محمد رشدي شربجي
بعد ثلاثة أشهر من خروج الجيش السوري الحر من داريا إلى مدينة إدلب، قرر المجلس المحلي لمدينة داريا الأسبوع الماضي حل نفسه وإنهاء أعماله رسميًا، بعد أن انتفى سبب وجوده وهو “وجوده على أرضه”، بحسب ما أشار بيان صادرٌ عنه.
لم يكن المجلس المحلي مؤسسة عادية، فقد تأسس مع مجزرة داريا والتي راح ضحيتها حوالي 500 شهيد أعدمتهم قوات الأسد ميدانيًا، وكشفت خللًا وفوضى كبيرة بقدرات الجيش الحر وقتها.
منذ تأسيسه في تشرين الأول 2012 وضع المؤسسون نصب أعينهم هدفًا أساسيًا وهو إظهار قدرة السوريين على تقديم بديل مدني ديمقراطي أفضل، مع أن أي بديل هو أفضل من بشار الأسد، وذلك بالتأكيد على تبعية المجلس العسكري للمدني (المكتب العاشر)، في خطوة لم تتكرر في الثورة السورية للأسف، فالشائع هو العكس مع كتائب شكلت مكاتب إغاثية وخدمية وقضائية تابعة لها.
لم يستطع المجلس التقاط أنفاسه حتى هاجمت قوات الأسد المدينة مرة أخرى في تشرين الثاني 2012، لتفرض على المجلس ظروف عمل بالغة الصعوبة، لكنه استطاع خلال سنوات الحصار العجاف أن يخفف من وطأة المأساة على الأهالي، وأن يدير، برغم شح الإمكانيات والضغوط الأمنية الهائلة، برنامجًا إغاثيًا استفاد منه أبناء داريا في قرى ريف دمشق الغربي.
لم يكن العمل سهلًا بالتأكيد خاصة مع انسحاب معظم الكفاءات من المشهد، ومنهم كاتب هذه السطور، واستشهاد بعض الكوادر المؤثرة كالشهيد محمد قريطم أبو النور، والشهيد عدنان مراد، مع ترك مهمات تنوء عنها الجبال، من إغاثة عشرات آلاف المحتاجين، إلى مكتب القضاء وإدارة السجن، مرورًا بالدفاع المدني والمكتب الإعلامي، لمجموعة قليلة من الشباب تصدت لهذه المهمات بجدارة.
انفصل المجلس العسكري فيما بعد (لواء شهداء الإسلام) عن المجلس المحلي مع ضغط المعركة وقلة الموارد، ولكن العلاقة بينهما بقيت متشابكة وغالبًا ما حضر ممثلون عن اللواء اجتماعات المجلس كأعضاء فاعلين فيه، دون أن يتدخلوا بطبيعة الحال بعمل المكتب القضائي أو مكتب الخدمات والعمل الإغاثي كما حدث في غير مناطق للأسف.
شكل التطرف المتزايد داخل المدينة بفعل الحصار معضلة صعبة لم يكن من السهل التعامل معها، وكثيرًا ما حاول هؤلاء إثارة الغبار بوجه المجلس بوصفه مرة بـ “العلمانية والكفر والزندقة” وغيرها من الكلمات الغريبة العجيبة وصلت أحيانًا إلى حد الاعتداء على كوادر المجلس، واتهامات بالسرقة والاختلاس وصلت حتى إنشاء صفحات وهمية على صفحات التواصل الاجتماعي لتشويه سمعة أشخاص بعينهم، عدا عن اتهامات دائمة بالعمالة للماسونية والصهيونية وغيره من الكلام المعروف.
في كل مرة كان المجلس يتعامل مع كل استفزاز بحكمة وانضباط، ودائمًا ما كان يجد حلًا توافقيًا بطريقة أو بأخرى لتركيز الجهود على المعركة الأساسية مع النظام، حتى حالة الاعتداء التي حصلت من قبل مجموعة مسلحة على كوادر المجلس عالجها من خلال المكتب القضائي دون انتقام، مكرسًا بذلك نموذجًا أراد أن يراه في عموم سوريا.
لم تكن الحالة وردية بالتأكيد، ولكن حالة المجلس شكلت سابقة من نوعها على مستوى الثورة، كما شكلت كذلك حجة على المجتمع الدولي الذي كرر صباح مساء أنه لا يدعم المعارضة بحجة عدم وجود البديل، ثم عندما حاول البعض إيجاد بديل تركهم لمصيرهم مع عدة آلاف من براميل بشار الأسد أجبرتهم على الخروج من بلدهم في أبشع عملية تطهير عرقي جرت أمام أعين العالم أجمع.
بإنهاء المجلس المحلي لمدينة داريا أعماله، تكون الثورة طوت أهم صفحة من صفحات العمل المدني المنظم في الثورة السورية، صفحة أراد لها أهل داريا ألا تطوى، وأراد العالم مع نظام الأسد أن يلقي عليها برميلًا متفجرًا ويمزقها إلى الأبد.