القدس ودمشق.. ضياع الجزء الشامي من رموز الإسلام

  • 2017/12/17
  • 12:22 ص

إبراهيم العلوش

بعد سقوط دمشق بيد الاحتلال الروسي، والاحتلال الفارسي المتخفي تحت مظلة التشيع والمقاومة بشكل زائف، تسقط القدس اليوم ويتم اعتبارها رسميًا عاصمة لدولة إسرائيل العنصرية، ويتم حرمان الفلسطينيين والمسلمين من المدينة المقدسة التي كانت أولى القبلتين لدى المسلمين.

ورغم أن دمشق هي رمز سياسي كعاصمة للدولة الأموية، ولم تكن رمزا دينيًا، إلا أن الكثير من المسلمين يلقبونها بشام شريف تكريمًا لمقامها ولأضرحة متصوفيها وللأساطير المنسوجة حول وجودها، اعتبارًا من نزول آدم أبو البشر فيها، مرورًا بدفن ابن عربي فيها، وهو أحد أهم المتصوفين في تاريخ الإسلام.

للقدس حضورها الإسلامي كما لها حضورها الديني لدى أتباع الديانتين المسيحية واليهودية، وكان حريًّا بالأمريكيين اعتبارها رمزًا للتعاون، وللتآخي وبعث الأمل في منطقة الشرق الأوسط الغارقة بأوهامها، وبالهروب إلى تاريخها القديم، وهي غارقة أيضًا بالعنف الذي يزيد محنتها يومًا بعد يوم.

يصرّ الكاتب خيري الذهبي على أن قريش هي قبيلة شامية، وكانت وفية لدمشق عندما جعلتها عاصمة للدولة الأموية، التي حكمها بنو أمية القرشيون. وعبرها تمدد الأمويون إلى حكم الأندلس، لكن الثأر الفارسي لكسرى، ولدولته الوثنية أثار سخط الإيرانيين وتذرعوا بأساطير الحسين ومقتله، المنسوجة على غرار أساطير الإله تموز، واعتبروها أداة لدك العالم العربي، وتخريب استقراره، وما سلوك الدولة الإيرانية اليوم إلا نزوة قومية عنصرية ضد العرب، وإلا ما معنى أن تقوم بكل هذا القتل في دمشق، وتورّد لسجونها أدوات التعذيب، وما فرن حرق الجثث الإيراني الذي وثقت وجوده منظمة العفو الدولية في سجن صيدنايا، سيئ الصيت، إلا دليل من أدلة كثيرة على هذه الوحشية، وما معنى أن دولة دينية كإيران الخمينية، تساند نظامًا نازيًا يعتقل أكثر من ربع مليون شاب وشابة، ويهجر نصف تعداد الشعب السوري من بيوتهم، ومن بلدهم، تحت شعارات زائفة للمقاومة وللمانعة، إلا أنها تغطي حقدًا تاريخيًا وعنصريًا ضد ثالث عاصمة للدولة الإسلامية بعد مكة المكرمة والمدينة المنورة.

تتميز القدس بإرثها الحضاري الذي عاشته بلاد الشام عبر تاريخها المتعدد، حيث تتميز بتنوعها وبتعدد ديانات سكانها، وانفتاحها الديني والقومي فهي تحتوي على المسلمين وعلى المسيحيين بأنواع كنائسهم، وعلى اليهود، وعلى الأرمن وغيرهم، على عكس المدينة المقدسة الأولى في الإسلام مكة المكرمة، التي يمنع دخول أتباع الأديان الأخرى إليها، أو يمنعون من السكن فيها.

وتاريخ القدس يحتوي على حقول ملونة من الحضارات التي سادت في بلاد الشام ولونتها، وأكسبتها القدرة على الاستمرار والتحدي لصعوبات الزمن، ونزوات الشعوب، وتقلبات أمزجتها، وحاجاتها وتوجهاتها.

