لمى قنوت
تتقاطع العدالة الإنجابية مع قضايا وهياكل متعددة، مثل الإفقار، واللجوء، والنزوح، والهجرة، والمواطنة، والإعاقة، والرأسمالية، والمنظومة الأبوية، والعنف المبني على النوع الاجتماعي، والعنف الأسري وعنف الشريك الحميم، والعدالة البيئية، وسلطوية المؤسسة الطبية، والقوانين والأعراف المحلية، والاحتلال، والتمييز العنصري الممأسس، والاستبداد بكل أشكاله الذي يعوق حق النساء بالسيادة التامة على أجسادهن وحقوقهن الإنجابية.
تتمثل العدالة الإنجابية بثلاثة محاور رئيسة، أولًا: تقرير متى الإنجاب، وإذا كان مرغوبًا به في الأساس، وتحت أي ظرف، ثانيًا: قرار عدم الإنجاب وخيارات منع وإنهاء الحمل، ثالثًا: تربية الأطفال والطفلات مع توفر الدعم الاجتماعي وفي بيئة آمنة وصحية دون خوف من التعرض للعنف من أشخاص أو مؤسسات الدولة.
لمحة عن الإطار القانوني في سوريا
يعد الإطار القانوني في سوريا إحدى المشكلات الهيكلية التي تعوق العدالة الإنجابية. ويعتبر التوصيف الوظيفي للدولة ومؤسساتها بمنزلة القوى الشُرطية التي تطبق النظام الأبوي على النساء بتنوعاتهن، فدستوريًا، ورد في المادة “20-2″، بأن الدولة تحمي الأمومة والطفولة، وهو نص وصائي مطاط وحمال أوجه، وتجرم المادة رقم “524” من قانون العقوبات بيع وسائل منع الحمل، وتجرم كل من المادتين التاليتين، المادة “525” نشر أو ترويج أو تسهيل أو استعمال وسائط الإجهاض، والمادة “526” بيع أي مواد معدة للإجهاض أو سهل استعمالها، وتعاقب المادة “527” أيضًا كل امرأة أجهضت نفسها بما استعملته من وسائل أو استعمله غيرها برضاها، كما وتعاقب المادة “528” كل من أجهض امرأة أو حاول إجهاضها برضاها، وتعاقب المادة “529” من تسبب عن قصد بإجهاض المرأة دون رضاها، وتتضاعف العقوبة إذا أفضى الإجهاض أو الوسائل المستخدمة إلى موت المرأة.
وخفض القانون عقوبة الإجهاض في المادة “531” بعذر مخفف لمن تجهض نفسها محافظة على شرفها، ولمن يقوم بكل ماورد في المادتين “528” و”529″ إذا كان بهدف “المحافظة على شرف أحد فروعه أو قريباته من الدرجة الثانية”، أي يخفف القانون العقوبة عمن أجهض امرأة دون رضاها، وحتى إذا أفضى الإجهاض إلى موتها، طالما أنه متعلق بالشرف، بمعنى آخر مفهوم “الشرف” المبهم المطاط هو فوق مواطنية المرأة وإنسانيتها والسيادة على جسدها وعلى حقها بالحياة. ويطول التجريم كل من يُجري الإجهاض، ويُمنع من مزاولة المهنة، رجلًا أو امرأة، ومن يبيع العقاقير والمواد المعدة لذلك، وقد يغلق محله، وذلك حسب المادة “535”.
على أرض الواقع، توفرت أدوية منع الحمل وأدوية الإجهاض الكيماوية في الصيدليات، لكن في معظم الأحيان يحول بين النساء والوصول إليها وصاية المنظومة الأبوية والمؤسسة الطبية. أما الإجهاض العيادي فبشكل عام يمارس بشكل غير آمن، وتتعرض بعض النساء للاستغلال والتحرش ولمضاعفات صحية.
لا يُجرم القانون العنف الجنسي الذي يرتكبه الزوج مع زوجته (المادة 489)، ويستثنى الزوج أيضًا في المادة “490” التي تنص على: “يعاقب بالأشغال الشاقة تسع سنوات من جامع شخصًا غير زوجه لا يستطيع المقاومة بسبب نقص جسدي أو نفسي أو بسبب ما استعمل نحوه من ضروب الخداع”. ويبرز استهتار القانون بالبعد العميق لأثر الاغتصاب على صحة النساء والفتيات الجسدية والنفسية وأبعاد الوصم والضغوط المجتمعية والأسرية التي تمارس على المُعتدى عليهن حين يُمكن القانون المُغتصب من الاستفادة من العذر المخفف كما ورد في نص المادة “508”: “1. إذا عقد زواج صحيح بين مرتكب الجرائم الواردة في هذا الفصل وبين المعتدى عليها أوقفت الملاحقة (…). 2. يعاد إلى الملاحقة أو إلى تنفيذ العقوبة قبل انقضاء ثلاث سنوات على الجنحة وانقضاء خمس سنوات على الجناية إذا انتهى الزواج إما بطلاق المرأة دون سبب مشروع وإما بالطلاق المحكوم به لمصلحة المعتدى عليها”.
