بعد فشل الهجوم المباغت الذي شنه حزب الله في ريف حلب الشمالي بالتعاون مع الجيش السوري وميليشيات شيعية أخرى، يتحدث إعلام الحزب عن ضباط من دول مجاورة ساهمت في إفشال هذا الهجوم.
وإنه أشبه بالكوميديا السوداء أن الحزب الذي يفاخر ليل نهار بتدخله عسكريا في دولة ليست دولته، لديه من الوقاحة ما يكفي ليتهم الآخرين بالتدخل في شؤون «تدخله» الشخصي.
والحقيقة أن حزب الله قد استبطن المقاومة على مدى عقود من الزمن، حتى بات مقتنعًا قناعة تامة أن مركز القضية (المركزية) قد انزاح من القدس وتموضع في عمامة السيد حسن.
فإسرائيل لم تعد هي التي يعرفها العالم، الموجودة على أراض فلسطينية محتلة جنوب لبنان وغرب سوريا وشمال مصر، وإنما هي ما يحاربه حزب الله في أي مكان وأي سياق، وبالمنطق ذاته فإن من يحارب حزب الله أينما كان حتى لو كان إنسانًا سوريًا يبحث عن كفاف يومه في شمال حلب هو إسرائيل.
ولا شك لدي أن حزب الله قاوم إسرائيل على مر العقود، وهذه المقاومة مارسها الحزب عن قناعة وليس ادعاءً كما فعل النظام السوري، فإسرائيل اغتالت عشرات القادة والنشطاء من الحزب، وتذخر مراكز الأبحاث الإسرائيلية والأمريكية المحسوبة على إسرائيل بمئات، إن لم تكن آلاف من الدراسات التي تؤكد هذه الحقيقة، فلا داعي لإنكارها، ويجب أن لا تعمينا خصومتنا كسوريين مقهورين بسلاح هذا الحزب عن رؤية حقيقته.
ولكن مما لا شك فيه أيضًا أن حزب الله قاوم غير إسرائيل على مر العقود، قاوم بناء دولة في لبنان، وقاوم رغبة السوريين بالحرية والانعتاق، وأرسل جنوده لذات الهدف في العراق، وكل هذا ارتكبه الحزب بدافع المقاومة وباسم فلسطين.
ويتشابه مع حزب الله في هذا تنظيم الدولة الإسلامية وتنظيم القاعدة وأشباههما، فقد استبطنوا الإسلام على مر الزمن حتى باتوا مؤمنين إيمانًا ثابتًا أنهم هم الإسلام (والمسلمون) ولا أحد آخر، فمن يحاربه هؤلاء هم الكفار، ومن يحاربهم حتى لو كان مسلمًا مثله يدعو إلى نصر دين الله وتطبيق الشريعة، فهو يحاربهم لأنه يكره الإسلام.
ما الذي يجعل المقاومة التي هي فعل يستهدف نصرة الشعوب وتحررها، تدفع بحزب الله لأن يكون أداة لقهر الشعوب؟ وما الذي يجعل الإسلام الذي تعامل مع غير المسلمين عبر القرون بتسامح نسبي ندر مثيله في (زمانه) أن ينحدر ليدفع تنظيم الدولة لاقتراف القتل المجاني ومطاردة كل ما له علاقة بالعقل إلى هذا الحد؟
وبالتأكيد فليس حزب الله وتنظيم الدولة بدعًا من التاريخ، فقد شهد التاريخ (القريب والبعيد) مئات الحركات التي مارست باسم أسمى الأفكار والمعتقدات أقسى وأفظع الانتهاكات التي من المفروض أنها -هذه الأفكار والمعتقدات- جاءت لتحارب هذه الانتهاكات ذاتها.
إنه بؤس الإيديولوجية! أو بشكل أدق، إنها الأفكار حين تصبح مادة سياسية، إنها الأفكار حين يموت من أجلها الناس، إنها إيقاف العقل وتعطيل المنطق، إنها قياس العالم بمقياس الإيديولوجيا، وليس قياسها بمدى ما تقدمه من خير للإنسان، وعليه فإنهم لا يقبلون في عداد الإنسانية إلا من وافق على أفكارهم، ولا يبدون تعاطفًا مع مخالف حتى لو كان طفلًا رضيعًا!
والحق فإن الأفكار (كل الأفكار) هي سلاح ذو حدين، ومن الممكن لأي فكرة تدعو للعدالة أن يرتكب باسمها جرائم إبادة جماعية، ولا حل لذلك إلا الانتماء للإنسان، ولن يؤدي هذا بحال من الأحوال للتخلي عن المقاومة أو الإسلام كما يحذرنا الإيديولوجيون، ولكنه سيحفظ هذه الأفكار العظيمة من الانحرافات الكبيرة التي من الممكن أن تبلى بها.
اليقظة الدائمة والتذكير المستمر بالانتماء الإنساني، هو ما يحفظ الأفكار من التحول إلى وحوش، وهو ما عناه الشهيد علي شريعتي حين قال: «كن حاضر الذهن في الموقف، لأنك إن لم تكن كذلك، فكن أينما تريد أن تكون، قائمًا للصلاة، أو جالسًا على طاولة الخمرة فالأمر سيان».