وعندما وقفت القدس ضد الغزو الصليبي، فهي كانت تدافع عن مسلميها، وعن يهودييها، وعن مسيحييها الشرقيين، خاصة الذين كانت تعتبرهم الكنائس الغربية كفارًا، ومارقين عن طاعة البابا، وعن هيمنة الكنيسة الكاثوليكية التي كانت تحكم العالم المسيحي آنذاك.

يسقط العالم العربي اليوم في دوامة فشل ذريع، ويخسر الكثير من مكتسباته، ومن ثرواته، ولعل خسارة الرموز التاريخية، مثل القدس ودمشق، تعتبر من العلامات البارزة في هذا التردي، فإيران تضع كل ثقلها من أجل إلغاء اسم دوار الأمويين، وتفتك بالبشر انتقامًا لمعركة سياسية وقعت بين المسلمين قبل حوالي ألف وأربعمئة عام، وتسببت بمقتل الحسين بن علي الذي كان يطمح أن يكون خليفة على المسلمين، وقد فشل بذلك. ولكنه صار عنوانًا للانتقام الفارسي الذي لم ينس، حتى الآن، خسارة كسرى ملكهم الوثني، وفتح بلادهم أمام العرب والمسلمين الذي عصف بهويتهم الوثنية المتكلسة آنذاك، والتي لم تستطع حتى أن تبدع أبجدية خاصة بها، ناهيك عن أن المسلمين، هم من كتبوا تاريخ بلاد فارس القديمة، وهم من جددوا ثقافتها بعد أن كانت في حالة من الجمود والتسلط والفراغ التاريخي، فالمؤرخ الإسلامي الطبري هو من أعاد كتابة تاريخ بلاد فارس، وصارت كتاباته مرجعًا للفرس ولدراسة ماضيهم.

عندما انطلق الإسلام خارج الجزيرة العربية، امتص إرث الحضارات المحيطة بالجزيرة العربية مثل الحضارة السومرية، والبابلية، والآشورية، والحثية، والآرامية، والفرعونية، والبيزنطية، والفارسية، وصار الإسلام جامعًا لثقافة الشرق الأوسط ومفصلًا مهمًا في التاريخ البشري، وقد توسع إلى ما وراء البحار حتى الصين شرقًا وإسبانيا غربًا، في ثورة دينية، وثقافية، وإنسانية بلغت أوجها في العصر العباسي، الذي صارت الدولة الإسلامية فيه من أهم الدول في التاريخ، كما يقول الكثير من المؤرخين.

القدس التي زارها عمر بن الخطاب وصالح أهلها وأزال الخوف من نفوسهم، تسقط اليوم مع قرار ترامب بتأميمها كعاصمة لدولة إسرائيل العنصرية. وفي نفس الوقت يتكاتف الروس والإيرانيون على سلب العرب رمزية دمشق، ويصرون على إذلال أهلها والسوريين جميعًا، وتعذيبهم، وتهجيرهم، مستغلين انهيار العالم العربي، واختطاف الإسلام بأيدي الإرهابيين الدواعش والخمينيين من جهة، وبأيدي مشايخ السلاطين المنافقين من جهة أخرى.

ليس من السهل إلغاء الرمز، وليس من السهل التغلب على سحره، فمضمون الرمز وقواه الخفية المكتنزة من دلالاته ومن الثقافة الصانعة له، لن تنضب، ما دامت هذه الثقافة قابلة لإعادة الإحياء والنمو، وما فصل الهزيمة والعار الذي يبسط سواده على القدس، وعلى دمشق، إلا فصلًا عابرًا بالنسبة لمدينتين عاصرتا عددًا كبيرًا من الحضارات، وتحدتا آلاف العوائق والصعوبات، وظلتا مدينتين مستمرتين، وستظلان مستمرتين، رغم كل حماقات ترامب، ورغم كل أحقاد الجاهلية الفارسية، ورغم وحشية المافيا الروسية أيضًا، ولن تسحق روح هذه البلاد وهذه المدن العريقة، رغم كل ما يمر بها من انكسار.

مقالات متعلقة

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي