أحمد عسيلي
مع بداية الثورة السورية، اختلفت مواقف النخبة السورية من ممثلين ومغنين وكتّاب، بين من وقف بوضوح إلى جانب الحراك الشعبي، وبين من اختار الوقوف في المنتصف، غالبًا بدافع الخوف أو الحذر، وبين من اتخذ موقفًا مؤيدًا للنظام صراحة، ودافع عن خطابه وسلوكه الإجرامي بوعي تام. ثم بعد سقوط النظام، شهدنا بعض مراجعات خجولة، بعضها بصوت خافت، وبعضها الآخر بصمت مطبق، فيما استمر عدد من هؤلاء المؤيدين السابقين بالظهور في الفضاء العام كأن شيئًا لم يكن رغم استمرارهم في تأييد قاتلنا.
لا يعنيني في هذا النص الحكم على هؤلاء، ولا البحث في نياتهم، ولا حتى مدى صدق تحولاتهم أو ثباتهم. ما يشغلني كطبيب نفسي أعمق من ذلك بكثير: كيف يعيش الطفل أو المراهق السوري هذا المشهد؟ كيف يفهم ما يحدث؟ وكيف يقرأ هذه التناقضات الأخلاقية السافرة؟
بعبارة أخرى: ما أثر هذا الانهيار في المعايير على بناء الضمير لدى الجيل الجديد؟
من وجهة نظر الطب النفسي، الضمير لا يُولد مع الطفل، بل يتشكل عبر علاقة معقدة بين التمثل والتماهي، بين العقاب والاعتراف، بين السلطة الأبوية وخطاب الجماعة، الطفل يتعلم الصواب والخطأ من خلال ما يُكافأ وما يُعاقب عليه في محيطه، ومن خلال ما يشاهده ويراقبه بعينه الطفولية، وهنا يأتي السؤال: ماذا يحدث حين يرى الطفل أن من برر القتل على الهواء مباشرة، أو مجّد المجرمين بملء صوته، يُستقبل اليوم كرمز وطني، ويجلس في الصفوف الأمامية لأي احتفال أو لقاء؟
هنا يحضر تحليل سيرج تيسيرون، وهو محلل نفسي فرنسي معروف جدًا في أوساطنا العلمية، اشتغل طويلًا على العلاقة بين الصور والعنف وبناء المعنى عند الطفل، يذكرنا تيسيرون بأن الطفل لا يتأثر بالعنف بحد ذاته، بل بغياب التأويل لهذا العنف، أي حين يُقدَّم له عنف بلا تفسير، بلا إشارة إلى أنه خطأ أو أنه جريمة، فإنه يلتقطه كجزء من الواقع، بل كاحتمال مشروع، ويضيف تيسيرون أن الصور التي تحمل عنفًا بلا إدانة، تُحدث في نفس الطفل تشوشًا طويل الأمد في إدراكه لما هو مقبول وما هو مرفوض.
وحين تكون هذه الصور مقترنة بأشخاص يحظون بالشهرة والتكريم، يصبح التناقض أكبر: كيف يمكن أن يكون الشخص نفسه ممثلًا محبوبًا، ومؤيدًا علنيًا للقتل؟ هل هذا يعني أن القتل لا يتعارض مع النجاح؟ أو أن البطولة لا تحتاج إلى ضمير؟
هنا بالضبط تبدأ أزمة الضمير: ليس كغياب لما هو أخلاقي، بل كغياب لما هو مفصول بوضوح بين الخير والشر، حين لا تعود هناك سلطة داخلية تحكم السلوك بناء على معيار أخلاقي متماسك، بل تصبح الأخلاق نسبية، متبدلة، خاضعة للسياق والمصلحة.
هذا التراخي الأخلاقي لم يكن يومًا قدرًا ، هناك أمثلة من التاريخ تظهر أن المجتمعات القادرة على الفصل بين الإبداع والدجل السياسي، كانت أكثر قدرة على حماية أطفالها من هذا الضياع، المثال الأشهر ربما هي حالة الشاعر الأمريكي عزرا باوند، رغم كونه من أعظم شعراء القرن العشرين، لم يُعفَ من المحاكمة بسبب تأييده للفاشية الإيطالية، بل وُضع في مستشفى للأمراض العقلية لمدة عشر سنوات، في لحظة تاريخية كانت المؤسسات النفسية تؤدي دورًا عقابيًا واجتماعيًا في آن واحد، وحتى الآن وبعد كل هذه السنوات من نهاية النازية، لا يسمح أبدًا بتبريرها، ولدينا في أيامنا هذه مثال المصمم العالمي جون غاليانو، لم يُدلِ بتصريح علني، بل تسرب له فيديو، وهو في حالة سكر، يتلفظ بكلام يعبّر عن إعجابه بهتلر، ومع ذلك، لم يشفع له لا سُكره ولا خصوصية الموقف، فُصل فورًا من دار ديور، وقوطع لسنوات طويلة، الرسالة كانت واضحة: لا تهاون مع تمجيد القتلة، لا داخل العمل ولا خارجه، لا عن وعي ولا حتى عن سُكر.
في سوريا، المشهد معكوس، الوقاحة علنية، والتمجيد موثق، والتواطؤ كامل، ومع ذلك يُكرّم أصحابه ويعاد تقديمهم كأبطال شعبيين، بل كصوت الشعب ذاته! هنا لا نتحدث فقط عن فقدان البوصلة الأخلاقية، بل عن إعادة برمجة الضمير الجمعي ليكف عن التمييز، وليتآلف مع ما لا يطاق، ما يقلقني هنا ليس فقط غياب العدالة، بل غياب الشعور بالحاجة إليها. حين يرى الطفل أن من برر القتل يُكافَأ، وأن من صمت على المجازر يُستقبل كأيقونة وطنية، كيف يمكنه أن يُنشئ ضميره؟ لسنا فقط أمام أزمة ذاكرة، بل أمام أزمة في تشكّل الضمير ذاته، جيل بأكمله ينمو على أرض أخلاقية رخوة، حيث لا يوجد ما يفصل بين الفعل والنتيجة، ولا عقاب يعيد التوازن، ولا أي أثر للّوم كأداة تربوية أو علاجية، فهل تتخيلون الحالة التي وصلنا إليها؟
وإذا كنا، نحن الكبار، قد تحاربنا لأكثر من 14 سنة لأن نظامًا قمعيًا خرّب قدرتنا على أن نكون مجتمعًا متماسكًا، فماذا سيفعل الجيل القادم، حين ينشأ في زمن لم يعد يعرف فيه من هو المجرم؟ حين يكبر على غياب النموذج الأخلاقي، وعلى شيوع التبرير، وعلى قطع السلسلة النفسية التي توصل بين الشعور بالذنب والرغبة في الإصلاح؟
لأجيال ما زالت صغيرة، أو لم تولد بعد، ستقرأ، وتطّلع، وستسأل. ولن تجد لدينا أي جواب تربوي سليم. نحن لا نحمي الحقيقة، بل نؤجّل الكارثة، نحن نقايض ضمير جيل كامل، فقط كي لا نزعج بعض الفنانين.