخدمة بشكل كبير، الأمر الذي يدفع البعض للجزم بأنها بضائع مسروقة، تؤكد ريمة، وهي طالبة أدب فرنسي سابقًا، هذا الأمر «بعد عودتنا للغوطة منذ عامين وجدنا منزلنا مقصوفًا بشكل جزئي، والكثير من محتوياته مفقودة، بعد ما يزيد عن العام وجدت ثيابي تباع في بسطة للبالة بمبالغ زهيدة، للأسف لم أستطع إلا أن أتحسّر على ما يجري وأمضي، فالبائع حاله كحالي وليس هو السارق طبعًا».

لتفادي شراء بضائع مسروقة وتلافي الشبهة في هذا، يبتكر بعض أهالي الغوطة نوعًا آخر من البالة، وهو تبادل الثياب المستخدمة بشكل شخصيّ بين العائلات، وعن هذا تقول السيدة أم عمر «الحصار المفروض على الغوطة جعل الأسواق بحالة مأساوية، يتمكّن بعض التجار من إدخال القليل من البضائع لكنّ أسعارها جهنميّة وجودتها متدنية جدًا، لهذا نتّجه لخياطتها منزليّا، وتبادل الثياب القديمة الجيّدة بيننا أنا ومعارفي، لا أحد يترّفع اليوم على لبس القديم، حياتنا كلّها تغيّرت والمظاهر التي كانت تحكمنا هي أول من مات مع أول يوم من الحصار».

البعض يشتريها رفاهية ورغبة في تكديس المزيد من الماركات في خزانته، وآخرون يشترونها لتردّ عنهم العيون وتستر عوراتهم حيث هم، وما بين هذا وذاك قصّة شعب يعيش المفارقات كلّها.

تاريخ البالة في سوريا

–  لم تكن البضاعة المستعملة مرخصة في سوريا قبل عام 2000.
– ناقش مجلش الشعب في حزيران 2001، إمكانية استيراد هذه الألبسة وخلص إلى إقرار توصيات بأن تكون مزودة بشهادة صحية تؤكد خلوها من الجراثيم، إضافة إلى أن تحدد الكمية المناسبة وأن يتم استيرادها من عائدات قطع التصدير.
– لم تتحول هذه النقاشات إلى قوانين، لتبقى الثياب المستعملة تصل إلى سوريا عبر التهريب، من الإمارات والأردن ولبنان التي غدت في السنوات الأخيرة المصدر الوحيد لها.
– عرف حي القنوات في دمشق والحشيش في حمص والبالة في حلب وحماة، بهذه البضائع خلال الفترة التي سبقت الثورة.
– في 2012 نشأت ظاهرة “سوق السنة” في عددٍ من المناطق المؤيدة، ويباع فيها مسروقات المناطق الثائرة، كالسومرية في دمشق، ووادي الذهب في حمص.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة