حين يتحوّل الغضب إلى “ترند”

  • 2025/05/19
  • 2:44 م
أحمد العسيلي

أحمد عسيلي

في غضون أسبوع واحد، عاش السوريون ثلاث هزّات نفسية متفاوتة: الزيارة المفاجئة للرئيس إلى فرنسا، وما أثارته من انقسام وجداني حاد بين من فرح بها وبين من عدها انتكاسة، ثم ضجة “ميرا وأحمد” التي اكتسحت وسائل التواصل ليومين متتاليين بكل ما رافقها من شحنات غضب طالت الجميع، وأخيرًا رفع العقوبات الأمريكية، وما رافقه من موجة فرح جماعي لم تستثنِ إلا القليل. هذه التحولات المتسارعة والمرهقة تستنزف الجهاز النفسي العام، وتخلق بيئة مشحونة يُستبدل فيها التفكير بالتفاعل، والسؤال بالانفعال، والتأمل بالاندفاع.

والواقع أن أيام السوريين منذ لحظة هروب الأسد من سوريا، أصبحت تتأرجح بين فرح عظيم، وحزن عميق، وخوف وترقّب، فهل يمكن تخيّل الطاقة العقلية اللازمة لعيش كل هذا في وقت متقارب؟ هل من المعقول أن يتمكّن أي جهاز نفسي من الصمود في وجه هذا التقلّب المستمر؟

وسط هذا المناخ المتبدل، اجتاحت الفضاء السوري الأسبوع الماضي حالة لافتة من الانقسام حول قضية بدت في ظاهرها “اجتماعية”، لكنها سرعان ما انزلقت إلى نقاشات عن الشرف، والهوية، والانتماء، والذكورة، والعار، بدأت القصة بخبر غامض عن فتاة تزور أهلها برفقة من قيل إنه اختطفها وتزوجها قسرًا، وسط حماية من الشرطة. ومع أن التفاصيل بقيت متضاربة، تحول الحدث سريعًا إلى ترند انفجاري، غصّت به المنصات بموجات من الغضب، والسخرية، والتحريض، والاتهامات المتبادلة.

لكن ما يهمّ هنا ليس الخبر ذاته، الذي استُهلك في النقاش حتى الابتذال، بل بُعدان يتجاوزانه:

الأول: ظاهرة الترند نفسها كملاذ نفسي في مجتمع مفكك ومثقل بالعجز.

الثاني: الآلية النفسية التي تجعل من المختلف خطرًا، ومن السؤال خيانة.

في البُعد الأول، سأحلل الظاهرة استنادًا إلى مفهوم طرحه المحلل النفسي الفرنسي أندريه غرين، يُعرف بـ”التفكير الأبيض” (la pensée blanche). يشير هذا المفهوم إلى حالة نفسية تكون فيها الذات غارقة في انفعال قوي (حزن، قلق، غضب)، لكنها عاجزة عن تحويل هذا الانفعال إلى فكرة أو خيال أو حتى صورة، يقف التفكير عند عتبة المشاعر، فيبدو العقل كصفحة مشحونة… ولكن بيضاء.

هذه الحالة نشاهدها كثيرًا في الممارسة العيادية، مريض يطغى عليه حزن أو قلق، ويعتقد أنه عاجز عن التعبير عن ألمه. لكننا نكتشف أحيانًا أن ما يشعر به هو مجرد شعور خام، بلا كلمات، بلا شكل، وهذه درجة أكثر إرباكًا من الحزن نفسه، حين يصبح الإنسان عاجزًا عن صياغة أحاسيسه، وهنا يجب أن أؤكد أن هذا النوع من “الفراغ” ليس خاصًا بأمراض الذهان فقط كما كنا نعتقد سابقًا، بل نشاهده حتى في إطار الاكتئاب واضطرابات القلق، بل وانخفاض المزاج.

