الرأي كقناع.. عن سوريا وسؤال الداخل والخارج

  • 2025/07/14
  • 9:08 ص
أحمد العسيلي
enab_get_authors_shortcode

أحمد عسيلي

بعد أكثر من عقد قضيتُه في المنفى، عدت إلى سوريا للمرة الثانية منذ سقوط النظام، وخلال أيام قليلة بين طرطوس وريفها، أدركت شيئًا عميقًا، أن ما يعتقده السوري في الخارج، وما يناقشه، وما يصوغه عن الوطن، ليس هو نفسه ما يعيشه السوري في الداخل، الفجوة لم تعد مجرد تباين في تفاصيل الحياة وطرق عيشها، بل أصبحت فرقًا في بنية إدراك الواقع نفسه، بين من يعيش الحدث ومن يتحدث باسمه.

منذ انطلاقة الثورة في 2011، بدأ الحديث يظهر عن افتراق الداخل والخارج، بدا الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي حينها كجسر يوحّد التجربتين، بل أعطى الخارج سلطة مزدوجة، سلطة القول وسلطة التأويل. ففي ظل نظام يمنع التعبير، أصبح الخارج هو المراسل والمحلل والضمير، يقود السردية وينطق باسم الداخل الذي لا يُسمح له بالكلام.

لكن مع الزمن، ومع اتساع المسافة الجغرافية والنفسية، ظهرت الفروقات العميقة، الخارج ظل يعيش في زمن الثورة وشعاراتها، بزخمها أو فشلها أو تحليلها، بينما الداخل انزاح إلى زمن أكثر مادية: الكهرباء، الخبز، الخوف. الخارج يتحدث بلغة النضال والثورة، والداخل بلغة البقاء، لم يعد الفرق فقط في الخطاب، بل في البنية النفسية التي تنتج هذا الخطاب.

بدت المشكلة وقتها كأنها أزمة سوريي الخارج الذين فقدوا تمامًا القدرة على التحكم بمجريات الصراع، فدخلوا بأزمة المشروعية والهدف، وهي ليست حالة نادرة في التاريخ، عالم الاجتماع آلان تورين تحدث عن تلك المجتمعات بعد فقدانها مشروعها، فتستبدله بـ”هوية الجرح”. الألم لا يُعاش فقط، بل يعاد إنتاجه ليصبح أساسًا للانتماء. وعند اللاجئ، يصبح الماضي شرطًا للوجود، لا مجرد ذكرى. أما المعالج النفسي والطبيب الفرنسي بيير جانِيه، فيرى أن الصدمة النفسية لا تُنسى، بل تتحول إلى نسيج في الذات، تُعاد روايتها كأمان، حتى حين تزول أسبابها.

هنا نفهم كيف يتمسك بعض الناس إلى الآن بخطاب 2011، لا فقط كإيمان، بل كأرض لا يمكن مغادرتها دون فقدان معنى الذات، كثيرون في الخارج (وبعض المعارضين القدماء في الداخل) يرددون جملًا مريحة ذهنيًا: “النظام لم يسقط”، “الأسد بوجه جديد”، “كلهم خونة”، “لا شيء تغير”. هذه العبارات لا تفكك الواقع، بل تجمده، وتحافظ على المعنى القديم كما هو، رغم تحول الواقع تحولًا جذريًا.

في هذا السياق، كتب ياسين الحاج صالح في إحدى مقالاته مؤخرًا جملة شديدة الدقة، وصريحة جدًا، تنم عن فهم واعٍ لتلك الصراعات الداخلية، فقال، “لقد أمضيت نصف قرن وأنا أدفع بقوة بابًا مغلقًا بإحكام، وحين وقع الباب، وقعت معه”.

فالذات المعارِضة لم تكن مجرد موقف سياسي، بل كانت تكوينًا بأكمله، وجودًا مشروطًا بعدو، ومع سقوط هذا العدو، ينهار المعنى، وينكشف الفراغ الذي ملأته المقاومة لسنوات.

هذا الانهيار لا يصيب الأفراد فقط، بل الجماعات أيضًا، كثير من السوريين في الخارج باتوا أسرى موقعهم السياسي، لا فقط عن قناعة بل لأن التخلي عنه يعني التخلي عن دورهم أيضًا، المعارض، الثائر، الضحية، الضمير، بل دعونا نذهب أبعد من هذا بقليل ولنعترف بأن المعارضة تحولت مع السنين لدى بعضهم إلى مهنة، بامتيازاتها ومؤسساتها، بل ودخلها، هنا لا يصبح الرأي موقفًا، بل وظيفة، والتخلي عن الخطاب ليس انتقالًا بين أفكار، بل سقوط من موقع.

الأخطر أن هذا كله يقدَّم للناس باعتباره رأيًا ناتجًا عن فهم منطقي أو موقف أخلاقي، كثير من المواطنين، في الداخل والخارج، لا يعرفون تعقيدات هذا المشهد وتشابكاته، هم يرون بكل بساطة ناشطًا يتحدث باسمهم، فيظنونه حياديًا، بينما هو يتحدث من موقعه، وخطابه النهائي ناتج عن ممرات معقدة من أزمات وجودية ومهنية وترتبط بمكانه ومشروعه الذاتي والعائلي أحيانًا.

في المقابل، الداخل ليس دائمًا أكثر “حقيقة”، فالناس أيضًا يصرحون أو يكتبون على “السوشيال ميديا” بما لا يؤمنون به، إرضاء للمحيط أو خوفًا من فقدان روابطهم، كثيرون يظهرون الولاء أو المعارضة وفقًا لانتماءاتهم العائلية، الطائفية، وأحيانًا أيضًا نتيجة ارتباطاتهم المهنية أو المجتمعية، ليس كذبًا، بل نوع من الانتماء القلق، فالرأي لا يُقال دوما بحثًا عن الحقيقة، بل خوفًا من النبذ، أو رغبة في الانتماء.

التحليل النفسي يسمي هذه الحالات تماهيًا دفاعيًا، أن يتبنى الإنسان موقفًا لا يعكس ذاته، بل يلبي حاجة في البقاء ضمن الجماعة، أو الهروب من قلق الحرية.

لهذا كله، حين نقرأ مقالًا أو نشارك في نقاش، لا يجب أن نأخذ الرأي كمرآة للحقيقة، بل كنافذة على الذات القائلة.

الرأي ليس دومًا حياديًا، بل مشحون بما هو نفسي، اجتماعي، سياسي، طبقي، مكان جغرافي، وربما وجودي.

من هنا، لا بد من تمارين دائمة على القراءة التحليلية، لا السياسية فقط. أن نرى خلف الخطاب لا فقط نبرته، بل جذوره، وأن ندرك أن الانحياز لا يلغى بالنية الطيبة، بل يفكك بالوعي.

هذا الواقع ليس مريحًا، لكنه حقيقي.

وإن أردنا أن نبقى قادرين على الفهم والحوار في مشهد يزداد تعقيدًا، فربما علينا أن نقرأ، ونستمع، ونتحدث، كما لو كنا نحلل أنفسنا.

مقالات متعلقة

  1. إشكالية العلاقة بين السلطة والطائفة العلوية
  2. الكلام أو الموت
  3. تفجير كنيسة "مار إلياس".. قراءة نفسية في المسؤولية المجتمعية
  4. الصورة والسلطة.. كيف تحدد الشاشة نظامنا السياسي

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي