أحمد عسيلي
منذ لحظة سقوط نظام الأسد، أو بالأحرى منذ الأسبوع الأول بعد انهياره، بدأت تظهر ملامح معارضة جديدة للسلطة التي خلفته، فقد كان هناك تخوف (وهو تخوف محق) من نشوء سلطة ذات طابع ديني إسلامي متشدد. في البداية، بدا هذا الرفض خجولًا، خاصة أن الناس كانوا يعيشون نشوة الخلاص من الأسد، بما له من سجل دموي ثقيل، عاشت سوريا خلال تلك الأيام الأولى لحظة نادرة: سجن “صيدنايا”، بكل تاريخه الدموي زال كرمز سلطوي، وتكشّفت مساحات من الحريات لم يعرفها السوريون منذ عقود.
لكن شيئًا فشيئًا، بدأت التناقضات الداخلية في المجتمع السوري تطفو على السطح، كانت أزمة مقام الخصيبي، التي تزامنت مع محاولة اعتقال شخصية أمنية بارزة في طرطوس، أول اختبار علني لحدود السلطة الجديدة، وقد أدّت إلى مواجهات دامية، تلتها تحركات عسكرية في الساحل لأنصار النظام السابق، أدت إلى مجازر مروعة بحق كثير من المدنيين العلويين وبعض المدنيين السنة وأفراد الأمن، ثم موقف الشيخ الهجري ورفضه دخول الجيش إلى السويداء، ما أسّس لانقسام درزي- سلطة لاحق، حادٍّ ومؤلم، دون أن ندخل هنا في متاهة إشكالية العلاقة مع “قسد”. كل هذه الأحداث ولّدت تدريجيًا شعورًا جديدًا لدى فئات متزايدة من السوريين بأن السلطة الجديدة ليست ممثلة للجميع، بل تكرّر (وإن بوجه مختلف) أخطاء النظام السابق.
ومع تنامي هذا الرفض، عاد الشارع المعارض ليرفع شعارات تشبه شعارات عام 2011: “ارحل”، “السلطة لا تمثلني”، بدا أن الذاكرة السياسية السورية تدور في حلقة مغلقة، لكن اللافت هو أن هذه المعارضة الجديدة، كحال المعارضة القديمة، لم تأتِ بمشروع واضح، بل تكررت نفس اللغة، نفس النبرة، نفس الإلحاح الطفولي على حلٍّ واحد: الرحيل، لا أحد يطرح تصورًا لما بعد، أو حتى آليات للوصول، أو ضمانات للانتقال، فقط التمسك بالخلاص الرمزي: زوال الحاكم.
يذكرني هذا السلوك بحالة مريض عربي تابعته في باريس، كان يعاني من اكتئاب حاد، هذا الشاب أمضى سنوات يعمل بجهد في بلده الأصلي ليؤمّن تكلفة الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا، حلمه كان باريس، مدينة النور، اعتقد أن وصوله إليها هو نهاية مشكلاته (كحال معظم الشباب العربي)، عرف الطرق، اتصل بالمهربين، جمع المال، واجتاز البحر عبر ليبيا، وحين وصل إلى باريس، قدّم طلب لجوء، وانتظر، وظنّ أن الحياة ستبدأ، بسلوك يشبه كثيرًا حال سلطتنا بعد السقوط، وكأن كل شيء سيكون على ما يرام بمجرد زوال الأسد.
لكن لم يبدأ شيء، بل بدأت مرحلة التيه الحقيقي: أوراق لا تنتهي، مكاتب مغلقة، لغة غريبة، وحدة قاتلة، بلا عمل، بلا أصدقاء، بلا هوية واضحة، بدأ يشعر أنه محاصر في شبكة من الإجراءات التي لا يفهمها، لم تكن العودة إلى بلده ممكنة، لأنها تعني الاعتراف بأن كل تلك السنوات ضاعت سدى، كما لم تكن الحياة في فرنسا تملك أي ملمح من الحلم الذي رآه، وما اكتشفناه معًا خلال الجلسات أنه لم يكن يملك أي مشروع فعلي لما بعد الوصول، كل خياله كان متمركزًا حول لحظة الوصول كأنها لحظة الخلاص النهائي، لم يفكر أبدًا في أنه سيحتاج إلى بناء شيء ما، إلى وقت، إلى تعلم، لم يكن يتصور بأنه بعد الوصول سيواجه شكلًا آخر من المشكلات، ظن أن كل شيء سيحل تلقائيًا.
وهذا تمامًا ما نراه اليوم في لغة السياسة السورية وعلى ضفتي النظام والمعارضة: غضب ورفض تام من جهة، مع أمل ووعود كبيرة من جهة أخرى، لكن بلا مشروع واضح، وكأن إسقاط النظام هو لحظة الخلاص الوحيدة، وكأنها نهاية التاريخ، متناسين أن داخل المجتمع السوري ذاته، هناك تناقضات هائلة، طبقية، دينية، مناطقية، لغوية، لا تزول بمجرد سقوط النظام.
هذا النمط من التفكير يشبه ما يسميه بعض المحللين النفسيين بـ”التفكير الأداتي”، ويمكن لنا أن نسميه حتى “التفكير الطفولي”، حيث لا يُفكر الإنسان إلا في نتيجة واحدة نهائية، ويُغفل كل ما قبلها وكل ما بعدها، وهنا يتحول العمل السياسي من فعلٍ مركّب إلى أمنية، ويتحول المطلب الشعبي إلى تكرار صوتي لا يُنتج أثرًا.
وإذا عدنا للمريض السابق، نكتشف أنه أكثر واقعية من معارضتنا حاليًا، فذلك الشاب، على الأقل، عرف طريقه للوصول إلى أوروبا، خطط له، واجتهد، ورسم طريقًا واضحًا ونجح في الوصول (كالسلطة)، الصدمة كانت في اليوم التالي للوصول فقط (كالسلطة والمعارضة)، أما المعارضة الحالية، فهويتها نفي فقط: لا تشارك، تضغط لاستقالات جماعية، تطلب تدخلًا دوليًا، دون أي خطة للفعل، بل تطالب بأن يقوم طرف خارجي غير محدد بفعل كل شيء عنها.
في النهاية، يبدو أن سوريا لم تتجاوز بعد عقدتها الأولى: رفض الحاكم دون مساءلة الذات، نريد أن يرحل كل شيء، لكن لا نعرف من يأتي، أو كيف، أو لماذا، نعيش بلا خيال سياسي وبلا مشروع واقعي، والفراغ كما علمنا التاريخ، لا يظل فارغًا طويلًا، يملؤه العنف، أو الأساطير، أو زعماء من ورق.