استمرار التعامل بالليرة التركية يهدد السيادة والاقتصاد

  • 2025/05/25
  • 2:32 م
فئات من العملة التركية في أسواق إدلب- أيار 2025 (عنب بلدي/ محمد مصطو)

فئات من العملة التركية في أسواق إدلب- أيار 2025 (عنب بلدي/ محمد مصطو)

عنب بلدي – جنى العيسى

قبل خمس سنوات قررت السلطات المؤقتة في شمال غربي سوريا، حيث كانت هذه المناطق خارجة عن سيطرة النظام السابق، اعتماد العملة التركية بدل الليرة السورية لأسباب نقدية، وكان ذلك الحل مؤقتًا لحين التوصل إلى حل سياسي يغير حالة البلاد.

الآن، ورغم مرور أكثر من خمسة أشهر على سقوط النظام السابق، وانفتاح الأسواق بين المحافظات السورية، لم توضح السلطات النقدية قرارها حول وقف التعامل بالليرة التركية واستبدالها بالعملة الوطنية، بل على العكس، امتد تداول العملة التركية إلى باقي المحافظات حتى وصل إلى دمشق بحكم انفتاح الطرق التجارية والزيارات من المقيمين في شمال غربي سوريا نحو العاصمة.

لماذا اعتمدت

مع فقدان العملة السورية قيمتها بشكل كبير منذ عام 2011، فضلًا عن وقف العديد من التعاملات التجارية التي كانت تجري قبل 2011 بين ريف وحلب وإدلب ومناطق سوريا الأخرى، ولقطع الفائدة عن النظام السابق، وتنشيط التجارة الخارجية، وغيرها من الأسباب اعتمدت الليرة التركية كعملة محلية في شمال غربي سوريا في حزيران 2020، على حساب الليرة السورية.

جاء اعتماد العملة التركية بدل السورية بعد وصول سعر صرف الليرة السورية إلى حدود 3500 ليرة للدولار الواحد، وسط مطالب من سوريين بأن يكون الاستبدال حلًا مؤقتًا لحين الوصول إلى حل سياسي.

تتعرض العملة التركية المتداولة في إدلب للتلف، وقد تصل نسبة التلف إلى حد رفض التجار ومحطات الوقود قبولها والتعامل بها.

فضلًا عن مسألة السيادة الوطنية، كل المعطيات السابقة تفتح السؤال أمام سبب استمرار التداول بالعملة التركية كبديل عن السورية، وأثر ذلك على الليرة نفسها من جهة، والسوق النقدية من جهة ثانية، واقتصاد البلاد بشكل أوسع.

للحصول على معلومات تتعلق بخطة الحكومة حول استمرار إتاحة التعامل بالليرة التركية على حساب السورية ومستقبل هذا التداول وسط تمدده نحو دمشق، والآثار المحتملة لذلك، تواصلت عنب بلدي مع مدير مكتب العلاقات العامة والإعلام لدى وزارة المالية السورية، إلا أنها لم تتلقَ أي رد حتى ساعة تحرير التقرير.

السيادة والاقتصاد

العملة الوطنية تعد قضية اقتصادية وسيادية، لذلك نجد أغلبية الدول تضع على عملاتها رموزًا وطنية وتاريخية، هذا من الجانب السيادي، أما من الجانب الاقتصادي، فوجود أي عملات أجنبية في التداول لا يعد ظاهرة صحيحة، وهي تحد من قدرة البنك المركزي على ضبط السوق النقدية وعلى تحقيق استقرار العملة الوطنية، بحسب ما أكده الباحث في الاقتصاد السياسي يحيى السيد عمر.

وأضاف السيد عمر في حديث إلى عنب بلدي، أن اعتماد الليرة التركية في سوريا بدأ في الشمال السوري في ظروف استثنائية، وكان اعتماد الليرة التركية والدولار كعملة تداول مبررًا، لكن حاليًا لا توجد مبررات اقتصادية للتعامل بالليرة التركية.

 سلبيات أكثر

قد يكون لاستمرار تداول الليرة التركية بعض الإيجابيات، وفق ما يرى الدكتور يحيى السيد عمر، خاصة أنه قد يقلل من آثار وتبعات أزمة نقص السيولة، لكن السلبيات أكثر من الإيجابيات، خاصة أن وجود الليرة التركية في التداول وفي ظل عدم القدرة على تحديد كميتها الموجودة، قد يؤثر سلبًا على قيمة الليرة السورية، ومن الممكن أن يشجع على المضاربة، وبالتالي زيادة حدة التذبذب في سعر الصرف.

هذا كله يؤثر سلبًا على الاقتصاد الوطني، ويؤخر بدء الانتعاش الاقتصادي، وقد يؤثر سلبًا على الاستثمار الأجنبي، لأن المستثمر الأجنبي لن يتّجه للعمل في دولة قيمة عملتها متذبذبة وغير مستقرة، وفق الباحث.

 

وجود الليرة التركية في التداول وفي ظل عدم القدرة على تحديد كميتها الموجودة، قد يؤثر سلبًا على قيمة الليرة السورية، ومن الممكن أن يشجع على المضاربة، وبالتالي زيادة حدة التذبذب في سعر الصرف.

د. يحيى السيد عمر

باحث في الاقتصاد السياسي

استثناء وحيد

من أهم التحديات التي تواجه إدارة النقد في سوريا، أن تبنى على طرق علمية ثابتة لتحقق أهدافها في تحقيق التوازن النقدي، وضبط الكتلة النقدية (عرض النقود) مع كمية السلع والخدمات (الطلب على النقود)، والمحافظة على معدل تضخم +2% (يسمى التضخم الحميد)، وفق ما أوضحه الخبير الاقتصادي والمصرفي الدكتور إبراهيم نافع قوشجي.

وأكد قوشجي في حديث إلى عنب بلدي أن العملة الوطنية هي رمز للسيادة الاقتصادية، وأداة حيوية للسياسة النقدية، إذ تمكن الدولة من التحكم بالتضخم، وأسعار الفائدة، والنمو الاقتصادي، وقوتها تعكس ثقة المستثمرين، بينما ضعفها يهدد الاستقرار ويزيد التبعية للعملات الأجنبية.

الحفاظ على سيادة العملة الوطنية يتطلب إدارة نقدية رشيدة ودعمًا بالإنتاج المحلي والاحتياطيات، ما يجعلها أساسًا للاستقلال المالي والمرونة في مواجهة الأزمات، بحسب ما قاله قوشجي.

من الناحية الاقتصادية والسيادية، يُعد انتشار العملة التركية في سوريا ظاهرة “خطيرة” تهدد السيادة النقدية السورية، وفق ما يرى الخبير خاصة إذا تحوّل التداول من “ظرفي” إلى “رسمي”، والقبول به يعني عدة أمور تتمثل بمايلي:

1.    تقويض العملة السورية كأداة وحيدة للسياسة النقدية، ويتكرس ذلك برفض تجار تلك المناطق التعامل بالليرة السورية.

2.    تعميم التبعية الاقتصادية لتركيا، ما يضعف سيطرة مصرف سوريا المركزي على التضخم أو حركة رأس المال.

3.    تكريس الانقسام الاقتصادي بين المناطق الخاضعة للنفوذ التركي وتلك التابعة للحكومة السورية.

 

الاستثناء الوحيد للتعامل بالعملة الأجنبية هو إذا كان التداول مؤقتًا في مناطق محددة (مثل الشمال السوري) لسد فراغ نقدي بسبب انهيار الليرة السورية، لكن يجب أن يكون ضمن ضوابط صارمة لمنع التعميم.

د. إبراهيم نافع قوشجي

خبير اقتصادي ومصرفي 

 

خسارة “ريع السيادة للنقود”

إن انتشار الليرة التركية في العاصمة دمشق وغيرها يظهر تراجعًا خطيرًا في ثقة المواطنين بالعملة الوطنية، ويترتب عليه، وفق ما يرى قوشجي:

  • اختراق السيادة النقدية: تحوّل الليرة التركية إلى عملة احتياط أو تداول يومي، يعني نقل جزء من السياسة النقدية لتركيا (مثل تغيرات سعر صرف الليرة التركية التي ستؤثر مباشرة على الأسعار في سوريا)، وهذا ما يسمى التضخم المستورد.
  • تعقيد جهود الإصلاح النقدي: أي محاولة لإعادة تعزيز الليرة السورية ستواجه مقاومة من واقع تداول عملة أجنبية قوية، وكل الدول تمنع إعادة عملتها من الخارج ولا تقبلها كحوالات نقدية على الإطلاق، وهذا يعني بقاء الكتلة النقدية بالليرات التركية في سوريا، ولا يمكن الاعتماد عليها كاحتياطي لأنها ليست من العملات الرئيسة في العالم.
  • انتشار العملة التركية في سوريا يُشكِّل خسارة صريحة لمفهوم “ريع السيادة للنقود” (Seigniorage) ويناقض جوهر السيادة النقدية، فعندما تنتشر عملة أجنبية (مثل الليرة التركية) في السوق السورية، يفقد البنك المركزي السوري السيطرة على المعروض النقدي كأداة للسياسة النقدية، لأن الطلب ينتقل إلى العملة الأجنبية، ما يُعطِّل أدوات مثل تحديد أسعار الفائدة أو مكافحة التضخم.

الخبير قوشجي اعتبر أن انتشار الليرة التركية حل مؤقت وليس مستدامًا للأزمة النقدية، بل هو انعكاس لمشكلة سيادية واقتصادية عميقة، وأن المعالجة تتطلب استعادة الثقة بالليرة السورية من خلال سياسات نقدية مدروسة تعيد التوازن المالي، وتعزز القدرة على ضبط التضخم، وتحدّ من التأثيرات الخارجية السلبية.

إن نجاح هذه الإصلاحات سيحدد مدى قدرة الاقتصاد السوري على الخروج من حالة التبعية النقدية، وإعادة ترسيخ الاستقرار الاقتصادي الداخلي، ما يحمي البلاد من تقلبات الأسواق العالمية ويعزز الاستقلال النقدي في مواجهة الأزمات، وفق قوشجي.

مقالات متعلقة

  1.  التسعير بالدولار يربك تجار سوق "الهال" والزبائن بإدلب
  2. المنتدى الاقتصادي: قرار استبدال العملة غير ملزم ويحتاج لجهة سيادية
  3. جدل إلكتروني يناقش تحويل إدلب إلى مجتمع "لا نقدي"
  4. "تحت طائلة المصادرة والإتلاف".. لماذا منعت مجالس ريف حلب تداول ورقة 5000 ليرة

أخبار وتقارير اقتصادية

المزيد من أخبار وتقارير اقتصادية