عبثية الانتماء.. ماذا يحدث في سوريا؟

  • 2025/05/05
  • 5:01 م
أحمد العسيلي

أحمد عسيلي

ما الذي جرى في وطننا خلال الأسبوع الماضي؟ سؤال بسيط، لكنه كفيل بأن يولّد مئة رواية متناقضة، ليس لأن الوقائع غائبة، فمعظمنا يعرف ما جرى، ولكل منا وسائل تواصله مع أماكن الصراع تلك، بل لأن إدراكها يخضع لتحولات نفسية وانفعالية تتجاوز الحدث نفسه، الجميع يتفق على المعطيات الأولية: تسريب صوتي نُسب إلى شاب درزي يهين فيه النبي محمد، تبعته اعتداءات جسدية من قبل طلاب في السكن الجامعي بحمص على طلاب من الطائفة الدرزية، لتبدأ سلسلة من أعمال العنف والقتل في مناطق متفرقة كجرمانا وصحنايا بريف دمشق، ترافقت مع مشادات واتهامات متبادلة على وسائل التواصل الاجتماعي، وشهادات تتراوح بين الزيف والصدق، تُروى وتُعاد بروح هستيرية محمّلة بالغضب، فكل طرف يركز على ضحاياه وعلى مجرمي الطرف الآخر.

لكن ما لا يمكن الاتفاق عليه، وما ينفلت من قبضة الوصف المباشر، هو: لماذا؟ لماذا يُستثار الناس إلى هذا الحد؟ لماذا تُطلق طاقة عدوانية هائلة في وجه “الآخر”؟ من “نحن” أصلًا ومن هذا “الآخر”؟ ولماذا يتماهى الأفراد مع جماعة أو سردية لا يعرفون عنها شيئًا، سوى أنها ليست “هم”؟

لفهم هذه التمفصلات النفسية، لا بد من التوقف عند تجربة لافتة في علم النفس الاجتماعي، أجراها عالم النفس الفرنسي من أصول بولندية يهودية هنري تاجفيل، الذي عاش تجربة الاعتقال في معسكرات النازية وأخفى يهوديته خوفًا من القتل، بعد الحرب، عاد ليسأل السؤال الجذري: ما الذي يدفع فردًا إلى كراهية آخر لا يعرفه، لمجرد انتمائه إلى مجموعة معينة لا حدود واضحة لها، فقد نجا تاجفيل من القتل لأنه ادعى أنه مسيحي، ولو عرف هذا “الآخر” أنه يهودي لأمسك بسكين وقتله، هكذا بكل بساطة! لكن لماذا؟

في العام 1970، أجرى تاجفيل تجربة شهيرة، جمع مجموعة من الأطفال، وقسمهم بشكل عشوائي إلى فريقين A وB، دون أي سمة واقعية تفصل بينهم، لاحقًا، طُلب من الأطفال توزيع مكافآت على أعضاء الفريقين، فظهر انحياز واضح، كل طفل فضل مكافأة أعضاء فريقه، حتى وإن لم يعرفهم شخصيًا. فقط وجود “نحن” و”هم” كان كافيًا لإنتاج الانحياز، أصبح هؤلاء الأطفال يميزون بشكل عفوي بين داخل وخارج المجموعة.

هكذا تعمل الهوية الاجتماعية، تكوّن الذات انتماء لجماعة، أحيانًا بلا سبب موضوعي، وتحمي هذا الانتماء كأنه امتداد للنفس. العدوان، في هذه الحالة، لا يُوجَّه إلى “الآخر” بوصفه فردًا، بل كتمثيل رمزي لما يهدد صورة “الذات/الجماعة”، تُمحى هنا ذاتية الفرد تمامًا، لم يعد ينظر إليه كإنسان له أهل وحياة وحقوق ومشاعر، بل ربما تربطنا به علاقة ما، ليصبح مجرد جزء من مجموعة، جزء من الـ”هم”، وكلما زاد الخوف والقلق زاد هذا التمسك بسجن الـ”نحن” والـ”هم”، وعلى العكس، كلما ازداد الإنسان طمأنينة تجرأ أكثر على الخروج من هذا التصنيف.

هذا ما يجعلنا نعيد التفكير في معنى الانتماء وحدوده. وهنا، تستدعي الذاكرة مشهدًا لافتًا من رواية “بلد صغير” للكاتب الفرنسي الرواندي غايل فاي، حيث يسأل طفل والده عن سبب الاقتتال بين الهوتو والتوتسي، هل هو العرق؟ اللون؟ الدين؟ اللغة؟ فيجيبه الأب بمرارة ساخرة: “لا شيء من هذا. فالكل أسود البشرة، يؤمنون بنفس الدين، ويتكلمون اللغة ذاتها… الفرق فقط في شكل الأنف”.

هذه المفارقة الساخرة تكشف جوهر المأساة، كيف تتحول فروقات شكلية، لا معنى لها في الأصل، إلى حدود للقتل والنجاة، إنها لحظة يتجلى فيها العبث بوصفه منطقًا منظمًا، كل ما تحتاج إليه الحرب الأهلية هو وهم الفرق، لا الفرق نفسه.

وما يحدث اليوم في سوريا لا يخرج عن هذه البنية، انقسامات حادة تتأسس أحيانًا على إشارات لفظية أو دلالات تاريخية جوفاء (“بني أمية”، “آل البيت”، “دروز”، “سنة”)، لكنها تُفعّل في الذهن الجمعي كأنها تمس جوهر الهوية، كل شتيمة تصبح طعنة في القلب، كل موقف حيادي يُترجم كخيانة، وكل رواية تُقرأ كإثبات على ذنب “الآخر”، وفقط الآخر.

في الواقع، لسنا أمام أحداث متفرقة، بل أمام تحشد انفعالي حول هوية خيالية، يتم فيها تبرير العنف بوصفه دفاعًا عن “نحن”، حتى ولو لم يعد أحد يعرف من تكون “نحن” أصلًا (هل هناك سريالية أكثر من ذلك)، هنا تتجلى عبثية الانتماء، حين يتحول إلى مرآة مشروخة لا تعكس الحقيقة، بل ترسم صورة مُضلّلة، قاتلة أحيانًا.

ربما يكون الخروج من هذه الحلقة المفرغة ممكنًا، إذا بدأنا بمراجعة نقدية للخطاب الطائفي (لخطابنا وخطابهم)، بالقدرة على طرح أسئلة جريئة، على شاكلة من نحن ومن هم، وتفعيل العدالة الرمزية، وتعزيز التربية على التفكير النقدي، بالقدرة على رؤية الخطأ وتسميته بكل حيادية، وتوسيع دوائر الحوار بين الجماعات، ودعم وسائل إعلام مستقلة، وأخيرًا، ترميم صورة “الآخر” في الوعي الجمعي لا عبر العفو بل عبر الفهم، للأسف وبكل صراحة لا يمكن القيام بكل هذا في ظروف الخوف والتوتر والاستقطاب تلك، لنكن صريحين وواقعيين، لأنها هكذا الطبيعة البشرية، نحتاج إلى حد معين من الأمان والثقة كي نستطيع الخروج من سجن الهوية المتخيلة هذه، نحتاج إلى أن ندرك أننا بخروجنا لن يكون هناك وحش مفترس بانتظارنا، وإلا لن نخرج أبدًا وسنبقى حبيسي أوهامنا، وهذا يتطلب الكثير الكثير من العمل، على أنفسنا وعلى دولتنا الوليدة.

مقالات متعلقة

  1. لمَ كل هذا الاستقطاب في الشارع السوري؟
  2. ظاهرتان تستحقان التأمل
  3. حوار علني لسرديتين في طرطوس
  4. سؤال الهوية في أزمة التمثيل الوزاري

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي