علي عيد
يحسب لرجل الأعمال السوري غسان عبود، وهو بالأساس من أوائل خريجي قسم الصحافة في كلية الآداب بجامعة “دمشق”، أنه أنشأ قناة تلفزيونية مدعومة بملحقات على الشبكة (موقع ومنصات على مواقع تواصل)، وهي حالة فردية في الإعلام الخاص، ولا أقصد المستقل، خلال السنوات التي تلت اندلاع الثورة ثم تطور الأحداث إلى مواجهات بين عدة أطراف.
مناسبة الحديث، هي إغلاق قناة “أورينت”، والصدمة التي شعر بها متابعو القناة، وهنا لا أقدم حكمًا في المهنية أو الاستقلالية، فتلك لها ظروفها الخاصة، وإنما أطرح السؤال الإشكالي حول دور قطاع الأعمال الخاص في الصحافة السورية التي ظهرت خارج جغرافيا الصراع بعد عام 2011، وكانت منخرطة في تحليله أو فيه.
وسوى “أورينت” لم يلحظ إسهام المال السوري الخاص في تأسيس صحافة خاصة، وكانت جميع التجارب في هذا الإطار بجهود قوى مجتمعية، وناشطين، وصحفيين، وجميع هؤلاء لا يملكون الخبرة والملاءة المالية لإدارة ودعم مؤسسات قابلة للحياة والاستمرار، وهو ظرف موضوعي إذا ما علمنا أن الإعلام أحد القطاعات الأكثر حساسية للمال، والأكثر كلفة مقابل العوائد.
وإذا افترضنا أن وسيلة الإعلام يمكن أن تتحول إلى مشروع مستدام بتمويل الجمهور أو المعلنين، فإن هذا يحتاج إلى وعي جميع الأطراف بأهمية الإعلام، وقناعتهم بأن المنتج الإعلامي هو في أحد جوانبه منتج أو سلعة ذات قيمة، ما يعني أن دفع ثمنها ليس نوعًا من الرفاهية.
التجارب الإعلامية السورية في الفترة التي سبقت العقد الأول من القرن الـ20، هي تجارب خاصة بصبغتها العامة، ابتداء من “مرآة الأحوال” التي أصدرها رزق الله حسون عام 1855، وصولًا إلى الفترة بين عامي 1908 و1918، إذ ظهرت عشرات الصحف والمجلات مع الإشارة إلى أن سوريا كانت تشكل عمق البلاد الشامية، وتركز العمل الصحفي والثقافي وقتها في ثلاث مدن رئيسة هي دمشق وبيروت وحلب، وبين تجارب الصحافة المميزة كانت تجربة صحيفته “الشهباء” في حلب، لصاحبها عبد الرحمن الكواكبي.
خلال التاريخ الطويل للبلاد الشامية، ثم سوريا، بدا أن نضال الصحافة الخاصة في القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية آخذ في التراجع، وصولًا إلى مرحلة وصول حزب “البعث” إلى الحكم، إذ انتهت التجارب الخاصة، وأصبحت الصحافة في قبضة السلطة، وجميع تجارب الإعلام الخاص في سوريا لا يمكن اعتبارها تجارب متقدمة كما هي الحال في الجارة لبنان على الأقل، والدول ذات التجارب العريقة في أوروبا والولايات المتحدة وغيرها من الدول التي يشارك فيها رأس المال الخاص بصناعة الإعلام، بل والاستثمار الناجح فيه.
هل يمكن القول إن رأس المال السوري جبان في الإعلام، نعم، يبدو الأمر كذلك، فتجارب رجال المال والأعمال في إنشاء وسائل إعلام اقتصرت على المقربين من السلطة في سوريا، مثل رامي مخلوف صاحب الحصة الكبرى في تلفزيون “الدنيا” وجريدة “الوطن” قبل انتزاعها منه، إضافة إلى محطات تلفزيونية شبيهة يملكها رجال أعمال بينهم محمد حمشو وسامر الفوز، وخرجت “أورينت” عن القاعدة كوسيلة ممولة من رجل أعمال سوري تتبنى رؤية سياسية لا اقتصادية، هدفها الأساس التشكيك في رواية النظام، وتقديم محتوى معادل في مواجهة محتوى إعلام الطرف الآخر، كما واكبت أوضاع السوريين داخل وخارج البلاد وفق سياسة خاصة لا تنفي الانحياز.
رجال الأعمال السوريون الذين تبنوا موقفًا حيال المرحلة لا يتماشى مع رغبة السلطة، فضّلوا دعم مشاريع إغاثة وحتى تمويل فصائل عسكرية على إنشاء وسائل إعلام مستقلة، والأمر يعود لقلة وعي بأهمية الإعلام، والبحث عن استثمار سريع العوائد في الصراع، أو بسبب الهروب من الكلف العالية للمنتج الصحفي، أو عدم نضوج سوق تحقق عوائد من المشاريع الإعلامية مع انهيار الاقتصاد وتأثر الغالبية العظمى من السوريين بهذا الانهيار إلى حد الجوع.
غياب دور قطاع الأعمال، وعدم رغبته بالتضحية المالية في الإعلام، نشأ عنه إعلام مستقل، ضعيف الحال، ومحدود، يعتمد على نموذج اقتصادي مطور، يناور في الهوامش، ومصدر موارده الأهم هم دافعو الضرائب في عدد من الدول المانحة، وصناديق الدعم المدافعة عن “الديمقراطية” و”حرية الرأي” حسب توصيفها، وهذا النموذج يتعرض لضغط شديد، وتهدده الأزمات الدولية، كما حصل خلال العامين الماضيين في ضوء حربي أوكرانيا وغزة، إذ تشير المعطيات إلى تراجع حاد في دعم تجارب المؤسسات الإعلامية المستقلة، ومنها التجربة السورية.
بالمقابل، بقي الإعلام المدعوم من السلطة بشقيه الرسمي والخاص على حاله، ما يظهر أن الاستثمار فيه يركز على أهداف سياسية بالدرجة الأولى، وهو إعلام لا يبحث عن كسب الجمهور بمختلف توجهاته، بل كسب معركة باتجاه واحد.
بين النموذجين، إعلام حصل على دعم حكومي من دول تتبنى موقفًا مما يجري في سوريا، ومثاله “تلفزيون سوريا”، وهو نموذج مطوّر للتمويل التقليدي الذي كان سائدًا خلال العقود الثلاثة التي سبقت “الربيع العربي”، إذا كانت “السفير” و”الحوادث” وغيرهما من وسائل الإعلام اللبنانية تعتمد على دعم سخي من حكومات عربية، لكنه ليس دعمًا ثابتًا، بل يضمنه مدى تلبية ذلك الإعلام لسياسات تلك الدول، أو تمرير ملفات وقضايا تهم تلك الحكومات وتمثل توجهاتها، إذ لا ترغب في الوقت نفسه أن تظهر في الواجهة.
في السنوات الأولى لاندلاع الثورة، سألني أحد رجال الأعمال السوريين عن إمكانية إنشاء محطة تلفزيونية بأقل التكاليف، أجبته بأن محطة قادرة على البث لنحو ست ساعات فقط تحتاج إلى كادر من نحو 70 شخصًا، أضف إلى تكاليف المعدات والبث والموقع، وكذلك كلف الإنتاج، وهذا يتطلب ما لا يقل عن نصف مليون دولار شهريًا، فأجابني أن هذا المبلغ يطعم عدة قرى شهريًا، ودون الخوض في المحتوى الذي كان يبحث عنه ذلك الثري السوري، تبين لي أنه لا يدرك أهمية الإعلام، ويعتبر أن اسمه مع “كرتونة” الإغاثة فيه عوائد أكثر من نقل أخبار وتقارير وأوجاع تلك المنطقة التي يطعمها، لقد كان الرجل يحارب في مضمار آخر غير الوعي، ولست متأكدًا من أن هناك رجل أعمال أو ثريًا سوريًا، وما أكثرهم، قدّم جزءًا من ماله من أجل نقل الحقيقة واستقلالية الصحافة وحرية التعبير، أو على الأقل تجربة إعلامية تسهم في وقف النزيف والتزييف.. وللحديث بقية.