لمى قنوت
بعد حوالي سبعة أشهر من سيطرة السلطة الحالية على مقاليد الحكم في دمشق، بدأ حصاد سلق الحوار الوطني، وتجاهل أهمية عقد مؤتمر وطني، واستبعاد المشاورات مع الجهات السياسية والحقوقية، وإهمال ما راكمته من خبرات وأوراق ومخرجات اشتغلت عليها وطورتها خلال فترة الـ14 سنة الماضية، بدل البناء عليها وتطويرها مع أصحاب المصلحة، والحصيلة الحالية خلطة فشل ستؤدي إلى تقويض بناء الدولة ووأد المواطنة، ويمكننا تلمس ملامح ومآلات المرحلة الحالية والمستقبلية، إذا استمرت نفس سياسات السلطة، ولم تَنشط الجهات السياسية والمدنية والحقوقية لتنتزع أدوارها:
أدى إغلاق باب السياسة، وإنامة قانون الأحزاب، إلى تسييس أدوار رجال الدين وعملقتها في الفضاء العام، كمفاوضين وناطقين رسميين عن رعاياهم، وانكفأ المسيسون، نساء ورجالًا، إلى إصدار بيانات هنا وهناك بدل تنافسهم وأحزابهم بالبرامج لتمثيل المواطنين والمواطنات، ومع مسار كهذا تغدو تعبئة الانتماءات الفرعية، أداة لتعزيز أدوار طبقة سياسية تتزعم أديانًا وطوائف، وتوظف التنوع نفوذًا سياسيًا لها ووسيلة لتحصيل المكاسب الاقتصادية من الدولة واستثماراتها وخيراتها، ولنا في تجربتي لبنان والعراق درس بليغ في تقويض دولة المواطنة، فالتطييف كمشكلة سياسية- اجتماعية، يزيد من الانقسامات داخل المجتمعات ويغذيها ويديم حدودها، ويُعلي الولاء للجماعة، ويوجه الخلافات والانقسامات إلى صراع طائفي، ويقف عائقًا أمام دولة المواطنة.
ومن نافل القول، إن إرث الاستبداد المديد، وجرائمه، وسياسات التفريق السياسي التي اشتغل عليها النظام البائد وغذاها، كان لها أثر كبير في تشظي المجتمعات السورية، ولكن السياسات المركزية التي تتبعها “هيئة تحرير الشام” والفصائل المتحالفة معها في معركة “ردع العدوان” والمُشارِكة في “مؤتمر النصر” شكلت هاجسًا مقلقًا لم يقنع الكثير من السوريين والسوريات بأن العقلية الحاكمة خرجت من عقلية الفصيل إلى “عقلية الدولة”، بدءًا من توزيع المناصب كغنائم حرب، إلى تفريغ مؤسسات الدولة من الخبرات لتملأ فضاءاتها بالمحسوبين عليهم وترشيحاتهم من ذوي الخبرة المحدودة، وغياب الشفافية، وعليه، فقد اتسمت المرحلة بالتجريب والأخطاء على حساب مصالح المواطنين والمواطنات.
أمنيًا، لا تشير الوقائع إلى أن المعالجات الأمنية للسلطة تسير نحو حماية حيوات المواطنين، نساء ورجالًا، من العنف والانتهاكات، فجرائم قتل شباب وخطف نساء من منبت علوي لا تزال تُرتكب حتى الآن، دون أي جهد تبذله السلطة من أجل وقفها ومحاسبة مرتكبيها، والأسوأ، إنكار وتبرير جرائم الخطف المُنظمة من قبل مسؤولين رسميين، كما ورد في تقرير “رويترز” الذي نشر في 27 من حزيران الحالي، فقد بررها مدير العلاقات الإعلامية في محافظة طرطوس، أحمد محمد خير، إلى أسباب عائلية وشخصية، في إساءة واضحة لكرامات النساء واستباحة لحيواتهن، كما يوضح التقرير استهتار أقسام الشرطة وعدم جديتها في بذل أي جهد أمني لحماية المواطنات، وملاحقة الجناة بعد إبلاغ أسرهن عن تلك الجرائم.
وفي الإطار الأمني أيضًا، تشير شهادات ووقائع إلى تقسيمات أمنية، تتبع فيها مناطق لنفوذ ما يدعى بـ”الشيخ“، كسلطة أمر واقع تمسك بزمام الأمور وتقرر دون أي صفة رسمية وخضوع للمساءلة، الأمر الذي يمثل حرفيًا بناء “سلطة ظل” بعيدًا عن دولة القانون والمؤسسات، وهو يتطابق مع ما أشار إليه الصحفي نضال معلوف عبر فيديو بثه في من 26حزيران، حول “سلطة الظل” ككيان موازٍ لمؤسسات الدولة، حيث أشار إلى أن منظومة السيطرة المرتبطة بـ”هيئة تحرير الشام” والفصائل المتحالفة معها، بنت شبكات موازية لمؤسسات الدولة، مسؤولة عن المناطق، مثل يبرود والنبك، تضم في أعلى الهرم مسؤولًا عن الأمن، ويُطلق عليهم “الأمنيون”، ويُوكل حفظ الأمن لشبان من أهالي المنطقة، غير مدربين، ولا ينضوون في جهاز الأمن العام، أما عن السلطة الإدارية والمالية فهناك مسؤول آخر عن كل منطقة، تتبع له لجان مثل “إصلاح ذات البين”، وهو جسم بديل عن القضاء، ومسؤول عن “الصندوق الموحد”، وهو صندوق مالي للمنطقة، يُجمع من سكانها كتبرعات ومن فرض الرسوم، وغالبًا ما تكون اللجان محصورة بين عائلتين، “لتبادل المنافع والولاء في حلقات ضيقة”.
ومن زاوية صبغ الفضاء العام والمؤسسات بالطابع السلفي المتشدد، ومستويات التمييز ضد السوريين، رجالًا ونساء، بناء على الدين، أو بشكل أدق، على مستوى ونوع التدين المطلوب من أجل التعيين بمراكز مهمة كرؤساء للجامعات، فقد كشفت الصورة المرافقة لخبر تغطية وكالة الأنباء (سانا) لمقابلات أجرتها لجنة مقابلة المرشحين لرئاسة الجامعات السورية، مشاركة رئيس المكتب الاستشاري للشؤون الدينية في رئاسة الجمهورية عبد الرحيم عطون، مع كل من عضوي اللجنة المؤلفة من وزير التعليم العالي د. مروان الحلبي ومعاون الأمين العام لرئاسة الجمهورية لشؤون مجلس الوزراء م. علي كدة، دون أن يذكر الخبر اسم عطون أو دوره وعلاقته كرجل دين في تعيين رؤساء الجامعات، والتي يُفترض أن تكون المعايير الأكاديمية من اختصاص وزارة التعليم العالي، وعطون لا علاقة له بعملها، وكان يتولى سابقًا منصب رئيس “المجلس الأعلى للإفتاء” في “هيئة تحرير الشام”، ومسؤولًا عن الإفتاء في جهازها الأمني، وتلقى تعليمًا غير نظامي في مسار المشيخة.
والسؤال الذي يطرح نفسه، هل يمكن تحقيق الاستقرار ونزع فتائل النزاع والشروع ببناء الدولة والسلطة بمسارين متوازيين، رسمي وغير رسمي، أم هي خلطة فشل في إدارة بلد متنوع ومنهك، تُخطف نساؤه ويُقتل فقراؤه غدرًا، كما قتل محمد ومهند سليمان وهما يعملان في قِطاف ورق الغار، وتوأد أحلام شعبه في تحقيق العدالة والحرية وبناء دولة المواطنة وسيادة القانون.