عنب بلدي – خالد الجرعتلي
قبل نحو خمسة أعوام، فقد تنظيم “الدولة الإسلامية” سيطرته الفعلية في سوريا والعراق، وعاد كما كان، مجموعات صغيرة تبحث عن أهداف في أرياف وضواحي المدن، إذ سيطرت “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) على بلدة الباغوز شرقي دير الزور، وانتهت بذلك حقبة التنظيم كقوة تسيطر وتحكم مساحات واسعة على الأرض.
تنظيم الدولة الذي تشكل تحالف دولي لمحاربته، ترك أثرًا في المجتمعات المحلية التي كان ينتشر فيها، ومع فقدانه السيطرة الجغرافية بقي آلاف المحتجزين من المقاتلين السابقين في صفوفه دون خطط للتعامل معهم، كما دفعت عائلتهم الثمن الأكبر.
ترك المقاتلون عائلات، أطفالًا ونساء، وهم بالآلاف أيضًا، إذ كانوا وما زالوا يعرفون باسم عائلات مقاتلي تنظيم “الدولة الإسلامية”، في الوقت الذين يحاولون فيه الهرب من هذا الوصف بشتى الوسائل.
اليوم، وبعد مرور نحو خمس سنوات على نهاية حكم التنظيم، تعاني تلك العائلات من وصمة تبعية أحد أفرادها للتنظيم، ولم تنجح شتى محاولاتها للهرب من هذه الوصمة، أو بناء علاقة سليمة مع المجتمع المحيط.
وصمة لا مفر منها
يقيم محمد ذو الـ37 عامًا في بلدة الصبحة شرقي دير الزور، وهو عنصر سابق في تنظيم “الدولة”، بعد أن سجن في سجن “علايا”، وهو سجن تديره “قسد” ويضم الآلاف من مقاتلي التنظيم في مدينة القامشلي.
بعد أن خرج محمد من السجن، كانت مواجهة المجتمع هي أكبر مخاوفه، إذ قال لعنب بلدي، إنه قضى ست سنوات في السجن، وأفرج عنه مؤخرًا عقب اندلاع مواجهات بين عشائر من دير الزور و”قسد”، ولا تزال آثارها مستمرة حتى اليوم.
محمد الذي طلب عدم ذكر اسمه الكامل لأسباب اجتماعية، وأخرى أمنية، قال إنه يعاني اليوم من عدم قبول أهالي المنطقة له، بسبب منصبه الأمني السابق في التنظيم بريف دير الزور الشرقي.
وأضاف أنه حاول تجاوز ماضيه، وافتتح محلًا تجاريًا في البلدة التي يقيم فيها، لكن سكان المنطقة كانوا يعكفون عن شراء حاجياتهم منه، حتى ولو اضطروا لقطع مسافات طويلة للبحث عن بقال بديل.
وبالنسبة له، يرى أن سكان المنطقة متخوفون من ماضيه في التنظيم، علمًا أنه لم يسجل أي انتهاك بحق سكان المنطقة خلال فترة عمله لدى التنظيم، بحسب ما قاله لعنب بلدي.
يعتقد محمد اليوم أن سكان المنطقة يربطون حاضره بماضيه، ويشار إلى عائلته بأنها عائلة مقاتل في التنظيم، في الوقت الذي يعمل جاهدًا للهروب من هذه الوصمة التي تلاحقه، وفق تعبيره.
الوصمة نفسها تعاني منها زهرة، وهي زوجة مقاتل سابق في التنظيم، ينحدر من بلدة أبريهة شرقي دير الزور، قالت خلال حديثها لعنب بلدي، إن مشكلاتها مع المجتمع لا تنتهي، وتنعكس في الكثير من الأحيان على أطفالها.
لا ترى زهرة أن المجتمع مخطئ، إذ تعتقد أن المسؤولية يتحملها زوجها الذي انضم للتنظيم مبكرًا، ويُتهم بارتكاب جرائم بحق أبناء محافظة دير الزور.
زوج زهرة حكم بالسجن لمدة 20 عامًا بسبب الجرائم التي ارتكبها، وفق تعبيرها، لكن العقوبة لم تنتهِ هنا، بل وصلت حد تهرب عائلتها من التعامل معها أو مع أطفالها بعد العلم بالاتهامات الموجهة لزوجها.
وفي حزيران 2023، قررت “الإدارة الذاتية” لشمال شرقي سوريا (المظلة السياسية لـ”قسد”) البدء بتقديم السجناء لديها من مقاتلي تنظيم “الدولة” إلى محاكمات وصفتها بـ”العلنية والعادلة والشفافة”.
وقالت “الإدارة الذاتية“، إنها قررت البدء بمحاكمتهم بما يتوافق مع القوانين الدولية والمحلية الخاصة بـ”الإرهاب”، وبما يحفظ حقوق المدعين من الضحايا وأفراد أسرهم، مضيفة أن المحاكمة لا تعني عدول “الإدارة” عن رأيها في ضرورة إنشاء محكمة دولية أو ذات طابع دولي خاص بملف “إرهابيي” التنظيم.
وتضم سجون “قسد” الآلاف من مقاتلي التنظيم من جنسيات مختلفة، بينهم سوريون، كما تدير مخيمات تؤوي عائلات مقاتلي التنظيم، وتعمل بشكل دوري على إخراج السوريين من هذه المخيمات، لكن هذه المساعي تسير ببطء شديد، مقارنة بالأعداد الكبيرة للعائلات المقيمة فيها، ويقدر عدد أفرادها بأكثر من 55 ألفًا.
محاولات للهرب
مع تنامي حالة الرفض تجاه محمد، عزل نفسه في المنزل، وصار يميل لإبداء عجزه عن التواصل مع جيرانه، بحسب ما قاله لعنب بلدي، وهو يحاول البحث عن سبل لكسب مدخول مادي دون الاحتكاك مع المجتمع.
وأضاف أنه يرغب بالهروب خارج المنطقة التي لا يمكنه التواصل فيها مع أحد، لكنه يحمل مخاوف من الهجرة نحو تركيا، كونه مطلوبًا لفصائل “الجيش الوطني” التي تسيطر على ريف حلب الشمالي بتهمة الانتماء للتنظيم.
يعمل محمد اليوم في مجال الزراعة بمشروع في بادية رويشد شمالي دير الزور، ليبتعد عن أهالي المنطقة، ممن قال إنهم لم يتقبلوا وجوده بعد خروجه من السجن.
من جانبها، تقطن زهرة ذات الـ38 عامًا التي طلبت عدم الإشارة إلى اسمها لأسباب اجتماعية، في بلدة الحصان غربي دير الزور، وانتقلت للبلدة هربًا من نظرة أقاربها لها، لكنها لم تلحظ أي فارق في التعامل، إذ تمكن جيرانها الجدد من التعرف إلى عائلتها وقصة زوجها، وتبنوا موقفًا يشبه موقف الناس في مسقط رأسها الذي تركته.
وعزت زهرة فشلها بالهرب من هذه الوصمة إلى أن المجتمع المحلي شرقي سوريا ذو طبيعة عشائرية، ويرتبط الفرد باسم عشيرته، ومن خلال هذا الارتباط لا يمكن إخفاء هويته، أو ماضيه، أو أي تفصيل حوله.
مجتمعات “حمّاله”
يميل المجتمع السوري لوصم بعضه، وتتمحور هذه الوصمات حول جانب معتقدات الفرد عادة، إذ غالبًا ما تكون مرتبطة بالجانب القومي أو الديني أو العرقي، بحسب ما يراه الدكتور في علم الاجتماع صفوان قسام.
قسام قال لعنب بلدي، إن المجتمعات السورية عادة هي “مجتمعات حمّالة”، أي أنها تنقل حالة الوصمة من جيل إلى جيل آخر، وغالبًا ما تكون “عنيفة” من ناحية الحكم على الأفراد.
وأضاف أن هذه الحالة لا ترتبط بمقاتلي تنظيم “الدولة” أو بالواقع الذي يعيشه السوريون اليوم، إنما هي حالة موجودة في محاور من تاريخ المجتمع السوري.
ويرى قسام أنه في حالة مقاتلي تنظيم “الدولة” وعائلاتهم، فإن هذه الحالة قد تمتد لأجيال في حال لم تتعامل معها السلطات بطريقة صحيحة.
وفي حالات أشار إليها قسام من التاريخ السوري، قال، إن بعض المجتمعات تتناقل ألقابًا متعلقة بجذورها منذ قرون، مثل التركمان الذين بقوا في البلدان العربية بعد انسحاب الدولة العثمانية منها مطلع القرن الـ20، فميزهم المجتمع المحلي بأنهم تركمان، وليسوا من أبناء المجتمع الأصلي، وكذلك الشركس أيضًا.
هذه الوصمة ليست صحيحة من ناحية اجتماعية، بحسب قسام.
وتميل السلطات أو الحكومات لمراقبة فئة من المجتمع عبر وصمها، وتحويلها إلى فئة مميزة عن المجتمع المحلي، ما يسهل فرض رقابة عليها، لكن من ناحية اجتماعية سيرتب على هذه المجتمعات وصمة تلاحقهم لفترات طويلة.
وتتعامل الجهات الأمنية في حال رغبت بإجراء دراسة أمنية عن فرد بالطريقة نفسه، إذ يمكن ملاحظة أن التقارير الأمنية عادة ما ترد فيها معلومات عن جذور الشخص، وعائلته، وانتماءات أقاربه، بحسب قسام.
ما حلول “الإدارة الذاتية”؟
تقوم “الإدارة الذاتية” ببعض المساعي لدمج نساء مقاتلي التنظيم بالمجتمعات المحلية، من خلال دورات مهنية، وغيرها من النشاطات، لكنها تتركز على العائلات من مخيم “الهول” و”روج” فقط، ولا تشمل الرجال، ولا تنتج التأثير المطلوب في هذا الإطار.
وفي حديث سابق لعنب بلدي، قالت سندس طه، وهي موظفة في “لجنة المرأة” التابعة لـ”الإدارة الذاتية” في دير الزور، إن “اللجنة” تعطي أولوية لنساء وأرامل عناصر التنظيم من حيث الدعم والمساعدات الإنسانية.
وأضافت أنه خلال العام الماضي وحده، قدمت إحدى المنظمات الإنسانية مشاريع تعليم الحياكة والخياطة، وآليات التدبير المنزلي مثل صناعة “بيت المونة”، وصالونات التجميل النسائي.
وأضافت أن “اللجنة” تعمل على تطبيق نشاطات توعية للبالغين من أفراد هذه العائلات، في محاولة لدمج النساء بالمجتمع وتأهيلهن فكريًا وتطوير ثقافتهن.
سندس ترى أن نساء مقاتلي التنظيم على وجه الخصوص كنّ تحت تأثير التنظيم، ويحتجن إلى دعم، لكن لا توجد مراكز أو جهات متخصصة بتقديم الدعم لهن بشكل أساسي.