علّق محافظ حلب، عزام غريب، على مشاهد نقل تمثال “ساحة سعد الله الجابري”، التي أثارت جدلًا واسعًا، مؤكدًا أن ما جرى “غير مقبول”، وأن محاسبة المقصرين ستتم وفق الأصول.
وقال غريب، عبر منصة “إكس”، اليوم الخميس 3 من تموز، إنه تابع بأسف المشاهد التي أظهرت خللًا واضحًا في عملية نقل المجسم، الذي أطلق عليه في زمن النظام السابق اسم “تمثال الشهداء”.
وأضاف أن عملية النقل نفذت من قبل جهة لم تلتزم بالمعايير الفنية والإنشائية التي جرى التشديد عليها مسبقًا، مشددًا على أن المسؤولية الكاملة ستُحمّل للجهة المنفذة، مع فتح مساءلة فورية.
وأوضح المحافظ أن قرار نقل المجسم إلى المتحف الوطني في حلب جاء ضمن خطة تطوير عمراني، قدمها مجلس مدينة حلب بالتنسيق مع مديرية الآثار، بهدف إعادة تأهيل ساحة “سعد الله الجابري” وتحويلها إلى فضاء ثقافي مفتوح للفعاليات العامة.
وأشار إلى أن هذه الخطة جاءت بعد تلقي مطالبات من بعض سكان المدينة بإزالة التمثال، بالنظر إلى ارتباطه بمرحلة مؤلمة من تاريخ حلب، خلال فترة الثمانينيات، وما رافقها من أحداث وممارسات مرتبطة بالنظام السابق.
ورغم التباين في الآراء حول دلالة المجسم، جرى الاتفاق حينها، بحسب غريب، على أن تتم عملية النقل بأسلوب آمن وتحت إشراف مختصين، حفاظًا على ما قد يحتويه من قيمة توثيقية أو فنية.
وأكد غريب أنه “لا صحة لما يروج عن خلفيات أيديولوجية وراء القرار”، واصفًا نقل التمثال بأنه “خطوة إدارية” جاءت استنادًا إلى معطيات ميدانية وآراء مجتمعية، وليس بدافع سياسي.
وتعهد المحافظ بتوجيه الجهات المعنية لترميم الأجزاء المتضررة من المجسم، تمهيدًا لحفظه في المتحف، معلنًا في الوقت ذاته عن إطلاق مسابقة فنية لاختيار تصميم جديد لعمل نحتي يحمل رمزية تعبر عن ذاكرة المدينة وتضحيات أبنائها.
تعهد بالمحاسبة
من جهته، أكد مجلس مدينة حلب، عبر بيان نشره في “فيسبوك”، أن قرار نقل “تمثال الشهداء” من ساحة سعد الله الجابري جاء تزامنًا مع إطلاق الرؤية البصرية للجمهورية العربية السورية، والتي تعرض على الشاشة الكبيرة المركبة في الساحة.
وأوضح المجلس، في البيان، أن التمثال كان يعيق الرؤية على الشاشة، ما دفع إلى نقله بالتنسيق مع مديرية الآثار والمتاحف، في إطار مشروع إعادة تأهيل الساحة وتحويلها إلى مركز للفعاليات الشعبية والثقافية.
وأشار البيان إلى أن الكتلة الثانية من التمثال تعرضت لأضرار خلال عملية فكه، مؤكدًا أن العمل جارٍ على ترميم القطعة التالفة وإصلاحها.
وشدد مجلس المدينة على أنه “ستتم محاسبة المقصرين وفق الأصول”، دون تسمية أي جهة أو مسؤول مباشر عن الحادثة.
وتعرض “تمثال الشهداء” في ساحة سعد الله الجابري للتهديم أثناء عملية تفكيكه، ضمن مشروع تأهيل الساحة، ما أثار موجة انتقادات واسعة وتشكيكًا بالرواية الرسمية التي تحدّثت عن نية “نقله وصيانته”.
المشاهد المصورة التي تداولها ناشطون عبر مواقع التواصل الاجتماعي، منتصف ليلة 2 من تموز، أظهرت استخدام معدات بدائية في عملية التفكيك، ما أدى إلى تحطيم أجزاء من التمثال.
وعقب الجدل، أصدرت مديرية الآثار والمتاحف في حلب بيانًا، قالت فيه إنها نقلت “تمثال الشهداء” من ساحة سعد الله الجابري إلى “مكان آخر حفاظًا عليه وعلى قيمته الفنية”، على أن يصار لاحقًا إلى ترميمه وصيانته من قبل مختصين فنيين.
وأضاف البيان أن الإجراء جاء ضمن خطة إعادة تأهيل الساحة، بهدف جعلها “مهيّأة ومناسبة لإقامة الفعاليات والنشاطات الشعبية”، مشيرًا إلى أن التمثال كان يحجب الرؤية عن الشاشة الرئيسية التي تم تركيبها مؤخرًا في الساحة.
بُعد إيديولوجي
لكن هذه التصريحات لم تبدد التساؤلات التي طرحت حول أسباب تنفيذ عملية الإزالة في وقت متأخر من الليل، وغياب التوثيق الرسمي لمرحلة النقل أو الترميم.
ووجه سكان في المدينة انتقادات للطريقة التي جرت بها العملية، معتبرين أنها لا تندرج ضمن الإجراءات الفنية المعتادة، بل تعكس نهجًا أقرب إلى الطمس المتعمد لمعالم تحمل رمزية بصرية ووجدانية في ذاكرة حلب.
وتزامنًا مع الجدل، انتشر مقطع لرجل مجهول الهوية يقف أمام التمثال المهدم ويقول: “سيزال هذا الصنم حتى لا يعبد إلا الله”.
ورغم أن هذا التصريح لا يعكس موقفًا رسميًا، سلّط الضوء على بُعد أيديولوجي محتمل يقف خلف بعض المواقف تجاه التماثيل في الفضاء العام، لا سيما في ظل صعود أطراف ذات خلفيات دينية ضمن بعض الإدارات المحلية بعد سقوط النظام السابق.
رمزية النضال
تمثال “الشهداء”، الذي أُنجز في ثمانينيات القرن الماضي، هو من أعمال النحات الحلبي عبد الرحمن مؤقت، وفق ما وثقته مصادر فنية محلية.
وتواصلت عنب بلدي مع مدير مديرية الآثار والمتاحف في حلب، منير القسقاس، لسؤاله عن خلفية إنشاء التمثال، ونفى أن يكون المجسم مخصصًا لتخليد “شهداء مقاومة الاستعمار الفرنسي”، كما يشاع في بعض الروايات المتداولة، دون أن يقدم تفاصيل إضافية حول الدافع الفعلي لتشييده.
وتتداول أوساط محلية رواية تفيد بأن التمثال أنشئ بتوجيه من الرئيس السابق، حافظ الأسد، لتخليد عناصر من الجيش السوري قتلوا خلال المواجهات مع تنظيم “الإخوان المسلمين” في حلب مطلع ثمانينيات القرن الماضي، في سياق حملة عسكرية شهدتها المدينة خلال تلك الفترة.
ولمعرفة خلفية التمثال، تواصلت عنب بلدي مع النحات الحلبي إبراهيم داوود، الذي أوضح أن النصب أُنجز عام 1984 على يد الفنان عبد الرحمن مؤقت، ليجسد “شهداء الحقبة الاستعمارية الفرنسية قبيل الاستقلال”، وفق تعبيره.
وبيّن داوود أن التمثال جاء كرمزية لنضال شخصيات تاريخية مثل إبراهيم هنانو وسلطان باشا الأطرش، معتبرًا أن إسقاط دلالات سياسية معاصرة على المجسّم أمر غير دقيق، نظرًا لأن الغاية الأساسية من إنشائه كانت إحياء فكرة “النضال الشعبي” لا أكثر.
وعلى الصعيد الفني، أشار داوود إلى أن التمثال لا يُعدّ من المنحوتات المصنفة ضمن التراث أو الآثار، إذ لا يتمتع بقيمة فنية استثنائية.
وجاءت عملية التفكيك في إطار مشروع لإعادة تأهيل ساحة سعد الله الجابري، تنفذه شركة “STH” السورية–التركية، ويهدف إلى تحديث البنية التحتية وتوسيع الأرصفة وتطوير النافورة المركزية، وإنشاء منصة فعاليات بمساحة تقارب 200 متر مربع، عنب بلدي.
وسبق أن أُثير الجدل في آذار الماضي، بعد تسريب تصاميم أولية للمشروع لم تتضمن وجود التمثال، ورغم نفي الشركة آنذاك وجود قرار نهائي، أعادت خطوة التهديم الحالية الجدل إلى الواجهة.