فؤاد حقي و”المخابرات الجوية”

  • 2022/09/25
  • 1:44 م
الكاتب السوري إبراهيم العلوش

الكاتب السوري إبراهيم العلوش

إبراهيم العلوش

قتل فرع “المخابرات الجوية” في دير الزور مدرس الرياضيات فؤاد حقي وأجّل موته تسع سنوات!

توفي فؤاد حقي في 12 من أيلول الحالي بعد وصوله إلى فرنسا في بداية هذا الشهر للعلاج وبوساطة الأمم المتحدة، التي تأخرت حتى وصل الموت الغامض الذي خطط له جهاز المخابرات، سواء بالتعذيب الممنهج أو كما يخمّن البعض بحقنه بمادة كيماوية غامضة تسببت بهذا الموت المديد.

إذا كان الأسد الأب قد اتخذ “الأمن العسكري” أداته المباشرة للإرهاب، فإن الأسد الابن اعتمد جهاز “المخابرات الجوية” للتنكيل بالسوريين، وكان مدرّس الرياضيات فؤاد حقي من ضحاياه عندما تم استدعاؤه إلى “المخابرات الجوية” في صيف عام 2013، وبعد شهرين تم الإفراج عنه مصابًا من أعمال التعذيب التي مارسها الجهاز الوحشي ضده، وقد قامت زوجته وأبناؤه برعايته بصبر أثار إعجاب الجميع.

وكان فؤاد حقي، المولود في عام 1954، أحد مدرّسي الرياضيات المتميزين في مدينة الرقة، والمؤسس لمراكز المعلوماتية في المحافظة. وكان هو وغيره من المدرّسين المخلصين، يرون التعليم وسيلة للتقدم والمعرفة، وليس أداة لإطلاق الشعارات وعبادة عائلة الأسد.

يمتد إرث آل حقي في مدينة الرقة إلى عشرات السنين، إذ كانت مكتبة “حقي إخوان” مركزًا للمعرفة منذ عام 1953 في شارع المتحف، حيث كان يجتمع المثقفون فيها، وقد تحولت إلى نادٍ ثقافي فُتح جزء منه للقراءة المجانية وللسجالات الثقافية في بداياتها البعيدة.

وترسخت العائلة حتى أخرجت العشرات من الخريجين الجامعيين والقضاة والشعراء والمدرّسين، وكان من أشهرهم الشاعر والمدرّس الشهير عصام حقي، والمدرّس فؤاد حقي، والكاتب فيصل حقي، والناشطة إلهام حقي، والقاضي والكاتب مصطفى حقي، وغيرهم.

كانت عائلة حقي بعيدة عن كل أشكال التعصب، إذ كان فؤاد أحد المدرّسين الذين وقفوا مبكرًا ضد الاستبداد، كما يقول طلابه ومنهم خالد الحاج صالح الذي كان يعطيه منشورات معارضة منذ الثمانينيات كما ذكر في نعيه له، رغم أن سلك التدريس كان تحت المراقبة القصوى من قبل أجهزة المخابرات، ولا يقبل النظام أي تسامح فيه.

وشارك المرحوم في التوقيع على “إعلان دمشق”، وشارك في مظاهرة “الأفواه المكمّمة” التي قادها الدكتور محمد الحاج صالح، وكانت ظاهرة أثارت أهالي الرقة، واُعتبرت من تواريخ الرقة الرافضة لاستمرار عصر المخابرات. وتم نقله تعسفيًا إلى بلدة سلوك في الشمال، وعلى بعد 90 كيلومترًا في محاولة فاشلة لترويضه.

ما الرسالة التي أراد النظام إرسالها لأهالي الرقة وللنخب المتعلمة فيها من تعذيب فؤاد حقي الناشط السلمي، وإرساله إلى بيته وهو ينوس بين الموت والحياة، وطبعًا ليس هو الوحيد، ولكننا نأخذ حالة فؤاد كإحدى أبرز الرسائل التي بعثها النظام معبّرًا عن خياره الذي لا يزال ينتهجه ضد السوريين.

لكن تلك الرسالة الإرهابية أعطت مفعولًا عكسيًا، فقد أثار خروج فؤاد حقي من فرع “المخابرات الجوية” بدير الزور وهو مشلول حالة من اليأس لدى الناس، وتيقنوا من استحالة التفاهم مع هذا النظام الذي لا يرى في السوريين إلا خرافًا في مزرعته الواسعة.

واليوم وبعد 12 سنة، لا يزال النظام يردد نفس الادعاءات والاتهامات بالإرهاب والتخريب، ضد كل من رفع رأسه مستنكرًا الفساد والاستبداد، ورغم أن النظام وداعميه الأساسيين صاروا مجرد جنود عند الإيرانيين وعند الروس، ويحنون لهم رؤوسهم بخنوع، فإنهم في المقابل لا يتنازلون للسوريين ولو باعتذار أو باعتراف بخطأ منهجهم الوحشي ضد السوريين الذين رفعوا الورود والأعلام، وغنّوا من أجل الحرية في بدايات الحراك.

نعى عصام حقي أخاه بقصيدة مؤثرة، أما فيصل حقي فنعاه بالمطالبة بإرجاع أخيه حيًا وكما كان في كامل صحته، ولكنه تجلى حيًا في نعي أهالي الرقة وكل السوريين، ومن كل الاتجاهات، وأعاد إلى الحياة تاريخ فؤاد حقي الذي درّس أجيالًا من السوريين، ومن الجزائريين، ومن السعوديين خلال مسيرته التعليمية.

فؤاد حقي جزء من تاريخ عائلة آل حقي في الرقة ومن تاريخ معلمي الرقة ومثقفيها، وموته بهذه الطريقة التي ابتدعها جهاز “المخابرات الجوية” هو علامة لا يمكن نسيانها، ولا يمكن ترك من ارتكبوها طليقين وينعمون بثرواتهم التي جنوها من تجارة الموت في بداية الحراك، ولاحقًا من تجارة “الكبتاجون” التي احترفوها وحوّلوا سوريا إلى مكان مشبوه بالمخدرات وبالإرهاب، بدلًا من أن يصبح بلدًا للحرية ولحفظ كرامة المواطن مهما كان أصله ومهما كانت طائفته.

وداعًا لفؤاد حقي، الذي لن ننساه ولن ينساه الفرات، فؤاد حقي الذي مات بين فرع المخابرات بدير الزور ومستشفى “ليون” في فرنسا، سيظل اسمه علامة نفتخر بها، ونفتخر بكل من ضحى من أجل هذه البلاد المنكوبة بالاستبداد.

مقالات متعلقة

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي