أحمد عسيلي
تشير سلسلة من التحولات المتسارعة إلى أن الدولة السورية بصدد إعادة التموضع في الخارطة الإقليمية والدولية: رفع جزئي للعقوبات الأوروبية والأمريكية، استئناف نظام “سويفت” المالي، اتفاقيات استثمارية مع مواني دبي، تأسيس مجلس تنسيق اقتصادي مع الأردن، إعادة افتتاح بعض السفارات. مؤشرات كهذه توحي بمشهد جديد، تُقدَّم فيه السلطة على أنها فاعل إقليمي يستعيد شرعيته بهدوء.
في المقابل، تبدو الضفة الأخرى ساكنة بشكل مخيف، وأقصد هنا المعارضة السورية (وهي هنا تسمية مجازية أكثر منها واقعية)، فهي لم تُبدِ أي تفاعل يوازي هذه التغيرات. أقصى ما سُجّل في هذا السياق كان حملة إلكترونية عابرة اقتطعت تصريحًا لوزير الخارجية الأمريكي، ماركو روبيو، وكلمة يتيمة ألقاها الشيخ غزال غزال، رجل الدين العلوي، متحدثًا عن “علمانية طائفية” بدا معها كمجرد كاريكاتير ساخر لانفصال كامل عن الواقع، وبعض الأخبار عن دعوى قضائية رفعها بعض مؤيدي النظام السابق ضد الشرع في فرنسا، لا أعتقد أنها تجاوزت صفحتهم على الإنترنت، دون أن يكون لها أي تداعيات حقيقية على أرض الواقع.
هذا الواقع، بارتباكه ودلالاته، لم يكن إلا علامة على الفراغ الذي يلف ما يُفترض أنه خطاب معارض.
ولفهم أسباب هذا الفراغ، لا بد من العودة إلى بنية “المعارضة السورية” ذاتها، فمنذ أن أحكم الأسد قبضته الأمنية على البلاد، انقسم المشهد المعارض إلى جناحين عاجزين: “معارضة الداخل” التي تعمل تحت سقف النظام، تكرر مفرداته وتتحدث بشروطه، و”معارضة الخارج” التي وُلدت في أحضان القوى الداعمة، ونالت شرعية شكلية دون أن تمتلك أي ثقل شعبي أو مشروع سياسي. كلا الطرفين أخفق في إنتاج خطاب بديل، أو بناء علاقة تداول حقيقية بين القيادة (غير الموجودة) والقاعدة (غير المُلتفّة)، لا حاضنة اجتماعية، لا تنظيم، لا سردية مشتركة.
ومع ذلك، لا يمكن إنكار وجود محاولات صغيرة، شجاعة، جرت خلال السنوات الماضية، محاولات قام بها أفراد أو مجموعات حاولوا كسر القالب، لكنهم ظلوا جزرًا معزولة، غير قادرة على نسج علاقات عضوية مع الناس أو التعبير عن مزاجهم المعقد.
نحن هنا أمام معادلة مؤلمة: سلطة تتقدّم دون منازع، ومعارضة تتلاشى دون أثر.
هل يعني ذلك أن الأمل معدوم؟ ليس بالضرورة، لكن من العبث انتظار ولادة فورية لمعارضة ناضجة من رحم هذا الواقع المختل، المجتمع نفسه لا يزال رازحًا تحت أعباء الانقسام والخوف والفقر، أما المعارضة فلا تملك الأدوات ولا الخيال السياسي، ولا حتى هوية جامعة.
ما العمل إذًا؟ الجواب لا يكمن في استنبات معارضة جديدة بمقاييس الأحزاب أو الأيديولوجيات، بل في تأسيس فضاء انتقالي (Espace transitionnel) كما وصفه المحلل النفسي البريطاني دونالد وينيكوت، وطوّره لاحقًا الفرنسي ريني روسيلون ليمنحه بُعدًا اجتماعيًا أكثر دلالة وعمقًا.
الفضاء الانتقالي حسب التحليل النفسي، هو تلك المنطقة بين الواقع والخيال، بين الذات والآخر، حيث يُتاح للفرد (أو الجماعة) أن يُجرّب، أن يبتكر، أن يتدرّب على العيش، قبل أن يواجه العالم في قسوته الكاملة.
وعند إسقاط هذا المفهوم على الحقل السياسي، يصبح الفضاء الانتقالي هو المكان الذي يُعيد فيه المجتمع بناء ذاته، دون القفز مباشرة نحو السياسة الصلبة ومنافساتها، أي فضاء التكوين قبل التنافس.
وفي الحالة السورية، لا يمكن لهذا الفضاء أن يكون حزبًا سياسيًا، ولا تيارًا فكريًا، بل يجب أن يمرّ حصريًا عبر الفعل النقابي.
فالنقابة، بخلاف الحزب، لا تنطلق من عقيدة أو فلسفات نخبوية، بل تخرج من واقع ملموس: العمل، الأجر، المهنة، الحقوق، خطابها بسيط، غير أيديولوجي، جامع، وهي بهذا المعنى قادرة على اختراق الانقسامات الطائفية والمناطقية، لأنها تنطلق من وحدة المعاناة اليومية، لا من التنظير السياسي.
إنها حقل انتقالي بامتياز: مدرسة يومية يتعلم فيها الناس التفاوض، وبناء الثقة، والفعل الجماعي، ليست مصنعًا للنخب، بل ورشة حية لإعادة تركيب العلاقة بين المواطن والمؤسسة، بين الفرد والجماعة.
وفي ظل غياب الاستحقاقات السياسية (الرئاسية والبرلمانية) في الوقت الحالي وحتى خمس سنوات مقبلة، وتآكل الأحزاب، وهشاشة المجتمع المدني، تبدو النقابة (بتواضعها الظاهري) كالبذرة الوحيدة القادرة على كسر الانسداد، فهي ليست فقط وسيلة لتحسين شروط العمل، بل معمل لإنتاج الذات السياسية السورية، ومختبر للعيش المشترك، ووسيط عضوي قادر على مدّ الجسور بين فئات متنافرة.
الاعتراف بهذه الحقيقة لا يعني الهروب من السياسة، بل خوضها من مدخل مختلف، أكثر واقعية، وأكثر عضوية، وأكثر التزامًا بالزمن الطويل، فالمجتمعات لا تُبنى بانفعال الشعارات، بل بتراكم الخبرات، وبالبنية اليومية للتفاوض، حيث يتعلم الناس الخطوة قبل أن يركضوا، والصوت قبل أن يهتفوا.