عنب بلدي – جنى العيسى | سدرة الحريري
بعد أكثر من عقد من القطيعة السياسية والدبلوماسية بين الرياض ودمشق، على خلفية الثورة السورية ودعم المملكة للمعارضة، عادت مؤخرًا مؤشرات واضحة على تحولات لافتة في مسار العلاقة بين البلدين.
لم تقتصر هذه التحولات على استعادة القنوات الدبلوماسية، بل امتدت إلى تحركات اقتصادية جادة، تشير إلى اهتمام سعودي متزايد بالاستثمار في السوق السورية.
وبين من يرى في هذه الاستثمارات دعمًا صادقًا لجهود إعادة الإعمار في سوريا ما بعد الحرب، ومن يعتبرها أداة سياسية تحمل رسائل إقليمية ودولية، يبرز التساؤل: هل يمثل الاستثمار السعودي في سوريا دعمًا أصيلًا أم غطاء لتحرك سياسي محسوب؟
من القطيعة إلى الانفتاح
مع سقوط النظام السوري السابق في 8 من كانون الأول 2024، بدأت العلاقات السورية- السعودية تدخل مرحلة جديدة من الانفتاح السياسي والدعم الثنائي، لا سيما بعد تولي الرئيس السوري في المرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، السلطة.
وكانت أولى الخطوات البارزة في هذا المسار، زيارة وزير الخارجية السعودي، الأمير فيصل بن فرحان، إلى قصر الشعب في دمشق في 24 من كانون الثاني الماضي.
خلال الزيارة، ناقش الجانبان “سبل دعم أمن واستقرار ووحدة سوريا، والمساعي الرامية إلى دعم المسار السياسي والإنساني والاقتصادي”، بحسب ما أوردته وكالة الأنباء السعودية (واس).
ومن بين القضايا التي تصدّرت المحادثات السورية- السعودية، الجهود لرفع العقوبات الدولية المفروضة على سوريا.
برز الدور السعودي بشكل لافت في الوساطة لرفع العقوبات الأمريكية المفروضة على دمشق، حيث استضافت الرياض أول لقاء رسمي بين الرئيس السوري في المرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، والرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، في 14 من أيار الماضي، برعاية سعودية مباشرة.
وفي كلمة للرئيس الأمريكي، خلال منتدى الاستثمار السعودي- الأمريكي في 13 من أيار، أعلن الرئيس ترامب رفع العقوبات عن سوريا، مشيرًا إلى أن قراره جاء بعد مناقشة مطولة مع ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، والرئيس التركي، رجب طيب أردوغان.
وفي هذا السياق، قال عضو فريق “التحالف السوري- الأمريكي من أجل السلام والازدهار”، عبد الحافظ شرف، عبر حسابه في “فيسبوك“، إن مواقف السعودية لن تُنسى من قبل الشعب السوري، مشيرًا إلى ما وصفه بـ”النشاط الكبير للوبي السعودي” في الدفع نحو رفع العقوبات عن سوريا، خاصة في ظل النقاشات الجارية بالكونجرس الأمريكي حول تعديل قانون “قيصر”.
لم يتأخر الجانب الاقتصادي عن اللحاق بالزخم السياسي، حيث أجرى وزير الخارجية السعودي زيارة ثانية إلى دمشق، ترأس خلالها وفدًا اقتصاديًا رفيع المستوى، عقد جلسة مشاورات موسعة مع مسؤولين سوريين. هدفت الجلسة إلى “بحث سبل التعاون الاقتصادي، وتعزيز بناء المؤسسات الحكومية، ودعم اقتصاد سوريا بما يتماشى مع تطلعات الشعب السوري”، بحسب البيان المشترك.
وتوّج هذا التحرك بعقد مؤتمر الاستثمار السوري- السعودي، الذي يعكس رغبة الرياض في أن تكون أول المبادرين إلى الانخراط في جهود إعادة الإعمار، ما يمنحها موطئ قدم مبكر بخريطة النفوذ الاقتصادي في سوريا الجديدة.
وزير الاقتصاد والصناعة محمد نضال الشعار ووزير الاستثمار السعودي خالد بن عبد العزيز الفالح يطلقان مشروع “فيحاء” في ريف دمشق بتكلفة 20 مليون دولار – 23 تموز 2025 ( عنب بلدي/أحمد مسلماني)
انفتاح اقتصادي مفاجئ
في 23 من تموز، وصل وفد اقتصادي سعودي يضم أكثر من 130 رجل أعمال ومستثمرًا إلى مطار دمشق الدولي، برئاسة وزير الاستثمار السعودي، خالد بن عبد العزيز الفالح، في زيارة وُصف بالأكبر من نوعه منذ تأسيس العلاقات السورية- السعودية الجديدة.
جاءت الزيارة في إطار تعزيز التعاون الاقتصادي والتنمية المستدامة، وتضمنت عقد منتدى الاستثمار السوري- السعودي.
وفي 24 من تموز، أقيم المنتدى في قصر “الشعب” بدمشق بحضور كبار المسؤولين من الجانبين، حيث أعلن وزير الاستثمار السعودي، خالد عبد العزيز الفالح، عن توقيع 47 اتفاقية ومذكرة تفاهم بقيمة إجمالية تُقدّر بـ24 مليار ريال سعودي، أي ما يعادل 6.4 مليار دولار أمريكي.
تشمل الاستثمارات السعودية القطاعات الحيوية كافة، وفي مقدمتها:
- الطاقة.
- الصناعة (ثلاثة مصانع أسمنت جديدة).
- العقارات.
- البنية التحتية (بـ11 مليار ريال سعودي/حوالي ملياري دولار).
- الخدمات المالية.
- الصحة والزراعة والتعليم.
- الاتصالات وتقنية المعلومات.
- الأمن السيبراني.
- المقاولات والخدمات اللوجستية.
كما أعلن الوزير السعودي عن توقيع مذكرة تفاهم بين شركة “تداول السعودية” وسوق دمشق للأوراق المالية لتعزيز التعاون في قطاع التمويل والتقنيات المالية، بالإضافة إلى انطلاق شراكات بين وزارة الاتصالات السورية وشركات اتصالات سعودية، لتطوير البنية التحتية الرقمية في سوريا، وتعزيز قدرات الأمن السيبراني، بقيمة إجمالية تبلغ نحو أربعة مليارات ريال سعودي (أكثر من مليار دولار).
وكشف الوزير عن توقيع اتفاقية استراتيجية مع شركة “بيت الإباء” السعودية لتنفيذ مشروع سكني وتجاري متكامل في مدينة حمص، مشيرًا إلى أن عوائد المشروع ستُخصص للدعم الاجتماعي داخل سوريا.
وفي خطوة تعكس جدية التوجه السعودي، أعلن الوزير أن ولي العهد، الأمير محمد بن سلمان، أصدر توجيهًا عاجلًا بإنشاء مجلس أعمال سعودي- سوري بعضوية نخبة من كبار رجال الأعمال من الجانبين، لقيادة المرحلة المقبلة من التعاون الاقتصادي.
طرحت الحكومة السورية أمام المستثمرين السعوديين مجموعة من المشاريع الكبرى، أبرزها:
- مترو دمشق.
- تنظيم مدخل دمشق الشمالي (القابون).
- بناء مطار جديد في دمشق بسعة 30 مليون مسافر.
- تحويل مطار المزة العسكري إلى مطار مدني.
- مشروع أبراج البرامكة.
- المدينة الترفيهية في العدوي.
- المدينة الطبية في ضاحية قدسيا.
وفي كلمته، قال الوزير السعودي، خالد عبد العزيز الفالح، “ما أعلن من استثمارات اليوم هو غيض من فيض”.
رسائل سياسية بواجهة اقتصادية
رغم الطابع الاقتصادي الظاهر للاستثمارات السعودية الأخيرة في سوريا، فالتوقيت، والحجم، والسرعة التي تم بها توقيع الاتفاقيات، كلها مؤشرات تفتح الباب أمام تساؤلات أعمق حول الدوافع الفعلية وراء هذا الانخراط المفاجئ.
فهل تسعى الرياض فقط إلى دعم الاقتصاد السوري، أم أن وراء هذه الخطوة رسائل سياسية أبعد من إعادة الإعمار؟
أستاذ الدراسات الدولية بجامعة “صن يات سين” في الصين، الدكتور شاهر الشاهر، قال في تحليل سياسي- اقتصادي، لعنب بلدي، إن توقيت انعقاد المؤتمر الاستثماري السوري- السعودي يحمل دلالات سياسية تتجاوز الإطار الاقتصادي التقليدي، ويعكس مقاربة سعودية جديدة تجاه سوريا تقوم على دعم الاستقرار عبر التنمية، لا عبر أدوات التدخل أو التصعيد.
ويرى الشاهر أن انعقاد مؤتمر بهذا الحجم، وسط بيئة غير مستقرة سياسيًا وأمنيًا، يُشكّل “مغامرة محسوبة” من قبل السعودية، تهدف إلى الدفع بسوريا نحو مرحلة إعادة الإعمار، رغم أن المعايير المتعارف عليها في حالات مثل سوريا تشير إلى ضرورة مرور عامين على الأقل من التعافي الداخلي قبل الحديث عن جذب الاستثمارات الخارجية.
المؤتمر لم يكن حدثًا اقتصاديًا فحسب، بل منصة سياسية بثلاث رسائل متزامنة، أولاها إلى الداخل السوري، مفادها أن السعودية ملتزمة بأمان واستقرار سوريا وهي تقف على مسافة واحدة من الجميع واختارت دعم سوريا بالتنمية والاستثمار لا بالسلاح وتغذية الصراعات، والثانية إلى الدول الإقليمية، خصوصًا إسرائيل، مفادها أن للمملكة مصالح قائمة في سوريا وعلى الجميع احترامها، والثالثة إلى المجتمع الدولي والمستثمرين العالميين، تعلن فيها السعودية أنها تقود “الخطوة الكبرى” نحو إعادة الإعمار.
شاهر الشاهر
أستاذ العلاقات الدولية
المؤتمر، بكل ما حمله من توقيع اتفاقيات وعقود في تسعة قطاعات أساسية كالبنية التحتية والاتصالات والخدمات، يُفهم أيضًا كجزء من جهود سعودية أوسع لإعادة دمج الحكومة السورية في النظام الإقليمي، بحسب الشاهر، بما يتماشى مع رؤية “السعودية 2030” القائمة على شرق أوسط أكثر استقرارًا وترابطًا اقتصاديًا.
وأكد أن الحضور السعودي وضع حدًا للتكهنات حول تمديد قانون “قيصر” أو انفصال الجنوب السوري والتي كانت لها انعكاسات نفسية على المستثمرين، خصوصًا أن زيارة الوفد جاءت مترافقة مع إعلان وقف إطلاق النار في السويداء.
السعودية، التي كانت من أبرز الأطراف الداعمة لرفع العقوبات عن سوريا، بادرت إلى تسديد مستحقات على الحكومة السورية لمصلحة البنك الدولي، وأسست مصرفًا للتعاون السوري- السعودي، وقدّمت ضمانات للمستثمرين، ما يؤكد أن تحركاتها تتجاوز الرمزية السياسية نحو خطوات عملية لإعادة تموضع سوريا اقتصاديًا، بحسب ما قاله الشاهر لعنب بلدي.
انسجام مع الموقف الأمريكي
في ظل النقاشات الجارية حول تعديل قانون “قيصر”، اعتبر الشاهر أن هناك تضخيمًا إعلاميًا كبيرًا لما يُقال عن العقوبات الأمريكية، واصفًا تصريحات الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، وتوماس براك بأنها “إيجابية جدًا”، وتعكس تحوّلًا في الموقف الأمريكي.
وأوضح أن الولايات المتحدة لا تسعى إلى إضعاف الحكومة السورية، بل على العكس، ترى أن تمكين الدولة للقيام بدورها جزء أساسي من رؤيتها لاستقرار سوريا والشرق الأوسط عمومًا.
ولفت إلى أن رد فعل واشنطن على أحداث السويداء الأخيرة كان أقرب إلى الضغط من أجل المحاسبة، لا الاتهام السياسي المباشر.
وأضاف أن الإدارة الأمريكية لم تكن داعمة للاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على الأراضي السورية لأنها تعمل على استقرارها، وأن الحديث عن تمديد العقوبات أو تشديدها لم يعد مطروحًا بجدية، بل يتم استخدامه كورقة ضغط تكتيكية في مرحلة انتقالية حساسة.
سبق الإعلان عن الاستثمارات السعودية في سوريا موجة من العنف في السويداء جنوبي سوريا، شهدت العديد من الانتهاكات من فصائل محلية والقوات الحكومية ومقاتلي العشائر، وانتهت باتفاق يبقي السلاح الثقيل للحكومة السورية خارج السويداء، وذلك بعد ضربات إسرائيلية استهدفت الجنوب ودمرت مبنى الأركان وسط دمشق.
ماذا عن البيئة الاقتصادية
فيما يتعلق بقدرة الحكومة السورية على توفير بيئة آمنة للمستثمرين، أشار أستاذ العلاقات الدولية شاهر الشاهر إلى أن الإرادة موجودة، وهناك خطوات إصلاحية أُعلن عنها، من بينها تعديل قانون الضريبة وتسريح عدد من القضاة الفاسدين، خاصة في محاكم الإرهاب، لكن لا تزال الشفافية غائبة، ولا يُعرف الكثير عن طبيعة العقود وآلية إقرارها، في ظل غياب السلطة التشريعية المخولة بالموافقة على الاتفاقيات الخارجية.
وعن إمكانية تركيز الاستثمار في مناطق محددة، ينفي الشاهر وجود توجّه نحو إنشاء “مناطق استثمارية نموذجية” بمعزل عن بقية المحافظات، وأكد أن الاتفاقيات التي أُعلن عنها شملت مشاريع متنوعة جغرافيًا، من مرفأ طرطوس إلى مدينة سكنية في حمص، مرورًا بمصنع أسمنت في ريف دمشق، وهناك مشاريع تشمل مختلف المحافظات، بحسب احتياجات كل منطقة وثرواتها المختلفة، معتبرًا أن التنمية المتوازنة شرط أساسي لوقف الهجرة من مناطق إلى أخرى داخل سوريا وضمان عدالة الفرص بين المناطق.
والمفارقة أن المحافظات الغنية كانت الأكثر تهميشًا من قبل النظام السابق، وهو ما يجب أن تأخذه الحكومة الجديدة بعين الاعتبار.
السعودية تسهم اليوم في رسم ملامح “التاريخ الاقتصادي لسوريا الجديدة”، وإذا تحققت الوعود والمشاريع، فقد تكون المملكة شريكًا رئيسًا فيما يُمكن وصفه بـ”المعجزة الاقتصادية السورية”، إن كُتب لها أن تتحقق فعلًا.
ورغم الطابع الاستثماري الظاهر للزيارة السعودية إلى دمشق، فإن حجم الاتفاقيات، وتوقيت الانخراط، والسياق السياسي المحيط، يضع هذه الخطوة في إطار يتجاوز الاقتصاد نحو حسابات إقليمية دقيقة. فالسعودية لا تتحرك فقط لتأمين فرص تجارية في سوريا ما بعد الحرب، بل لتثبيت موطئ قدم استراتيجي في معادلة الشرق الأوسط المتغيرة، عبر أدوات التنمية بدل أدوات الصراع.
توقيع 47 اتفاقية ومذكرة تفاهم بين السعودية وسوريا في منتدى الاستثمار السوري- السعودي- 24 تموز 2025 (وزارة الاقتصاد)
منعطف إيجابي مرهون بمحددات
عدد الاتفاقيات ومذكرات التفاهم السعودية وحجم الاستثمار المعلن يطرح التساؤلات حول مدى الانعكاس على الاقتصاد السوري المتهالك، خاصة في ظل مشاريع كبرى طرحها الجانب السوري خلال المؤتمر قابلة للاستثمار.
وهناك فرق بين مذكرة التفاهم والاتفاقية الملزمة من الناحية القانونية، إذ لا تعد مذكرة التفاهم ذات قوة قانونية قطعية، وعادة ما تكون قابلة للتفسير وتهدف إلى تنفيذ التفاهم والتبادل، أما الاتفاقية فعادة ما تكون لها قوة قانونية وتخضع للعقود والقوانين، وتحدد التزامات واضحة ومواعيد محددة للتنفيذ وآليات المتابعة والمساءلة.
في صدارة الاستثمار الجريء
في 2023 و2024، جاءت السعودية في صدارة دول منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من حيث قيمة الاستثمار الجريء، إذ شكلت نسبة استثماراتها ما يقارب 40% من إجمالي الاستثمار، بقيمة تعادل 750 مليون دولار أمريكي في 2024 فقط.
تقليص العزلة
الأستاذ والمحاضر في كلية الاقتصاد بجامعة “غازي عينتاب” التركية صلاح الدين الجاسم، قال إن توقيع الاتفاقيات السعودية- السورية يعد تطورًا ذا دلالة استراتيجية في سياق تحريك عجلة الاقتصاد السوري وإعادة تموضعه ضمن الفضاء الإقليمي.
وأضاف الجاسم في حديث إلى عنب بلدي، أن ضخ استثمارات سعودية في قطاعات إنتاجية وخدمية متعددة من شأنه أن يعيد تحفيز النشاط الاقتصادي السوري في ظل الانكماش الذي شهدته البلاد خلال سنوات الحرب.
كما ينتظر أن تسهم هذه الاتفاقيات في دعم البنية التحتية وتعزيز قدرات الاقتصاد المحلي عبر تطوير سلاسل القيمة وتحسين الكفاءة الإنتاجية في القطاعات المستهدفة.
علاوة على ذلك، فإن الانخراط السعودي، بما يحمله من ثقل سياسي واقتصادي إقليمي، قد يفتح المجال أمام توسيع قنوات التمويل والتبادل مع شركاء اقتصاديين آخرين، ويسهم في تقليص فجوة العزلة الاقتصادية التي عانت منها سوريا في السنوات الماضية، وهو ما قد يدفع تدريجيًا نحو بيئة أكثر استقرارًا وجاذبية للاستثمار على المدى المتوسط والبعيد، بحسب حديث الجاسم.
تفاعل متسلسل
الخبير الاقتصادي والمصرفي الدكتور إبراهيم نافع قوشجي، أكد أن المنتدى الاستثماري السوري- السعودي والاتفاقيات التي تضمنته ليست مجرد إعلان عن مشاريع جديدة، بل تمثل منعطفًا اقتصاديًا حاسمًا يفتح آفاقًا واسعة أمام الاقتصاد السوري لإعادة الحيوية إلى مفاصله وتثبيت موقعه ضمن خارطة الاستثمار الإقليمي.
وأضاف قوشجي، في حديث إلى عنب بلدي، أن الأوساط الاقتصادية المحلية تتوقع أن تسهم هذه الاستثمارات في تحفيز قطاع الإنشاءات والبنية التحتية، من خلال مشاريع بناء فنادق، وأبراج ومجمعات خدمية حديثة.
هذا النشاط سيعيد تحريك عجلة الإنتاج الصناعي والخدمي المرتبط بهذا القطاع، ويسهم بشكل مباشر في تخفيض معدلات البطالة عبر توفير آلاف فرص العمل خلال مرحلة التنفيذ وبعد الانطلاق الفعلي للمشاريع.
كما أن هذه المشاريع من شأنها خلق نوع من “التفاعل الاقتصادي المتسلسل”، بحسب ما أوضحه قوشجي، حيث تستفيد الصناعات المساندة مثل مواد البناء، والنقل، والخدمات اللوجستية، وحتى التدريب المهني، ما يعزز الحراك الاقتصادي ويرفع من مستوى الإيرادات الداخلية للدولة.
تمثل هذه الاتفاقيات رافعة مهمة لزيادة تدفقات النقد الأجنبي إلى البلاد، من خلال العوائد التشغيلية للمشاريع، والضرائب والرسوم المفروضة عليها، ما ينعكس بشكل إيجابي على استقرار سعر صرف الليرة السورية ويحد من معدلات التضخم.
إبراهيم نافع قوشجي
خبير اقتصادي
هذا التحسن في السيولة الأجنبية يتيح للحكومة هامشًا أوسع في تمويل وارداتها من المواد الأساسية والتكنولوجية، ويساعد في تعزيز قدرة الاقتصاد المحلي على الاستمرار في ظل التحديات الإقليمية والعالمية.
وأكد الخبير المصرفي أن دخول رؤوس أموال سعودية بهذا الحجم إلى السوق السوري يحمل دلالات سياسية واقتصادية مهمة، ويشير إلى بدء انفتاح من نوع جديد على الاستثمار الدولي في سوريا، الأمر الذي يعزز من ثقة المستثمرين الآخرين، خاصة إذا اقترن بإصلاحات حقيقية في بيئة الأعمال، وتطبيق آليات شفافية وحوكمة فاعلة تسهم في استقرار المشاريع وضمان استمراريتها.
مرهون بمحددات
يظل تحقيق الأثر الاقتصادي المرجو من هذه الاتفاقيات الاستثمارية مرهونًا بجملة من المحددات المؤسسية والاقتصادية التي ينبغي توفرها لضمان استدامتها، وفق ما يرى المحاضر الاقتصادي، صلاح الدين الجاسم.
في مقدمة هذه المحددات يأتي شرط الاستقرار السياسي والأمني، بوصفه الأساس الذي تُبنى عليه قرارات الاستثمار.
لتحقيق ذلك لا بد لسوريا أن تبني مقاربة شاملة ترتكز على إدماج جميع المكونات السياسية والاجتماعية ضمن عملية إعادة البناء، وإصلاح مؤسسات الحكم والأمن بما يعزز الثقة وسيادة القانون.
صلاح الدين الجاسم
محاضر بكلية الاقتصاد بجامعة “غازي عينتاب”
كما يشكل التوزيع المتوازن للموارد وتعزيز المشاركة المحلية في اتخاذ القرار ركيزة للاستقرار، وفق ما يرى الجاسم.
وأضاف المحاضر الاقتصادي، أنه بعد ذلك تبرز ضرورة إصلاح البيئة التشريعية والتنظيمية لجعلها أكثر ملاءمة وجاذبية للمستثمرين، من حيث الشفافية، وضمان الحقوق، وتقليل الإجراءات البيروقراطية.
كما أن قدرة النظام المالي على تسهيل تدفق رؤوس الأموال، وتحويل الأرباح، وتأمين التمويل اللازم للمشروعات، تعد عاملًا حاسمًا في كسب ثقة المستثمرين وتعزيز قابلية تنفيذ الاتفاقيات.
لا يقل أهمية عن ذلك تخفيف القيود الخارجية، وفق الجاسم، لا سيما ما يرتبط بالعقوبات، وتوفير قنوات تواصل مالية وتجارية بديلة، وهو ما يمثل عنصرًا ضروريًا لإنفاذ هذه الاتفاقيات في بيئة دولية لا تزال معقدة.
استيعاب التحول تحدٍّ
رغم الأثر الإيجابي المتوقع من هذه الاتفاقيات، يبقى التحدي الأساسي متمثلًا في مدى قدرة القطاع الاقتصادي السوري على استيعاب هذا التحول النوعي، وفق ما يرى الخبير الاقتصادي الدكتور إبراهيم نافع قوشجي.
وتبرز الحاجة إلى تطوير الأنظمة الإنتاجية والإدارية بما يتماشى مع المعايير العالمية للحوكمة والرقابة والشفافية، لضمان تحقيق الأثر الكامل لهذه الاستثمارات وتقليص الفاقد الاقتصادي، كما أن تحديث التشريعات وتحسين مناخ الأعمال يُعد شرطًا أساسيًا لتحويل هذه المبادرات إلى مشاريع منتجة وناجحة، بعيدًا عن الروتين الإداري والمعوقات التنظيمية التي لطالما عاقت التنمية الاقتصادية في البلاد، بحسب قوشجي.
التاريخ السوري مليء بالمشاريع الاستثمارية الكبيرة التي تم الإعلان عنها بضجيج إعلامي كبير، لكنها لم ترَ النور أبدًا، مثل مؤتمر الاستثمار الخليجي عام 2008 في دمشق، الذي حضره وزراء ومستثمرون رفيعو المستوى، لكن معظم هذه المذكرات بقيت حبرًا على ورق.
حتى لو تم تنفيذ جميع المشاريع المعلن عنها بنجاح، فإن تأثيرها على الاقتصاد الكلي السوري سيبقى محدودًا في المدى القصير والمتوسط، فالاقتصاد السوري يحتاج إلى استثمارات بمئات المليارات من الدولارات لإعادة بنائه، وليس بضعة مليارات من الدولارات.
صندوق النقد الدولي يقدّر احتياج سوريا 400 مليار دولار لإعادة الإعمار الكامل. الاستثمارات المعلن عنها حاليًا، حتى لو تحققت بالكامل، لا تمثل سوى 3% من هذا المبلغ، هذا يعني أن الطريق لا يزال طويلًا جدًا أمام التعافي الاقتصادي الحقيقي.
ملهم الجزماتي
باحث اقتصادي