تنظيم “الدولة” يعيد رسم حضوره في سوريا

  • 2025/06/30
  • 2:56 م
تشييع ضحايا التفجير الذي استهدف كنيسة "مار إلياس" في دمشق - 24 حزيران 2025 (سانا)

تشييع ضحايا التفجير الذي استهدف كنيسة "مار إلياس" في دمشق - 24 حزيران 2025 (سانا)

enab_get_authors_shortcode

حسن إبراهيم | جنى العيسى

هز التفجير الانتحاري الذي استهدف المصلين في كنيسة “مار إلياس” وسط دمشق، الشارع السوري، وأسفر عن مجزرة قتل فيها 25 شخصًا وأصيب 63 آخرون، ليسجل إحدى أعنف الضربات في قلب العاصمة، وخلق موجة واسعة من الإدانة على الصعيد المحلي والدولي والأممي.

التفجير الذي نفذه تنظيم “الدولة الإسلامية”، حسب وزارة الداخلية السورية، يعد تطورًا لافتًا في نمط الاستهداف، لا سيما أنه جاء بعد إحباط محاولتين سابقتين لضرب مواقع دينية بارزة، هي مقام السيدة زينب وكنيسة في بلدة معلولا، ما يعكس إصرارًا على استهداف دور العبادة.

تنظيم “الدولة”، الذي يعادي الثورة السورية وحاربها لسنوات، اعتبرها “ثورة جاهلية” وتوّعد الحكم الجديد في سوريا، وجدد بهذا الهجوم نهجه العنيف، رغم تراجع حضوره واعتماده أسلوب الكمائن والهجمات الخاطفة، ونفّذ التفجير في وقت حساس تحذر فيه جهات دولية من استغلال التنظيم سقوط نظام الأسد لإحياء قدرته على التخطيط وتجميع صفوفه وتنفيذ الهجمات.

في هذا الملف، تسلط عنب بلدي الضوء على نشاط التنظيم بعد سقوط حكم الأسد، وتناقش مع خبراء وباحثين دلالات استهداف دور العبادة واختيار العاصمة دمشق، والرسائل من تفجير “مار إلياس”، ومدى خطورة التنظيم في سوريا، والعوامل التي تدفع لعودته واحتمالات زيادة نشاطه مستقبلًا.

رسائل من دور العبادة

في 22 من حزيران، تعرضت كنيسة “مار إلياس” بمنطقة الدويلعة في دمشق لتفجير انتحاري أدى إلى مقتل 25 شخصًا وإصابة 63 آخرين، تبعه اتهام وزارة الداخلية السورية تنظيم “الدولة” بالوقوف وراء التفجير، بالاستناد إلى معطيات أولية تدل على أصابع للتنظيم.

قدس الأرشمنديت، الأب ملاطيوس شطاحي، قال لعنب بلدي، إن المصلين بدؤوا بسماع صوت إطلاق رصاص من خارج الكنيسة، ثم انتقل إلى داخلها شخصان بعبوات ناسفة وفجرا نفسيهما، بينما قال المتحدث باسم الداخلية، نور الدين البابا، إن التحقيقات الأولية للحادثة، أظهرت أن من قام بالتفجير شخص واحد وليس اثنين.

واعتبر المتحدث نور الدين البابا أن الموقف “الوطني” لعموم المكون المسيحي الموجود في سوريا كان السبب الرئيس لاستهدافه، لافتًا إلى أن دور العبادة لها مكانة “رمزية خاصة”، وذكر أن التنظيم يهدف إلى “بث الفرقة الطائفية” وإلى تشجيع كل مكون طائفي في سوريا، على حمل السلاح بغية أن يظهر أن الدولة السورية عاجزة عن حماية مكوناتها ومواطنيها، وإنتاج ميليشيات طائفية في سوريا.

وقفة تضامنية لأهالي مدينة السقيلبية في ريف حماة تضامنًا مع ذوي ضحايا تفجير كنيسة “مار إلياس” في دمشق – 23 حزيران 2025 (عنب بلدي/ إياد عبد الجواد)

“والي الصحراء”.. لا “سرايا أنصار السنة”

بعد يوم، أعلنت وزارة الداخلية تنفيذ عملية أمنية في مدينتي حرستا وكفر بطنا ضد خلية لتنظيم “الدولة”، أسفرت عن مقتل شخصين، أحدهما متورط بتسهيل دخول الانتحاري إلى الكنيسة، والقبض على خمسة عناصر آخرين بينهم متزعم الخلية، بعد اشتباكات معهم.

التنظيم لم يتبنَ العملية حتى لحظة إعداد هذا الملف، لكن جماعة تدعى “سرايا أنصار السنة” تبنتها، وهي مجموعة مجهولة العدد والمكان والتبعية ظهرت بعد سقوط النظام، نفت وجود تنسيق مع التنظيم، وتتقاسم معه العداء للحكومة الجديدة، كما أن نمط التفجير يحمل بصمات وتكتيكات وعقلية التنظيم.

المتحدث الرسمي باسم وزارة الداخلية، نور الدين البابا، أكد في مؤتمر صحفي حضرته عنب بلدي، أن خلية تفجير الكنيسة تتبع لتنظيم “الدولة الإسلامية” بشكل مباشر، وليس لها علاقة بأي جهة دعوية.

وأضاف أن متزعم الخلية شخص سوري الجنسية، يدعى محمد عبد الإله الجميلي، ويكنى بـ”أبو عماد الجميلي”، وهو من سكان منطقة الحجر الأسود في دمشق، وكان يعرف بلقب “والي الصحراء” لدى التنظيم، وقد تُعرض اعترافاته المصورة لاحقًا حال الانتهاء من التحقيق معه.

الانتحاري الأول الذي نفذ تفجير الكنيسة، والثاني الذي ألقي القبض عليه وهو في طريقه لتنفيذ تفجير انتحاري في مقام “السيدة زينب”، قدما إلى دمشق من مخيم “الهول” شمال شرقي سوريا، عبر البادية السورية، وتسللا بعد تحرير العاصمة، بمساعدة “أبو عماد الجميلي”، مستغلين حالة الفراغ الأمني بداية التحرير، وهما غير سوريين، وفق نور الدين البابا.

وقال البابا إن تنظيم “أنصار السنة” وهمي، ولم يتبنَ العملية إلا بعد صدور التحقيقات الأولية عن وزارة الداخلية، مؤكدًا أن متزعم خلية تفجير “مار إلياس”، محمد عبد الإله الجميلي، معروف للدوائر الأمنية في دول الخارج، ومعروف لدى قياديي التنظيم، ويملك منصب “والي الصحراء”.

قدوم الانتحاريين من “الهول” سبقته تحذيرات عدة دول من عودة نشاطه، إذ نقلت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية، في نيسان الماضي، تحذيرات خبراء من أن تنظيم “الدولة” قد يجد طريقة لتحرير آلاف من مقاتليه المتمرسين المحتجزين في سجون “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) حيث يُحتجز ما بين 9000 و10000 مقاتل من التنظيم، ونحو 40 ألفًا من أفراد عائلاتهم في شمال شرقي سوريا.

في المقابل، نفت “قسد” أن يكون الانتحاريان اللذان هاجما كنيسة “مار إلياس” قدما من مخيم “الهول”، معتبرة أن هذه المعلومات غير صحيحة ولا تستند إلى حقائق أو مجريات حقيقية.

أربعة أهداف من التفجير

توجد أهداف مباشرة وغير مباشرة للتنظيم من تنفيذ الهجوم على الكنيسة، الذي قد تتبعه عمليات أخرى، خاصة أنه اتبع سابقًا سياسة مماثلة باستهداف دور العبادة للمكوّن المسيحي والأقليات لتكون فاتحة عملياته الموسعة، ففي العراق مثلًا، بعد الهجوم الذي شنّه تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق” على كنيسة “سيدة النجاة” في الموصل نهاية عام 2010، نفّذ 30 تفجيرًا في يوم واحد عام 2012، وفق تقرير لمركز “جسور للدراسات”.

وفق تقرير المركز، فإن التنظيم يهدف من تفجير “مار إلياس” إلى:

  • زعزعة الاستقرار الذي تسعى الحكومة لإرسائه، ليأتي الهجوم ويقوّض هذه المساعي، ويخلق حالة من الارتباك لدى الحكومة، فيصوّر التنظيم للمجتمع المحلي والدولي بأن الحكومة غير قادرة على فرض حالة الاستقرار التي لا تزال ضعيفة وهشّة
  • تقويض التعايش الأهلي والسلمي، ووضع الحكومة أمام إرباك جديد، بحيث يُضعف خطوات بناء الثقة بين المكونات والسلطة الجديدة، ما قد ينعكس على العلاقة مع كافة الأقليات من دروز وعلويين وأكراد ومسيحيين وطوائف أخرى.
  • إضعاف البيئة الاقتصادية، وتعد إحدى أبرز الأولويات لمرحلة بناء الدولة ومكافحة الإرهاب، لأن الهجوم يهز الثقة التي كانت تسعى الحكومة لبنائها مع المستثمرين ورؤوس الأموال السوريين والأجانب.
  • الترويج لعودة التنظيم، الذي يريد أن يثبت أنه ما زال موجودًا في المشهد السوري وقادرًا على التأثير فيه، وتغيير أولويات الحكومة.

لماذا دور العبادة

تفجير الكنيسة سبقه إحباط الداخلية محاولة خلايا لتنظيم “الدولة” استهداف مقام “السيدة زينب” في محيط دمشق، في كانون الثاني الماضي، وبث اعترافات لأفراد خلية ذكرت تخطيطها للهجوم على كنيسة في مدينة معلولا بسيارة مفخخة تزامنًا مع عيد رأس السنة الميلادية، لكن التشديد الأمني حال دون تحقيق الخطة.

لطالما كانت دور العبادة من الأماكن التي طالتها فوهات البنادق وأضرار الحرب في سوريا، إذ حصل 1453 حادثة اعتداء على أماكن عبادة خلال 13 عامًا في سوريا (منذ آذار 2011 إلى آذار 2024)، يتحمل الحلف السوري- الروسي- الإيراني مسؤولية قرابة 86% منها، وفق ما وثقته “الشبكة السورية لحقوق الإنسان“.

الباحث في الجماعات الجهادية والحركات الدينية عبد الرحمن الحاج، قال لعنب بلدي، إن التنظيم سعى من محاولة تفجير مقام “السيدة زينب” إلى تحقيق هدفين، الأول إظهار ضعف حكم الرئيس السوري في المرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، والثاني إشعال حماسة الشيعة وحلفائهم العلويين ضد حكومة الشرع، وعلى الرغم من أن الشيعة أقلية صغيرة للغاية غير قادرة على خوض حرب طائفية أو حرب من أي نوع، فإن ذلك يمكن أن يساعد على التحريض الإيراني المستمر ضد الشرع واستقراره.

دمشق.. مركز مؤسسات الحكم في سوريا

رغم توزع دور العبادة على كامل الجغرافيا السورية، أصر التنظيم على اختيار العاصمة دمشق وريفها في تنفيذ عملياته سواء المحبَطة أو التي طالت الكنيسة، في تغيير لافت لاستراتيجيته، فرغم تراجع حضوره بشكل واسع، تركز نشاط التنظيم في البادية السورية الممتدة بمحاذاة الحدود العراقية شرقي سوريا، والتي تعد معقل تنظيم “الدولة”، مع نشاط لخلاياه في شمالي وجنوبي سوريا.

ووقعت آخر المعارك بين تنظيم “الدولة الإسلامية” و”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) مدعومة بقوات التحالف الدولي، في 9 من شباط وانتهت في 23 من آذار 2019، في قرية الباغوز شرقي محافظة دير الزور، معلنة نهاية السيطرة الجغرافية للتنظيم، لكنها لم تشكل نهاية نشاطه الفعلي في سوريا.

الباحث عبد الرحمن الحاج، قال إن دمشق مركز مؤسسات الحكم في سوريا، لذلك فإن ضرب الاستقرار يحمل دلالة مختلفة عن أي مدينة أخرى، معتبرًا أن حدثًا من هذا النوع يهدف إلى إضعاف الثقة بالسلطات الحكومية الراهنة.

وأضاف الباحث لعنب بلدي أن تنظيم “الدولة” الذي فقد هوامش الحركة في البادية يسعى إلى الاختباء في المدن وإحياء شبكة من مجنديه السابقين أو تجنيد مقاتلين جدد في صفوفه من “الساخطين الجدد” على السلطة من بقايا النظام السابق ومن “الشبيحة” الذين وجدوا أنفسهم فجأة مطاردين وفي هامش المجتمع.

ويرى الحاج أن التنظيم يسعى لتفكيك دعائم سلطة الشرع، من خلال ضرب الدعم المسيحي، فقد أظهر المسيحيون موقفًا إيجابيًا قويًا إلى جانب السلطة، مضيفًا أن استراتيجية التنظيم الجديدة باتت ملحوظة بأنها تركز على عمليات في المدن، وتستهدف الطوائف.

عداء تاريخي

لتنظيم “الدولة” عداء تاريخي مع الفصائل المقاتلة في سوريا ولا سيما “جبهة النصرة”، وهي نواة “هيئة تحرير الشام” التي قادت معركة “ردع العدوان” وأسقطت نظام الأسد، وقائدها أحمد الشرع (جرى الإعلان عن حل “تحرير الشام” في كانون الثاني 2025).

لاحقت “تحرير الشام” خلايا التنظيم وقياداته خلال السنوات، كما نشط “جهاز الأمن العام” منذ 2020 في إدلب، كجهة مسؤولة عن عمليات ملاحقة المطلوبين أمنيًا، وخاصة خلايا تنظيم “الدولة”، وصار يعلن بشكل دوري عن إلقائه القبض على “خلايا نائمة”.

يتزعم “أبو حفص الهاشمي القرشي” التنظيم، منذ إعلانه “خليفة” في 3 من آب 2023، وهو الخامس الذي لا توجد أي تفاصيل متاحة عنه، بعد أربعة “خلفاء” تولى كل منهم السلطة بعد مقتل من سبقه.

تشييع ضحايا التفجير الذي استهدف كنيسة “مار إلياس” في دمشق – 24 حزيران 2025 (سانا)

طموح بلا أدوات

مع الساعات الأولى لهروب الأسد إلى موسكو، وسقوط نظامه، شنت الطائرات الأمريكية أكثر من 75 غارة جوية وسط سوريا، ضد قادة تنظيم “الدولة” وعملائه ومعسكراته، لمنعه من تنفيذ عمليات خارجية وضمان عدم سعيه إلى الاستفادة من الوضع حينها لإعادة تشكيل صفوفه في وسط سوريا.

وفي كانون الأول 2024، نفذت طائرات فرنسية ضربات على مواقع لتنظيم “الدولة” وسط سوريا، ضمن مشاركتها في التحالف الدولي، وهي العملية الأولى من هذا النوع التي تنفذها فرنسا منذ سنتين، وفق وزير الدفاع، سيباستيان لوكورن.

وزادت التحذيرات من عودة نشاط التنظيم والدعوات لضرورة مكافحته، فكان ملف “مكافحة الإرهاب” حاضرًا على طاولة اللقاءات بين رؤساء ووزراء دول عديدة وشخصيات الحكومة السورية، مع تحركات من الأخيرة لمواجهة خلايا التنظيم، أبرزها القبض على القيادي “أبو الحارث العراقي” (كان يشغل مناصب مهمة فيما يسمى “ولاية العراق”، أبرزها ملف الوافدين ونائب مسؤول التجهيز، وهو ضالع في العديد من الهجمات التي ينفذها التنظيم).

وكشف مسؤولون أمريكيون أن الولايات المتحدة شاركت معلومات استخباراتية مع الإدارة السورية الجديدة، أدت إلى إحباط مخطط لتنظيم “الدولة” لتفجير مقام “السيدة زينب”، تبعه اتفاق سوريا مع الأردن والعراق وتركيا ولبنان على إدانة الإرهاب بكل أشكاله، والتعاون في مكافحته عسكريًا وأمنيًا وفكريًا، وإطلاق مركز عمليات مشترك للتنسيق والتعاون في مكافحة تنظيم “الدولة الإسلامية”.

وزير الدفاع السوري، مرهف أبو قصرة، قال خلال مقابلة له، إن خطر تنظيم “الدولة” لا يزال قائمًا في سوريا، وإن الوزارة تواصل العمل لمكافحته بكل الوسائل المتاحة، مشيرًا إلى التنسيق مع وزارة الداخلية، تبعه تحذير من مسؤولين من الأمم المتحدة والولايات المتحدة بأن التنظيم أظهر نشاطًا متجددًا في سوريا واستعاد قوته، واستقطب مقاتلين جددًا وزاد من عدد هجماته، ما يزيد خطر عدم الاستقرار في سوريا.

إلقاء القبض على متورطين في الهجوم الذي استهدف كنيسة “مار إلياس” في حي الدويلعة بالعاصمة دمشق – 23 حزيران 2025 (وزارة الداخلية)

رغم التراجع..

التنظيم قادر على “إحداث اضطرابات كبيرة”

في ظل الحكومة السورية الجديدة، واصل تنظيم “الدولة” نشاطه كحركة تمرد محدودة النطاق، وأعلن، في 15 من أيار الماضي، مسؤوليته عن تنفيذ 33 هجومًا خلال عام 2025. فمن ناحية، إذا استمرت هذه الوتيرة المنخفضة تاريخيًا، فسينتج عنها 89 هجومًا فقط خلال العام بأكمله، وهو رقم كبير بطبيعة الحال، لكنه يعد الأدنى منذ دخول التنظيم إلى سوريا عام 2013، وفق تحليل للمختص في شؤون الجماعات “الجهادية” بشمال إفريقيا وسوريا، آرون زيلين.

في حين شنت “قسد” حوالي 30 عملية اعتقال هذا العام ضد خلايا تنظيم “الدولة” شمال شرقي سوريا، وهو عدد أقل من الأعوام السابقة، لكنه لا يزال مرتفعًا، وفق الباحث زيلين، معتبرًا أن هذه المؤشرات تسلط الضوء على حقيقة أن عمليات التنظيم رغم تراجعها الكبير، لا تزال قادرة على إحداث اضطرابات كبيرة، لا سيما خلال الفترة الانتقالية الحساسة التي تمر بها سوريا.

وفي عام 2024، كان تنظيم “الدولة” ينشط في سوريا، بمعدل 59 هجومًا شهريًا، لكن منذ هروب الأسد، انخفض معدل عملياته بنسبة 80%، ليصل إلى 12 هجومًا شهريًا فقط في المتوسط، وفق تحليل في نيسان الماضي، للباحث تشارلز ليستر، الذي اعتبر أن الأهم من ذلك، هو انخفاض معدل فتك هجمات التنظيم بنسبة 97% (من 63 قتيلًا شهريًا في عهد الأسد في عام 2024 إلى قتيلين شهريًا).

ضعف الدولة والطائفية

الدكتور عزام القصير، أستاذ العلوم السياسية والباحث في شؤون الحركات الإسلامية، قال إن ازدياد نشاط التنظيم يتناسب طردًا مع ضعف أجهزة الدولة وسلطتها، وبالتالي من مصلحة الجميع أن تسير الدولة السورية نحو الاستقرار وأن يعاد بناء الجيش والأجهزة الأمنية بطريقة احترافية لتصبح مؤسسات وطنية بعيدًا عن الفساد والمحسوبية والفئوية.

يضاف إلى ذلك عامل آخر، وفق ما قاله القصير لعنب بلدي، يرتبط بالإنذار المبكر، أي قدرة الأجهزة الأمنية على الوصول إلى معلومات ومؤشرات حول تحركات تنظيم “الدولة” وغيره من المجموعات الإرهابية والتخريبية، وذلك يستلزم تطوير مهارات قوى الأمن وتمتين التعاون وتبادل الخبرات والمعلومات مع الحلفاء الإقليميين والدوليين المنخرطين في مكافحة الإرهاب والتطرف.

من جهته، يرى الباحث المتخصص بالشأن العسكري في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية” نوار شعبان، في حديث إلى عنب بلدي، أنه توجد عدة عوامل تهيّئ الأرضية لعودة نشاط تنظيم “الدولة” في سوريا، وأبرزها:

  • الفراغ الأمني والمؤسساتي: رغم استقرار نسبي بعد التغيير السياسي، لا تزال الأجهزة الأمنية الجديدة في مرحلة تشكّل، ما يخلق ثغرات يستغلها التنظيم.
  • التوترات الطائفية: يقتات تنظيم “الدولة” على الفتن الطائفية، مثلما ظهر في استهداف كنيسة “مار إلياس”، ويعوّل التنظيم على إثارة الغضب الطائفي وشق الصف الوطني لاستقطاب عناصر جدد أو إعادة تفعيل خلاياه النائمة.
  • عوامل اقتصادية واجتماعية: الفقر والبطالة والضغوط الاقتصادية تشكل بيئة خصبة للتجنيد، خاصة بين الشباب اليائس من أي مستقبل مستقر.
  • وجود خلايا نائمة وخبرات متراكمة: حتى بعد خسارته الأراضي التي كان يسيطر عليها، احتفظ التنظيم بشبكات سرية وعناصر مدرّبين قادرين على التخطيط والتنفيذ لعمليات نوعية، مثل التفجير الأخير في دمشق.
  • دعم خارجي محتمل: في خضم صراع القوى الإقليمية، قد يجد التنظيم فرصًا للحصول على تسهيلات أو دعم غير مباشر من أطراف تستفيد من استمرار عدم الاستقرار في سوريا.

مرحلة محفوفة بالمخاطر

تمر الدولة السورية في مرحلة انتقالية محفوفة بالمخاطر، فالفوضى الأمنية التي أعقبت السقوط السريع لنظام الأسد أتاحت لبعض الخلايا والمجموعات المتطرفة حرية نسبية للحركة، مستغلة انشغال السلطة بتثبيت حكمها وبناء التحالفات، بحسب ما أكده الدكتور عزام القصير.

وأضاف القصير أنه في ظل تلك المعطيات، يبرز خطر استعادة تنظيم “الدولة” نشاطه سواء في مناطق البادية التي اعتاد التخفي فيها أو حتى في المدن الكبرى، ونتيجة لحجم المهام الموكلة للأجهزة الأمنية المحدثة فإن من غير المتوقع أنها قادرة على فرض سيطرتها بشكل كامل وضبط المجاميع المتطرفة جميعها.

يجعل ذلك من التنسيق والتعاون مع الداعمين الإقليميين والتحالف الدولي لمحاربة تنظيم “الدولة” مسألة في غاية الأهمية، خاصة أن عودة التنظيم ليس خطرًا محليًا فقط بل ستكون له تداعيات إقليمية ودولية إن حصل.

فيما يعتقد الباحث في الشؤون العسكرية نوّار شعبان أن الحكومة السورية الجديدة لديها إمكانيات مبدئية لكنها تواجه تحديات ضخمة، ويمكن القول إن قدرتها على المواجهة تعتمد على عدة عناصر:

الإرادة السياسية: الحكومة أعلنت موقفًا واضحًا في محاربة الإرهاب، وهو عنصر أساسي.

الأجهزة الأمنية الجديدة: يجري العمل على إعادة هيكلة الأمن والاستخبارات، لكن هذه الأجهزة لا تزال في طور التشكل، ولا تملك حتى الآن القدرة الكاملة على كشف الشبكات المعقدة للتنظيم أو إفشال عملياته الاستباقية.

التنسيق الدولي: هناك رغبة إقليمية ودولية بدعم جهود الحكومة، خصوصًا في تبادل المعلومات الأمنية وملاحقة شبكات تمويل تنظيم “الدولة”، وإذا تم تفعيل هذا التعاون بشكل منهجي، سيكون سلاحًا قويًا بيد الحكومة.

التحديات الطائفية: الانقسامات الطائفية والخلافات بين المكوّنات المختلفة قد تضعف الجبهة الداخلية وتزيد صعوبة المواجهة الأمنية، خصوصًا إذا نجح التنظيم في تحريك الفتن.

الوضع الاقتصادي: ضعف الاقتصاد يشكّل خطرًا إضافيًا، إذ قد يضطر بعض الأفراد إلى الانخراط مع التنظيم بدافع المال أو الحماية.

بالمجمل، تملك الحكومة الإمكانيات، ولكنها تحتاج إلى وقت واستقرار أكبر لتتمكن من السيطرة على التهديد بشكل كامل، خاصة أن التنظيم أثبت أنه يجيد ضرب الأهداف الرمزية التي تهزّ ثقة الناس، مثل تفجير الكنيسة في دمشق، بحسب ما أكده نوار شعبان.

وقفة تضامنية لأهالي مدينة السقيلبية في ريف حماة تضامنًا مع ذوي ضحايا تفجير كنيسة “مار إلياس” في دمشق – 23 حزيران 2025 (عنب بلدي/ إياد عبد الجواد)

ثلاثة سيناريوهات محتملة

توجد عدة سيناريوهات لمستقبل التنظيم في سوريا مرتبطة بعدد من العوامل، وفق الدكتور عزام القصير، في مقدمتها مدى نجاح السلطة في تثبيت حكمها وتقوية مؤسساتها وحل مشكلاتها العالقة خاصة مسألة ضبط العناصر المنفلتة وإيجاد تفاهمات مع القوى السياسية والعسكرية في السويداء وشمال شرقي سوريا.

فضلًا عن أن تمتين السلطة لقدراتها العسكرية والاستخباراتية ونجاحها في تثبيت شرعية حكمها وتبنيها لخطاب وطني جامع سيعني بالتأكيد محاصرة أي بقايا لتنظيم “الدولة” وكبح أي محاولة لعودة نشاطه.

أما إن حدثت تجاوزات أمنية واستمرت المسافة بين السلطة المركزية والأطراف الإدارية في الاتساع، فإن ذلك سيخلق بيئة وظروفًا مناسبة لتنظيم “الدولة” وغيره من المجموعات الإرهابية لإعادة تنظيم صفوفها ومحاولة إشغال السلطة الوليدة وتحدي سيطرتها والانتشار على حسابها، بحسب القصير.

من جهته، يتوقع الباحث في الشؤون العسكرية نوار شعبان وجود ثلاثة سيناريوهات محتملة لمستقبل تنظيم “الدولة” في سوريا تتمثل بما يلي:

السيناريو الأول: احتواء التنظيم بشكل تدريجي (وهو السيناريو الأكثر ترجيحًا)

تسير الحكومة الجديدة على طريق تفكيك خلايا التنظيم بخطوات محسوبة، معتمدة على تعاون استخباراتي واسع مع الأطراف الإقليمية والدولية، وعلى تشديد الرقابة على مصادر تمويل التنظيم، وإحكام الإجراءات الأمنية، خاصة حول دور العبادة والأماكن الرمزية التي طالما كانت أهدافًا مفضلة لهجماته.

ومع ذلك، لا يخلو المشهد من بعض العمليات “الإرهابية” المتفرقة التي تطفو على السطح بين حين وآخر، غير أن تأثيرها يظل محدودًا ولا يصل إلى حد تمكين التنظيم من استعادة أي سيطرة إقليمية أو موطئ قدم على الأرض، وفي هذا السياق، يواصل تنظيم “الدولة” حضوره كتنظيم سرّي يضرب من الظل بين الفينة والأخرى، إلا أنه يبقى عاجزًا عن إعادة بناء “دولة” أو فرض حكم محلي كما كان يفعل في سنوات تمدده السابقة.

السيناريو الثاني: عودة النشاط المسلّح بقوة (أقل احتمالًا)

وفي المقابل، يلوح في الأفق احتمال أكثر قتامة، يتمثل في فشل الحكومة الجديدة في ترسيخ الأمن واستمرار الانقسامات الداخلية، وهو ما قد يفتح الباب أمام التنظيم لاستعادة السيطرة على بعض الجيوب الجغرافية المحدودة، خصوصًا في مناطق البادية أو في المناطق الحدودية الوعرة التي يصعب على الأجهزة الأمنية الوصول إليها بسهولة.

وفي حال تحقق هذا السيناريو، قد تشهد البلاد موجة جديدة من العمليات الانتحارية والهجمات النوعية، حيث يستثمر التنظيم هذه الضربات في حملات دعائية ضخمة، مستهدفًا أماكن رمزية مثل الكنائس أو الأسواق المكتظة بالناس، بغية بث الرعب وإظهار قدرته على اختراق العمق السوري. غير أن تحقق هذا السيناريو يتطلب ظروفًا استثنائية، كتصاعد حالة الفوضى أو تراجع المجتمع الدولي عن تقديم الدعم اللازم للحكومة الجديدة.

السيناريو الثالث: توظيف التنظيم كورقة ضغط إقليمية

يتعلق السيناريو الثالث بإمكانية توظيف التنظيم كورقة ضغط في الصراع الإقليمي الدائر، حيث قد تلجأ بعض القوى الخارجية إلى استخدامه كأداة لإرباك الحكومة السورية الجديدة أو لممارسة الضغط عليها سياسيًا، ليس من خلال دعم مباشر أو معلن، وإنما عبر غضّ الطرف عن نشاط خلاياه أو تقديم تسهيلات غير مباشرة تتيح له التحرك في الخفاء.

وفي إطار هذا السيناريو، يظل التنظيم نشطًا إلى حد معيّن، يسمح له بإثارة التوترات الأمنية دون الوصول إلى حد إشعال حرب شاملة أو استعادة السيطرة على مناطق واسعة كما في السابق، إذ يخدم استمرار وجوده مصالح بعض الأطراف الإقليمية التي تسعى إلى إبقاء سوريا في حالة عدم استقرار، حتى لا تخرج بشكل كامل من دائرة نفوذها التقليدي.

مقالات متعلقة

  1. حصيلة ضحايا تفجير كنيسة دمشق ترتفع.. إدانات مستمرة
  2. انتشار أمني في دمشق بعد تفجير كنيسة الدويلعة
  3. "الداخلية" تعلن القبض على منفذي تفجير "مار إلياس"
  4. "الداخلية" تكشف تفاصيل القبض على منفذي تفجير "مار إلياس"

تحقيقات

المزيد من تحقيقات