ثمة استثناءات قانونية تسمح للفتيان والفتيات بعد إكمال الـ15 سنة بالزواج، وذلك إذا حصلا على إذن قضائي كما تشير المادة “18” من قانون الأحوال الشخصية المعدل في عام 2019، الأمر الذي ينعكس على صحة وحياة الفتيات، وخطر مضاعفات الحمل والولادة التي تعتبر سببًا رئيسًا للوفاة في دول الجنوب العالمي.
في سوريا، لا يوجد قانون خاص بالعنف الأسري، ولا توجد أي خطة وطنية من أجل التصدي للعنف ضد النساء بتنوعاتهن، ولا يوجد أي قانون يكفل حصول الأمهات على الرعاية الصحية، ورعاية ما بعد الإجهاض، والحق بالوصول إلى المعلومات المتعلقة بالصحة الجنسية والإنجابية، كما لا توجد في سوريا سياسات التثقيف الجنسية العلمية في المناهج الدراسية، الأمر الذي أدى إلى رواج مصفوفات خاطئة ومشوهه تتناقل شفهيًا من جيل إلى جيل عن الحقوق الجنسية والإنجابية.
مواطنية منقوصة
تُحرم النساء من حقهن بإعطاء جنسيتهن لأزواجهن وأولادهن وبناتهن، إلا في حال عدم وجود صلة قانونية بالأب، كما نصت المادة “3–ب” من المرسوم التشريعي رقم “276” لعام 1969 على ما يلي: “من وُلد في القطر من أم عربية سورية ولم تثبت نسبته إلى أبيه قانونًا”، ومن ضمنها منحهن الجنسية لأطفالهن المولودين خارج إطار الزواج أو في حال كان الأب مجهول الهوية أو في حال جرائم الاغتصاب، لكن الاستناد إلى هذا النص نادر بسبب الوصمة والنبذ الاجتماعي.
ولا تعتبر شهادة امرأة تساوي شهادة رجل، بل وحسب المادة “12” من قانون الأحوال الشخصية المعدل، يشترط في صحة عقد الزواج حضور شاهدين رجلين أو رجل وامرأتين. إن الأثر الضار لانعدام الجنسية على النساء وأطفالهن وطفلاتهن هو حرمان من الخدمات المقتصرة على المواطنات والمواطنين، كما تؤدي النصوص المتعددة التي تنتقص من مواطنيتهن، والتي يحفل بها قانون الأحوال الشخصية المعدل، إلى إعاقة سيادتهن على أجسادهن وقراراتهن الإنجابية.
فقر الدورة الشهرية
يشكل إفقار السوريات بتنوعاتهن، الذي وصلت نسبته في منتصف عام 2023 إلى أكثر من 90%، والتهجير القسري، والنزوح، والاعتقال، وانعدام الأمن، أسبابًا رئيسة تؤدي إلى فقر الدورة الشهرية لديهن، بسبب عدم تمكنهن من الحصول على فوط الحيض القماشية، أو الفوط ذات الاستخدام الواحد، وقدرتهن المحدودة على الحصول على مياه نظيفة لغسل الفوط القماشية والملابس الداخلية، وحرمانهن أو ضعف قدرتهن على الوصول إلى الخدمات الصحية، والمنتجات المناسبة. وتكتمل دائرة فقر الدورة الشهرية في ثقافة العيب ووصم الحيض لتشكل عبئًا إضافيًا على صحتهن وحصولهن على المعلومات العلمية.
تُبرز العدسة التقاطعية للعدالة الإنجابية أثر الصراع المسلح في سوريا، والأثر البيئي المدمر الذي نتج عن الاعتداءات على حقول النفط، وفتح آبار النفط بشكل عشوائي، واستخدام وسائل بدائية في نقله وتكريره، وهو ما خلف آثارًا خطيرة على المياه السطحية والجوفية والأراضي الزراعية والرعوية، انعكست على الصحة بشكل عام، وبضمنها الصحة الإنجابية. كما أن قصف النظام السوري للمستشفيات والمراكز الطبية في الأماكن التي خرجت عن سيطرته، واستخدامه للعنف الجنسي في المعتقلات كسلاح لردع وترهيب المجتمعات، جعل من هذه العوامل بيئة خصبة للاضطهاد الإنجابي، رغم غياب الدراسات الرصينة وتحليها من عدسة العدالة الإنجابية.