عنب بلدي – نادين جبور
تزامنًا مع تغييرات المرحلة الانتقالية في سوريا، بدأ مشهد المجتمع المدني بالتغير تدريجيًا مع تسجيل عودة عدد من المنظمات الحقوقية إلى داخل سوريا، ما أتاح فرصًا للتواصل المباشر مع المجتمعات المحلية، وفهم أولوياتها واحتياجاتها، كما أسهم في بناء بيئة تضامنية بين روابط الضحايا والمستقلين منهم.
ورغم أن هذه العودة تعد مؤشرًا على انفتاح تدريجي في الفضاء المدني، فإن التحديات التنظيمية والقانونية لا تزال تطرح تساؤلات حول فعالية واستقلال هذا الحراك، لا سيما في ملفات حساسة مثل العدالة الانتقالية وحرية الأفراد.
تحديات عمل المنظمات والحفاظ على الاستقلالية
في بيئة تنظيمية لا تزال طور التشكيل، قالت مديرة قسم توثيق الانتهاكات في “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، نور الخطيب، لعنب بلدي، إن منظمات المجتمع المدني في سوريا تواصل عملها ضمن واقع قانوني وإداري غير مستقر، وسط تحديات تتعلق بغياب الوضوح التشريعي وتفاوت آليات التنسيق مع الجهات الرسمية، ومع ذلك، يُنظر إلى العمل ضمن الإطار القانوني في المرحلة الانتقالية كخطوة “إيجابية” لتعزيز حضور المجتمع المدني وتوسيع دوره في دعم قضايا العدالة والحقوق.
وأضافت الخطيب، أن الاستقلالية تعد ركيزة أساسية تشجع المنظمة على ترسيخها في أدائها، وتسعى إلى الحفاظ عليها عبر بناء علاقات شفافة مع الجهات الرسمية، والتمسك بالمعايير الحقوقية المهنية، والعمل من منطلقات وطنية تهدف إلى خدمة جميع فئات المجتمع دون استثناء.
من جهتها، أشارت رئيسة “رابطة عائلات قيصر”، ياسمين مشعان، إلى أنه لا توجد أي قيود مفروضة على عمل الرابطة، ولم يجرِ أي تعديل على النظام الداخلي للرابطة، وذكرت أنها بدأت بالفعل تنفيذ بعض الأنشطة الميدانية، رغم العقبات التمويلية التي ظهرت نتيجة الارتفاع “الكبير في أسعار الشقق والمكاتب ووسائل النقل في ظل تفاقم احتياجات العائلات، ما خلق تحديات مالية جديدة أمام التوسع في النشاط”.
وقالت مشعان، “حجم الظاهرة متفاقم بشكل رهيب، ومهما بلغت موارد الرابطة، فإنها تبقى محدودة مقارنة بحجم احتياجات العائلات، لا سيما الأسر التي كانت تعيش في مناطق سيطرة النظام، والتي بدأت مؤخرًا بمحاولات الاستكشاف والبحث عن الحقيقة”.
نتيجة لذلك، ترى مشعان أن التعاون مع الهيئة الوطنية للمفقودين خطوة أساسية لضمان عدالة توزيع الدعم وتفادي التكرار أو التمييز بين الأسر، من خلال بناء شراكات فاعلة مع الروابط والمنظمات الأخرى، بما يحقق توازنًا في نظام الإحالة، ويتم بالتنسيق مع جهة مختصة بملف المفقودين.
كما يشكل غياب آليات المحاسبة تحديًا كبيرًا في ظل عدم تشكيل هيئات عدالة انتقالية أو وضع آليات واضحة للتقاضي، ما يعوق مطالبة الأهالي بحقوقهم، لذلك تسعى المنظمات إلى شراكات داخل سوريا بهدف تقديم الدعم القانوني واستكشاف الأدوات اللازمة لاستكمال مسارات المحاسبة.
134 منظمة في ستة أشهر
قالت مديرة مديرية المنظمات غير الحكومية في وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، رولا الأغبر، لعنب بلدي، إنه تم إشهار 134 منظمة غير حكومية خلال النصف الأول من العام الحالي، ليرتفع عدد المنظمات المصنفة في مجال القانون والدفاع والحقوق إلى 203 منظمات.
وأوضحت الأغبر أن التراخيص تُمنح بعد استكمال الأوراق المطلوبة، وأشارت إلى أن صياغة أهداف المنظمة يجب أن تكون ضمن مجموعة من الأنشطة التي حددتها الوزارة، إضافة إلى ضرورة التنسيق الكامل مع الجهات المعنية للحصول على الموافقات اللازمة للأنشطة المرتبطة بمجال عملها.
وفي هذا الإطار، حددت وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل مجموعة من الأنشطة التي يسمح للمنظمات المدرجة ضمن التصنيف بممارستها، وهي:
- تقديم المشورة القانونية والمساعدة في حل النزاعات.
- برامج نشر مبادئ المواطنة.
- برامج المصالحة الوطنية.
- تأهيل المجرمين وإعادة دمجهم بالمجتمع.
- معالجة أسباب الجريمة وتعزيز السلامة وتدابير الاحترازية.
- المشورة والنصح لضحايا الجريمة.
- حماية المستهلك وتحسين مراقبة جودة المنتجات.
- حماية الحقوق وتعزيز مصالح المجموعات الهشة.
- جمعيات الحقوق والحريات المدنية والفردية.
- التعاون والتكافل بين العاملين أو المختصين بمجال تخصص مشترك (بما لا يتعارض مع عمل المهنية).
وبحسب ما أوضحته الوزارة، فإن دورها يقتصر على الإشراف على نشاط المنظمات غير الحكومية وذلك ضمن إطار تشاركي، مع تقديم التسهيلات المطلوبة لتحقيق أهداف المنظمة، بما يتوافق مع القوانين والأنظمة المعمول بها.
دور المنظمات الحقوقية في مسار العدالة الانتقالية
تلعب المنظمات الحقوقية دورًا محوريًا في مسار العدالة الانتقالية باعتبارها صلة وصل بين الضحايا والمجتمع والمؤسسات المعنية بإرساء العدالة، فهي لا تقتصر على توثيق الانتهاكات أو تقديم الدعم، بل تسهم في بناء مسار وطني شامل يعكس تطلعات مختلف فئات المجتمع نحو الحقيقة والإنصاف والمساءلة.
وأكدت الخطيب أن “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” تؤمن بأن العدالة الانتقالية ليست مجرد مسار قانوني تقني، بل عملية مجتمعية تقوم على الاعتراف المتبادل، والشفافية، والحوار كسبيل لإعادة بناء الثقة وتجاوز إرث الانتهاكات والإقصاء أو تكرار ممارسات الماضي.
وأوصت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” بإنشاء هيئة عدالة انتقالية في سوريا عبر قانون يصدر عن المجلس التشريعي، محذرة من مخاطر إنشاء الهيئة بمرسوم تنفيذي لما في ذلك من تهديد لاستقلاليتها وفعاليتها، وذلك في تقرير نشر عبر موقع الشبكة في 13 من أيار الماضي، مستندًا إلى تجارب دولية أظهرت أن الهيئات المنشأة بقرارات تنفيذية غالبًا ما تفتقر إلى الشرعية المجتمعية وتعاني من تدخلات سياسية وضعف في إشراك الضحايا.
توسيع حريات الأفراد
ترى “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” أن المرحلة الانتقالية تتيح فرصة حقيقية لمراجعة منظومة الحقوق والحريات في سوريا، من خلال الحوار المجتمعي والمشاركة الفعالة للمنظمات المدنية.
تعمل “الشبكة السورية” على إعداد تصورات وأوراق سياسات واقتراحات تشريعية تتوافق مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان، مع الحرص على أن تكون هذه الجهود واقعية، وتستجيب للخصوصية السورية، وتراعي السياق الانتقالي الذي يتطلب تدرجًا وتوافقًا واسعًا.
من جهتها، قالت الناشطة الحقوقية سارة عز الدين، إنه إذا حافظت هذه المنظمات على استقلاليتها وحيادها، ولم تتبع أي جهة سياسية، وتمسكت بمبدأ المحاسبة الشاملة، فإنها تكون بذلك أداة فعلية لتوسيع الحريات، وهذا يشمل مساءلة كل من ثبت تورطه في عمليات الإخفاء القسري، حتى لو كانوا من رموز السلطة الحالية.
تحديات الحراك الحقوقي
يعتبر غياب دستور دائم أحد أبرز التحديات التي تواجه الحراك الحقوقي اليوم، إذ لا يوفر الإعلان الدستوري الحالي سوى إطار مؤقت وغير كافٍ، رغم احتوائه على مبادئ احترام القانون الدولي لحقوق الإنسان.
يرافق ذلك غموض في كيفية تطبيق الاتفاقيات الدولية السابقة، إذ تحتاج بعض الاتفاقيات التي صدّق عليها نظام الأسد المخلوع إلى إعادة تصديق من الحكومة الانتقالية، ما يخلق إشكالات قانونية.
كما تستمر القوانين المعمول بها بالاعتماد على التشريعات القديمة التي تقيّد حرية العمل الحقوقي، وتنحصر ضمن الأطر النقابية الرسمية التي تخضع لرقابة الحكومة، مما يحد من استقلالية النقابات والمنظمات الحقوقية ويقيد حرية تأسيسها وعملها، بحسب ما قالته الناشطة الحقوقية سارة عز الدين لعنب بلدي.