مهنة كاشفة رافعة.. إنها الصحافة

  • 2025/05/18
  • 12:49 م
الصحفي علي عيد

علي عيد

يختبئ كثيرون في مهنة الصحافة أحيانًا خلف “الماكياج” أو الهندام أو حتى حجم العلاقات، في مهنة لا تخطئ أصحابها، كما يعتقد آخرون أنها بوابة للشهرة دون مهارات وتعب كبيرين.

بالفعل، تُعتبر الصحافة بوابة أبنائها نحو مجالات أخرى، فكم خرج منها مسؤولون سياسيون ودبلوماسيون وحتى رجال أعمال معروفون، بل وصل الحدّ إلى أن رؤساء كانوا صحفيين، منهم الرئيس التاسع والعشرون للولايات المتحدة الأمريكية وارن هاردينج (Warren G. Harding) ، ورئيس مجلس الوزراء في بريطانيا، بوريس جونسون، الذي طردته “التايمز” لعدم مهنيته، وتابع بعدها مراسلًا مع “تلجراف” ومحررًا في “تروي بيبل” و”سبكتاتور” قبل أن يصبح سياسيًا.
وربما الأهم أن كثيرًا من أهم كتّاب ومفكري وروائيي العالم هم ممن بدؤوا حياتهم كصحفيين، وأضرب مثلًا تشارلز ديكنز، وأرنست همنغواي، وألبير كامو.

وقد تورط كثيرون من المؤهلين في الصحافة في وقت متأخر مثل إحسان عبد القدوس ونجيب محفوظ، بينما أبدع آخرون في كليهما مثل عبد الغني العطّاري، وذهب آخرون ليكونوا مؤرخين سياسيين مثل محمد حسنين هيكل.

هناك سلسلة لا تُعد ولا تُحصى من الصحفيين الذين أثروا الثقافة والأدب والفلسفة أو أثّروا في حركة التاريخ، وعلى سجادة الصحافة الحمراء والرحبة مشى مفكرون ومبدعون لم يكونوا كذلك لولاها، فبينهم من عرفهم الناس عبر أعمدة ومقالات صحفية.

أما لماذا تُعتبر مهنة كاشفة، فلأنها تحتاج مهارات كبيرة، والصحفي يحتاج حسب اختصاصه إلى تغذية يومية؛ صحفي السياسة عليه أن يقرأ ما تكتبه الصحف والمجلات وما يخرج على التلفزة، وعليه أن يتابع التصريحات، ويهتمّ بالتحليلات، ويخطّ السياسة بالاقتصاد بالتاريخ، أما الصحفي الاقتصادي، فهو مطالب بقراءة يومية لأداء البورصات والشركات، ومعرفة علاقة التطورات بحركة المال والأسهم وتأثيرهما المتبادل، وصحفي الشأن الثقافي قد يحتاج إلى قراءة عشر روايات ليُجري حوارًا مع روائي واحد، وقِس على ذلك في الرياضة والمجتمع والفن وغيرها من المجالات.
إن لم يفعل الصحفي ما سبق، فهو مجرد موظف سطحي، يمكن أن يتعلم صياغة الخبر، ويجلس خلف شاشة الكمبيوتر اليوم ليجمع ما تقوله الوكالات ويرميه أخبارًا هنا وهناك على المواقع الإلكترونية أو الصحف أو الإذاعات والتلفزة، وقد يقضي حياته كذلك حتى النهاية.

وهي مهنة حارقة لأنها تُهلك العقل والبدن، إذ يمضي معظم الصحفيين حياتهم في فوضى تشبه حركة العالم، يستيقظون مع الزلازل والبراكين، وينامون على أصوات المدافع والصواريخ، ترسم الأحداث مسارات حياتهم، وتدمّر برامجهم، وكأن الصحفي خُلق ليتابع وينقل ويحلّل وينظّم الأفكار في وقت تتبعثر فيه حياته، وقلائل أولئك الصحفيين الذين يستطيعون ضمان الوفاء بموعد لعشاء أُسري أو رحلة صيد، وغالبًا ما يكونون أول ضحايا “FOMO” (الخوف من فوات الأشياء)، وهو خوف يختلف عن ذلك الذي يتسبب به الهوس المجاني لكنه يشترك معه في السلوك، والصحفي المجتهد لا يقبل أن يُخبره أحد بما حصل قبل دقيقة.

كثيرون من الصحفيين يعجزون عن اتباع أنظمة غذاء صحية، أو حتى الابتعاد عن التدخين وشرب المنبهات التي تكاد تشبه “متلازمة” المهنة.

كما يبقى الصحفيون أول ضحايا الآثار النفسية للكوارث والحروب بعد الضحايا المباشرين، وقد يؤدي تراكم تعرضهم لصور القتلى والمصابين أو الدمار إلى رضوض وأمراض نفسية تلازمهم طوال حياتهم.

بالعودة إلى كون الصحافة مهنة كاشفة، أستطيع القول إن صحفيًا لا يتمتع بقدر جيد من المعرفة باللغة، أو لا يملك الحواسّ الستة، أو لا يملك شخصية مرنة قابلة للتعلّم، سيرسب كل يوم في امتحان مهامه اليومية، ولن يغطي ضعفه هندام أو ربطة عنق.

أنصح زملائي القادمين إلى هذه المهنة أن يكونوا شغوفين بها، وأن يُمرّنوا حواسهم ومهاراتهم ولغتهم، وأن يتمتعوا بالصبر.

في عالم الإعلام الواسع، هناك موظفون وفنيون ومبرمجون ومسوّقون ومؤثّرون ومقدّمو برامج ومديرو برامج ومشاريع ومؤسسات وكتّاب عمود رأي كبار، وهؤلاء جميعهم مهمّون، لكن ليس شرطًا أن يكونوا صحفيين، والصحفي هو شخص يستطيع أن يشمّ رائحة الحدث من بعيد، وأن يتوقّع دون أن يتخرّص، ينقل ما يحدث دون أن يكون مجرد آلة تسجيل، ينبش وراء الحقيقة بحرفيّة عالية دون أن يتورط في التدليس أو التهويل، متمرّس وشجاع وموهوب ودؤوب وذو اطّلاع واسع، وهو مقلق بالضرورة.. وللحديث بقية.

مقالات متعلقة

  1. احموا صحفييكم
  2. من حكايات الصحافة وطرائفها
  3. مَن الصحفيون.. هنري كيسنجر ليس بينهم
  4. دور القراءة والمواكبة في بناء شخصية الصحفي

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي