أحمد عسيلي
في الأيام الماضية، وجدنا أنفسنا كسوريين أمام مشهد بدا في لحظته الأولى وكأنه فرصة للفرح، إسرائيل تضرب قلب إيران وتقتل وجوهًا من الصف الأول، ثم ترد إيران بوابل من الصواريخ. بدا الأمر لبعض الناس وكأنه لحظة حساب مع عدوين تركا فينا خرابًا طويلًا، لكن شيئًا فشيئًا بدأ الفرح يختنق، كأنك تفرح لشيء لا تعرف تمامًا لمن تهديه، نحن الذين جربنا أن نُقتل بصمت، وأن يُقصف وطننا بينما العالم يدير وجهه، نعرف تمامًا أن هذه الحرب ليست حربنا، وكلما حاولنا أن نفرح، جاء السؤال يفسد علينا لحظة الانتقام: مع من نقف؟ (بالمناسبة، هو سؤال مطروح حتى لدى الشعب الإيراني نفسه)، وكأن هذا الشعور بحاجة لمبرر أخلاقي يشرحه، لموقف سياسي ورؤية تجعل هذا الفرح أكثر وضوحًا.
ما يحدث اليوم ليس مجرد تبادل ضربات بين دولتين بعيدتين عن حياتنا اليومية، هذه واحدة من اللحظات النادرة التي يرى فيها السوري مشهدًا عسكريًا كبيرًا دون أن يكون هو الضحية المباشرة فيه، إيران التي أرسلت ميليشياتها لقتلنا وتهجيرنا، وإسرائيل التي اعتادت قصف الأراضي السورية دون أن يرفّ لها جفن. فجأة العدو يضرب العدو، والمشهد يثير ارتياحًا تلقائيًا، لكنه ارتياح ثقيل. لم يكن المشهد بسيطًا، ولا الفرح خفيفًا، كان خليطًا مربكًا من الرغبة في الانتقام من إيران خاصة، والخجل من هذا الانتقام لأنه جاء بواسطة إسرائيل.
نفسيًا، الحياد صعب حتى في أبسط الأشياء، حتى في مباراة كرة قدم لا تعنيك، تجد نفسك بعد دقائق تميل لفريق ما، ربما لأن صديقك يشجعه، وربما فقط لأنك بحاجة للشعور بأنك مع طرف ما، نحن لا نتحمل أن نشاهد بلا انحياز، لأن الانحياز هو الذي يعطي للمشهد معنى، لكن كرة القدم مسألة خفيفة، أما في الحروب، فيصبح الحياد شعورًا ثقيلًا ومخجلًا، كأنك ضعيف، كأنك جبان، ولهذا يبدأ العقل في صناعة القصص: “أنا مع الطرف الفلاني لأنه أقرب إلي”، أو “أنا ضد الطرف الآخر لأنه أكثر ظلمًا”، نحن بحاجة لسردية، ليس لنفهم الموقف فقط، بل لنفهم أنفسنا أيضًا.
الأمر لا يتعلق فقط بالحروب والسياسة، هذه حاجة نفسية عميقة تمس كل البشر، هنا تظهر أهمية نظرية عالم النفس الاجتماعي الأمريكي جوناثان هايدت، أحد أبرز الباحثين في العلاقة بين المشاعر والسياسة، والذي اشتهر بأعماله حول كيفية صنع الناس لقناعاتهم السياسية والدينية. هايدت يقترح صورة جميلة لفهم هذه الآلية: العقل يشبه فارسًا صغيرًا يمتطي فيلًا ضخمًا، الفيل هو العاطفة، والفارس هو التفكير المنطقي. ما يعنيه هايدت أن الناس لا يتخذون مواقفهم نتيجة التفكير ثم يشعرون، بل العكس تمامًا، يشعرون أولًا، ثم يأتي التفكير المنطقي كـ”محامٍ” يبحث عن التبريرات المناسبة للطريق الذي اختاره الفيل سلفًا، نعم الفيل.
ولهذا السبب لا تبدو كثير من التبريرات التي نسمعها اليوم سوى محاولة لتجميل مشاعر عميقة قد تكون مربكة أو محرجة، هناك من يقول إنه يفرح بقصف إيران لأنه يكره الاحتلال الإيراني لسوريا، وهناك من يقول إنه يفرح لقصف إسرائيل لأنها عدو تاريخي. كل هذا صحيح جزئيًا، لكنه لا يفسر كل شيء، أحيانًا يكون الفرح أكثر قسوة من أن نقوله كما هو، أحيانًا نفرح لأننا تعبنا من الشعور بالهزيمة طويلًا، ونحتاج إلى أن نشعر ولو مرة واحدة أن العنف عاد إلى أولئك الذين دمّرونا، أحيانًا نحتاج فقط إلى أن نشعر أن أحدًا آخر يتألم مثلنا، حتى لو لم يكن ذلك انتقامًا مباشرًا.
ولأن المشاعر أحيانًا تكون قاسية أو حتى عنصرية في بعض الحالات، يبدأ العقل (هذا الفارس الصغير) في بناء قصة محترمة تليق بمظهرنا الاجتماعي والسياسي، كثيرون لا يريدون أن يقولوا: “أنا ضد إيران لأنني لا أحب الشيعة”، أو “أنا ضد إسرائيل لأنني أكره اليهود”، هذه عبارات ثقيلة، خطيرة، خاصة في بعض دول الشتات، وغير مقبولة اجتماعيًا في كثير من البيئات، ولهذا يبدأ الإنسان ببناء رواية أكثر احترامًا: “أنا ضد سياسات إيران”، أو “أنا مع حق الفلسطينيين”. ليس لأنه يكذب بالضرورة، بل لأنه بحاجة إلى أن يبدو أمام نفسه وأمام الآخرين وكأنه يتحرك من دافع أخلاقي نبيل، لا من دافع غريزي أو طائفي أو شخصي فقط.
لكن حتى مع وجود هذه التبريرات، تبقى الأزمة الكبرى أن السوري اليوم لا يملك مشروعًا سياسيًا واضحًا يُعرّف مَن الحليف ومَن العدو، لا يستطيع أن يرى في إيران حليفًا محتملًا بعد كل ما فعلته، ولا يستطيع أن يقنع نفسه بسهولة بتجاوز “تابو” إسرائيل المتجذر في ضميره الجمعي، العدو هنا ليس نقيًا، والحليف مستحيل. كل شعور في هذه الحرب هو لحظة شخصية أكثر مما هو خيار سياسي، فحتى لو جاء اليوم مشروع سياسي واضح ومتماسك، ستبقى مسألة الحلفاء مؤلمة ومحرجة، هل يمكن حقًا أن نتحدث يومًا عن إيران كحليف بعد أن امتلأت بيوتنا بأصوات قتلاها وخراب ميليشياتها؟ وهل يمكن أصلًا تجاوز فكرة العداء مع إسرائيل؟ نحن عالقون بين طرفين لا نستطيع اعتبار أحدهما حليفًا، ولا نستطيع أن نرى في الآخر خلاصًا.
ولهذا كله يبدو المشهد كمسرحية طويلة لسنا فيها إلا الجمهور، يحاول أن يقتنص أي شعور بالعدالة، ولو كان شعورًا زائفًا، فقط كي لا يشعر أن حياته بلا معنى.