في هذه الحالة، يصبح أي محتوى خارجي (صورة، فيديو، قصة) فرصة لإسقاط التوتر الداخلي، ليس لأنها تعبّر عنه بالضرورة، بل لأنها ببساطة تملأ الفراغ، وهكذا، يصبح الترند نوعًا من التخدير النفسي؛ بديلًا عن مواجهة الأسئلة المؤلمة، يندفع الناس إلى حدث يتيح لهم التفاعل والانفعال، دون الحاجة إلى فهم أو تحليل، فالمجتمع، كما الفرد، قد يعجز عن التفكير حين يُثقل عليه الألم.

أما البعد الثاني، وهو الأخطر: سهولة شيطنة الآخر المختلف، وتحويل السؤال إلى خيانة.

في قضية “ميرا وأحمد”، لم يتوقّف الغضب عند حدّه الطبيعي (وهو مبرر تمامًا عند الحديث عن عنف محتمل ضد فتاة)، بل تحول إلى هوس جماعي بصياغة رواية متخيلة: أحمد هو “أمير جهادي”، ميرا “سبية”، والشرطة “تسهّل السبي”. اللافت أن كلمة “السبي” لم تكن واردة في أصل الخبر، لكنها بدت وكأنها أُسقطت من الذاكرة الجماعية، كأنها كانت تنتظر فرصة لتخرج، تم استدعاء داعش (لا كواقع سياسي، بل كصورة للشر المطلق) بهدف إقصاء الآخر المختلف، وقولبته.

ما لبث الغضب أن تجاوز “الجاني المفترض”، وراح يُوجَّه نحو كل من تردّد، أو سأل، أو دعا إلى التأني، حتى لو لبضعة أيام فقط، لمعرفة حقيقة ما جرى، صار التساؤل خيانة، وتحولت المنصات إلى محاكم تفتيش تبحث عن “الخونة” بدل الحقيقة.

الخطورة لا تكمن في مضمون الرواية، بل في بنيتها النفسية: في رفض تعدد القراءة حتى للغة الجسد، في شيطنة الآخر، وفي عسكرة الاختلاف، لأننا هنا لم نكن نتحدث عن حقيقة بديهية كحقيقة أن بشار دكتاتور، أو واقعة شهدها الآلاف وموثقة بالصورة كرمي البراميل المتفجرة، أو جرائم الساحل السوري، بل رواية غامضة، كانت وقتها تحتمل، فعلًا ومنطقيًا، عددًا من التساؤلات، لكن جرى التعامل سريعًا مع هذه التساؤلات وكأنها أحد أشكال التواطؤ أو التبرير، وللأسف هذه البنية لا تقتصر على جماعة دينية، بل قد تتجلى أيضًا في أنماط يسارية أو قومية أو ليبرالية. التطرف، ببساطة، لا يسكن الأفكار، بل يسكن طريقة الدفاع عنها، والجانب المؤلم في القضية، أن موضوع الاختلاف نفسه يصبح كالعادة شيئًا جانبيًا يتبع الموقف السياسي، بل أحيانًا ننسى الضحية ذاتها لنتوه في دوامات من الاتهامات المتبدلة.

يبقى الأمل أن تكون هذه الموجات المتكررة من الانفعال مجرد فورات عابرة. لكن حجم التفاعلات، وسرعة التنقل بينها، وعمق الشروخ التي تخلّفها، تشير إلى هشاشة نفسية بنيوية. هشاشة تنتج جهازًا نفسيًا مرهقًا، سهل الانجراف، ومتعبًا من فرط ما حُمّل به من تحولات لا تهدأ.

مقالات متعلقة

  1. "التكويع" لدى المؤيدين.. قراءة سلوكية
  2. اضطرابات التفكير وارتباطها بالمواقف السياسية
  3. الحالة النفسية للسوريين في المنفى.. لماذا وصلنا إلى هنا؟
  4. الطاقة الانفعالية وتحولاتها.. تطبيقات في الحالة السورية

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي