عنب بلدي – موفق الخوجة | بيسان خلف
عاد اتفاق 10 من آذار إلى طاولة المفاوضات، بعد ملامح عن فجوة بين دمشق و”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، عطلت تطبيق بعض بنوده لأربعة أشهر.
وتشير التصريحات المتبادلة بين الحكومة السورية و”قسد” إلى تحركات جديدة ضمن مسار المفاوضات المعقدة، وسط تباينات مستمرة ومؤشرات متزايدة على احتمال الوصول إلى تفاهمات جزئية.
وفي الوقت الذي تحاول فيه الأطراف بناء جسور للحل على أساس اتفاق الرئيس السوري، أحمد الشرع، وقائد “قسد”، مظلوم عبدي، الذي حمل وعودًا بدمج المؤسسات وضمان الحقوق، لا تزال ملفات جوهرية، كالمسألة العسكرية ومفهوم اللامركزية، عالقة بين التأكيد والتشكيك، وبين الوعود والتطبيق البطيء.
يتناول هذا الملف تفاصيل التصريحات الأخيرة، وخلفيات الاتفاق، والعوامل التي تعرقل أو تدفع بمسار التفاوض قدمًا، خاصة بعد أحداث السويداء الدامية، والتي تعد طرفًا آخر في معادلة الحكم المركزي بدمشق مع الأطراف في سوريا.
خطوة إلى الأمام
حملت مقابلة قائد “قسد”، مظلوم عبدي، مع قناة “الحدث” السعودية، مؤشرات على تفاهمات جديدة، في خط المفاوضات الجارية مع الحكومة في دمشق.
عبدي تطرق في المقابلة، التي عرضت في 29 من تموز الماضي، إلى عدة مواضيع رئيسة، أوضح من خلالها جزءًا من مسار المفاوضات، كاشفًا عن تفاهمات مبدئية فيما يخص بعض النقاط المتعلقة بالثقافة واللغة، ومشيرًا إلى تقارب في مفاهيم كانت عالقة، أبرزها اللامركزية.
بالمقابل، ما زالت ملفات قيد المفاوضات والتفاهمات، خاصة ما يتعلق بقضية دمج المؤسسات العسكرية ومصيرها.
سبق هذه التصريحات تأكيد من دمشق على عدم وجود تقدم في مفاوضاتها مع “قسد”، كذلك الإشارات السلبية التي نتجت عن جولة المفاوضات التي جرت في 10 من تموز الماضي.
ويضاف إلى ذلك، ما ذكره المبعوث الأمريكي إلى سوريا، توماس براك، حول مماطلة “قسد” بالاندماج.
وما زالت جولات المفاوضات بين الحكومة في دمشق والجهة التي تسيطر شمال شرقي سوريا تسير بخطى غير ثابتة، تشوبها عراقيل أحيانًا، وتفاهمات ومبادرات في أحيان أخرى.
بدأت المفاوضات بعد الاتفاق الذي وُصف بـ”التاريخي”، بين الرئيس السوري للمرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، وقائد “قسد” عبدي، الذي جرى في 10 من آذار الماضي، وتضمن ثمانية بنود، أهمها دمج الأجسام المدنية والعسكرية مع مؤسسات الدولة.
وحملت البنود السبعة الأخرى طابعًا اجتماعيًا، إذ تضمن أن المجتمع الكردي مجتمع أصيل في الدولة السورية، وتضمن الدولة حقه في المواطنة وحقوقه الدستورية، إضافة إلى ضمان حقوق جميع السوريين في التمثيل والمشاركة بالعملية السياسية وجميع مؤسسات الدولة بناء على الكفاءة بغض النظر عن خلفياتهم الدينية والعرقية.
قوى الأمن الداخلي (أسايش) الرديفة لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) تنظم عرضًا عسكريًا في القامشلي بعد أحداث السويداء – 21 تموز 2025 (المصور دليل سلميان/ إكس)
حتى نهاية العام
بحسب البنود، تم الاتفاق على وقف إطلاق النار على جميع الأراضي السورية، وتعمل وتنسق اللجان التنفيذية على تطبيق الاتفاق بما لا يتجاوز نهاية العام الحالي.
عبدي، وعد أن قواته ستعمل على تطبيق جميع بنود الاتفاقية قبل نهاية العام، مؤكدًا أن التواصل مفتوح مع الحكومة السورية، بشكل يومي، إلا أن اتفاق 10 من آذار يسير ببطء، وأسباب ذلك تتعلق بجانبين، لا بجانب واحد.
الباحث في فواعل ما دون الدولة في مركز “عمران للدراسات” أسامة شيخ علي، قال إن تصريحات عبدي لم تأتِ بشيء جديد سوى ما كان تأكيدًا على كلام سابق ربما بصيغ أخرى، إلا أنها حملت إشارات إيجابية، خاصة فيما يتعلق بمفهوم اللامركزية والاتفاق على الحقوق الثقافية واللغوية في سوريا، معتبرًا أنها نقاط يمكن البناء عليها للوصول إلى التفاهم.
وأضاف في حديث إلى عنب بلدي أن التوصل إلى اتفاق بين الجانبين ممكن، لكن يجب عليهما أن يقدما تنازلات.
إيجابية تقابَل ببطء على الأرض
تقابَل “الإيجابية” التي تتحدث عنها بعض الأوساط في “قسد” حول اجتماعاتها ومفاوضاتها مع الحكومة بتصريحات سلبية من الأخيرة، أحدثها ما ألمح إليه مدير إدارة الشؤون الأمريكية في وزارة الخارجية والمغتربين، قتيبة إدلبي، حول تعثر المفاوضات.
وقال إدلبي في مقابلة مع قناة “الإخبارية“ الرسمية، في 25 من تموز الماضي، إن اتفاق 10 من آذار بين الحكومة السورية و”قسد” لا يحتاج إلى أشهر للتنفيذ، بل يحتاج إلى رغبة حقيقية.
وأضاف أن الحكومة السورية ما زالت مؤمنة بتحكيم العقل، لتصل مع “قسد” إلى حل واضح وتطبيق بنود الاتفاق، مراهنة على الحل السياسي معها إلى أبعد حد ممكن، وتعول على الحكمة والعقل في استجابتها للجهود الدولية، وقراءتها للواقع كما هو موجود.
“مشكلة المفاوضات مع (قسد) حاليًا، هي غياب رؤية موحدة ضمن قيادتها، وباريس مستعدة للضغط على (قسد) للوصول إلى الحل الذي يريده السوريون”، بحسب تعبير إدلبي، لافتًا إلى أن المطلوب الآن هو أن تأتي “قسد” إلى الطاولة، من خلال جهود الوساطة الفرنسية والأمريكية.
واعتبر أن هناك نية لدى الولايات المتحدة وفرنسا بضرورة استكمال الإجراءات التي تحفظ وحدة سوريا، وأن الولايات المتحدة الأمريكية على تفاهم كامل مع الحكومة السورية، و”قسد” تحاول فرض واقع اجتماعي وثقافي في دير الزور، وأخذت موارد هذه المحافظة.
من جانبه، قال المبعوث الأمريكي إلى سوريا، توماس براك، الذي تحدثت أوساط إعلامية عن حضوره جولة المفاوضات التي جرت في 9 من تموز الماضي، إن الحكومة السورية متحمسة لضم “قسد” إلى صفوفها، بينما الأخيرة بطيئة في القبول والتفاوض والمضي قدمًا نحو ذلك.
وأضاف براك لوكالة “روداوو” أن دمشق تسعى لما وصفه بـ”دولة واحدة، أمة واحدة، جيش واحد، حكومة واحدة”، معتقدًا أن الحكومة في دمشق كانت “سخية” في سعيها لإيجاد طريقة لتوحيد هذه المصالح، وفق تعبيره.
ووجه براك نصيحة لـ”قسد” بالإسراع، معتبرًا أن الطريق الوحيد أمامها هو دمشق، في إشارة إلى الانضمام للحكومة.
وكان من المقرر أن تجتمع الحكومة السورية، ممثلة بوزير الخارجية، أسعد الشيباني، مع وفد من “قسد” يرأسه عبدي، في باريس، في 25 من تموز الماضي.
وبحسب عبدي، ألغيت جولة المفاوضات في اللحظات الأخيرة، بناء على طلب دمشق، بسبب الأحداث التي جرت مؤخرًا في السويداء، جنوبي سوريا.
رأيي في العلاقة بين “قسد” والحكومة السورية هو أن الحكومة السورية كانت متحمسة بشكل لا يُصدّق في محاولة ضم “قسد” إلى ما تحدثنا عنه بالضبط، دولة واحدة، أمة واحدة، جيش واحد، حكومة واحدة.
وتفاصيل كيفية تحقيق ذلك، أعتقد أن الحكومة السورية كانت جيدة جدًا وسخية في سعيها لإيجاد طريقة لتوحيد هذه المصالح.
وبصراحة تامة، أرى أن “قسد” كانت بطيئة في القبول والتفاوض والمضي قدمًا نحو ذلك، ونصيحتي لهم هي أن يسرعوا، فهناك طريق واحد فقط، وهذا الطريق يؤدي إلى دمشق.
توماس براك
المبعوث الأمريكي إلى سوريا
قائد قوات سوريا الديمقراطية (قسد) مظلوم عبدي يحضر مقابلة مع وكالة رويترز في الشدادي بسوريا – 13 حزيران 2025 (رويترز/ أورهان قريمان)
دير الزور.. بوادر تفاهم مرتقب
تسيطر “قسد” على شمال شرقي سوريا، تحديدًا، كامل محافظتي الحسكة والرقة، باستثناء مدينتي رأس العين وتل أبيض اللتين تقعان تحت النفوذ التركي.
كما تسيطر على أجزاء من ريف حلب الشرقي، والقسم الشرقي من ضفة نهر الفرات في محافظة دير الزور.
وألمح قائد “قسد”، مظلوم عبدي، في حديثه إلى “الحدث”، إلى توحيد مناطق ضفتي نهر الفرات في دير الزور، ما يشي ببوادر دمج للمؤسسات هناك، وهو ما ذكره أمام العشائر العربية في المنطقة.
ولفت عبدي إلى مطالبات من أهالي المنطقة المنضوين بالمؤسسات الأمنية والعسكرية، بالمحافظة على وظائفهم وأمكنتهم في عملية الدمج.
ويرى الباحث في مركز “عمران” أسامة شيخ علي أن حديث عبدي عن توحيد ضفتي دير الزور الشرقية والغربية قد تكون إشارة إلى تفاهمات قد يعلن عنها قريبًا، واعتبرها خطوة أولى واختبارًا لدمج المؤسسات الإدارية والأمنية والعسكرية ريثما يتم التحضير لإدماج الحسكة والرقة.
ويعتقد شيخ علي أن الأيام المقبلة تحمل انفراجًا في ملف الشرق السوري، وربما يكون هناك اختبار في دير الزور، تمهيدًا لخطوات لاحقة في الرقة والحسكة.
اجتماع تمهيدي
في اجتماع تسربت منه معلومات مقتضبة، اجتمع قائد “قسد” مظلوم عبدي، مع قادة عسكريين، ورؤساء المجالس المحلية، ووجهاء عشائر من محافظة دير الزور، في 27 من تموز، في بلدة الشدادي بريف الحسكة.
وقال مصدر حضر الاجتماع، لعنب بلدي، تحفظ على ذكر اسمه لأسباب أمنية، إن الاجتماع كان بهدف الاتفاق على انسحاب “قسد” من كامل ريف دير الزور، تمهيدًا لتسلّم الحكومة السورية إدارة المدينة وريفها بالكامل.
وأضاف المصدر أن هذا القرار تم بفعل ضغوط أمريكية على “قسد”.
ووفقًا للمصدر، فإن الانسحاب المحتمل من دير الزور لن يكون فوريًا، بل سيمر بمرحلة تجريبية لا تتجاوز ثلاثة أشهر، يتم خلالها تقييم التبعات الميدانية والإدارية، وتبعًا لنتائج هذه المرحلة، سيُحسم مستقبل السيطرة في محافظتي الرقة والحسكة أيضًا.
الخطوة وإن لم تُحسم بعد، تُنذر بتحول استراتيجي في موقع “قسد” ضمن الترتيبات الإقليمية التي تسيطر على المشهد السياسي في سوريا، وتضع مصير مشروع “الإدارة الذاتية” على المحك، خصوصًا في المناطق التي تفتقر إلى حاضنة شعبية لـ”الإدارة الذاتية” مثل دير الزور والرقة.
ومنذ سنوات، تواجه “قسد” تحديات في دير الزور، أهمها الرفض الشعبي لهيكلية الحكم، والاتهامات بتهميش وإقصاء المكون العربي، إضافة إلى توترات أمنية تشهدها المنطقة بشكل متصاعد منذ سقوط النظام السابق.
لا نية رسمية للانسحاب
وسط غياب التعليق الرسمي بشأن “اجتماع الانسحاب”، قال مصدر عسكري في “قسد”، لعنب بلدي، تحفظ على ذكر اسمه لأسباب أمنية، إن تصريحات عبدي تؤكد ضرورة التوافق على وحدة سوريا، لكنها لا تشير إلى انسحابها من دير الزور.
وأشار إلى أن النقاشات بين الحكومة السورية و”قسد” تدور حول دمج المؤسسات وليس تسليمها، كما تركّز “قسد” على منح أبناء كل منطقة مسؤولية إدارة شؤونهم العسكرية والمدينة، وهو ما يشير إلى نيتها البقاء مع إعطاء دور أكبر للعشائر المحلية.
وأكد أن دير الزور لها أهمية استراتيجية كبيرة بالنسبة للحكومة السورية بسبب ثرواتها النفطية، التي تعد موردًا اقتصاديًا حيويًا، ومن المرجح أن تكون هناك ضغوط من الحكومة السورية على “قسد” للانسحاب من دير الزور كجزء من أي اتفاق، ومع ذلك، فإن “قسد” ترفض الانسحاب الكامل، وتتطلع إلى صيغة لامركزية لإدارة مناطقها، ما يشير إلى أن “قسد” لا تستجيب بسهولة لمطالب الانسحاب، وأن المفاوضات قد تطول للتوصل إلى تسوية.
ويرى المحلل السياسي حسن النيفي، في حديث إلى عنب بلدي، أن “قسد” لا تمانع تسليم محافظة دير الزور للحكومة الجديدة، وخاصة الدوائر الخدمية كالتعليم والصحة وسواها، ولكن ثمة مسألتان هما موضع الخلاف، السلاح الذي تملكه “قسد”، وإدارة آبار النفط والغاز.
الخلاف الجوهري حول مسألتي السلاح والاقتصاد لا يزال بعيدًا، وهذا ما دفع أطرافًا خارجية للتدخل، كدخول فرنسا على الخط من أجل تقريب وجهات النظر بين “قسد” والحكومة السورية، بحسب النيفي.
ووفقًا للمحلل السياسي، فإن ما تسعى إليه الحكومة هو بسط سيطرتها على جميع المحافظات الشرقية وليس دير الزور فقط، فتمسك الحكومة ببعض المناطق أو المحافظات دون سواها من المحافظات الأخرى يجسّد خللًا كبيرًا في خطابها وسلوكها.
ويعتقد النيفي أن وجود “قسد” يجب أن يُحدد وفقًا للتفاهمات التي ستجري لاحقًا، إذا اتفق الجانبان على لامركزية إدارية يمكن أن يكون لـ”قسد” دور وحضور في الإدارة بالمناطق ذات الأغلبية الكردية فقط.
رفض شعبي ينذر بالتصعيد
يترافق الرفض الشعبي لوجود “قسد” في دير الزور، ذات الأغلبية العربية، مع توترات أمنية في المنطقة، منها اشتباكات بين القوات الحكومية المتمركزة غرب نهر الفرات و”قسد” شرقه، مما يثير المخاوف حول اندلاع أعمال عسكرية تجبر “قسد” على الانسحاب بعملية عسكرية.
كما تصر “قسد” على الاحتفاظ بدير الزور تخوفًا من عودة نشاط تنظيم “الدولة الإسلامية” إلى المنطقة، إذ كانت آخر عملياتها ضد تنظيم “الدولة”، في 25 من تموز، بمنطقة البصيرة في الريف الشرقي لدير الزور.
وحول التوترات الأمنية هناك قال مصدر عسكري في “قسد”، غير مخول بالحديث لوسائل الإعلام، لعنب بلدي، إن التوترات الأمنية في دير الزور مقعدة، أحد أسبابها الرئيسة هو استياء السكان المحليين الذين يطالبون بخروج “قسد” من مناطقهم، مع توجيه الاتهامات لـ”قسد” بالمسؤولية عن الانفلات الأمني واغتيال ناشطين ووجهاء عشائر في دير الزور.
وأضاف أن الاشتباكات بين القوات الحكومية و”قسد” ناتجة عن تحركات عسكرية من كلا الطرفين، ولا يمكن التكهن بمستقبل الأوضاع في دير الزور، إذ هناك نهجان متوازيان هما:
النهج التفاوضي: هناك محادثات مستمرة بين “قسد” والحكومة السورية، بوساطة إقليمية ودولية، هذا النهج يهدف إلى التوصل لحل سياسي وتجنب التصعيد العسكري.
النهج العسكري: في الوقت ذاته، هناك تعزيزات عسكرية من قبل “قسد” في دير الزور، مما يشير إلى ممارسة الضغط العسكري على الحكومة السورية في حال فشل المفاوضات.
وأوضح المصدر العسكري، لعنب بلدي، أن المنطقة قد تشهد تهدئة مؤقتة نتيجة للمفاوضات، ولكن الصراع على النفوذ والموارد يبقى قائمًا، ما يبقي احتمالية التصعيد مفتوحة.
وبشأن المخاوف من عودة نشاط تنظيم “الدولة الإسلامية” في دير الزور، أكد المصدر أن التنظيم لا يزال يشكل تهديدًا في المنطقة، حيث تتوقع “قسد” تصاعدًا في هجماته في المنطقة الصحراوية شرق دير الزور، على الرغم من استمرار عملياتها لاعتقال خلايا تابعة للتنظيم.
المحلل السياسي حسن النيفي، يرى أن المعطيات الميدانية تؤكد أن عودة تنظيم “الدولة” إلى المشهد، وبالقوة التي كان يمتلكها قبل 2018 تبدو مسألة غير واقعية، ولعله من الصحيح أن ثمة خلايا للتنظيم هنا وهناك، ولكن وجودها لا يشكل تلك الخطورة التي “تريد (قسد) إظهارها”.
ويعتقد أن من مصلحة “قسد” المبالغة بمسألة بقاء خطورة تنظيم “الدولة”، ولكن من جهة أخرى يجب الإشارة إلى أن مهمة التصدي للتنظيم باتت من مهام الحكومة الجديدة في سوريا بالتنسيق مع تركيا، وفقًا للتفاهمات التركية- الأمريكية، فالتمسك باحتمالية عودة التنظيم يمكن أن تكون ذريعة بيد “قسد” تحول دون موافقتها على تسليم سلاحها أو اندماجها في الدولة السورية.
مبادرة سابقة في حلب
لم تكن المبادرة لدخول الإدارة السورية الجديدة إلى مناطق سيطرة “قسد” في دير الزور الأولى من نوعها، إذ سبقتها اتفاقيات مشابهة في حيي الشيخ مقصود والأشرفية بالقسم الشمالي من مدينة حلب، مطلع نيسان الماضي، وهو ما اعتبره باحثون قابلتهم عنب بلدي حينها بمثابة “بالون اختبار” للاتفاق العام، الذي جرى بين الشرع وعبدي.
الاتفاق جاء بـ14 بندًا، تضمن خروج قوات “قسد” العسكرية وبقاء “قوى الأمن الداخلي” (أسايش) تمهيدًا لدمجها ضمن صفوف وزارة الداخلية السورية.
ونفذ من الاتفاق خروج دفعتين من عناصر “قسد” إلى شمال شرقي سوريا، ضمتا نحو 900 عنصر، بحماية من وزارة الدفاع، فضلًا عن تنفيذ عمليات لتبادل الأسرى، وصولًا إلى تفريغ السجون من الجانبين.
وفي منتصف نيسان الماضي، بدأت الحكومة واللجنة المفاوضة من حيي الأشرفية والشيخ مقصود بالسير نحو تنفيذ البنود الخدمية، بحسب الاتفاق، فضلًا عن إزالة سواتر ترابية وفتح الطرقات المؤدية إلى الحيين.
وحتى اللحظة، ما زالت قوات “أسايش” تدير الملف الأمني في حين تدير المجالس المحلية الملفات الخدمية، وسط هدوء واستقرار في الحيين.
كيف أثرت السويداء على المفاوضات
ألقت أحداث السويداء بظلالها على عدة ملفات سياسية وأمنية، داخل سوريا وخارجها، ومنها مسار المفاوضات بين الحكومة و”قسد”.
قائد “قسد” اعتبر أن أحداث السويداء إشارة إلى أهمية التفاوض والوصول لاتفاق، والابتعاد عن الحل العسكري، مشيرًا في الوقت ذاته إلى تخطي مرحلة وقف إطلاق النار، إلى السلام الشامل.
وفي هذا السياق، يعتقد الباحث، شيخ علي، أن دمشق ستكون أكثر حذرًا بالتعامل مع شرق الفرات، لأن ما حدث في الساحل وبعدها في السويداء، وتداعيات هذين الحدثين كبير جدًا على مستوى سوريا وعلى الصعيد الخارجي.
ليس هناك ترف لإعادة هذا المشهد شرق الفرات والذي سيكون بشكل موسع أكثر، ففي حال حدثت عمليات عسكرية، ستكون أحداث الساحل والسويداء بمثابة نزهة أمام ما سيحدث في شرق الفرات.
أسامة شيخ علي
باحث في مركز “عمران للدراسات”
يعود ذلك لأسباب عديدة، وفق الباحث أسامة شيخ علي، منها المساحات الشاسعة شمال شرقي سوريا، وأيضًا التداخل الديموغرافي، مشيرًا إلى وجود العشائر العربية والكرد، معتقدًا أن هذه العوامل ستؤدي إلى انفجار أمني وعسكري كبير في المنطقة، وأمور “لا تحمد عقباها”.
ويرى أن الطرفين يتجنبان، حتى الآن، دخول مواجهة عسكرية، ويصران على الشكل السلمي وإنجاح المفاوضات، خاصة بعد مواجهات السويداء الأخيرة ومن قبلها أحداث الساحل.
وبدأت الأحداث في السويداء على خلفية عمليات اختطاف متبادلة بين سكان حي المقوس ذي الأغلبية البدوية في السويداء، وفصائل محلية ذات طابع درزي.
تأزمت الأحداث في 13 من تموز الماضي، لتتطور إلى اشتباكات متبادلة، دفعت الحكومة إلى إرسال تعزيزات بدعوى فض الاشتباك، إلا أن القوات الحكومية التي دخلت ارتكبت انتهاكات تجاه مدنيين، ما أدى إلى هجوم مضاد من الفصائل المحلية.
ودخلت إسرائيل على خط الاشتباك، وقصفت أهدافًا في الجنوب السوري والعاصمة دمشق، أبرزها مبنى الأركان، ومحيط قصر الشعب، لمصلحة فصائل محلية موالية للرئيس الروحي للطائفة الدرزية، حكمت الهجري، وهو ما دفع قوات وزارتي الداخلية والدفاع للانسحاب إلى خارج المحافظة باتفاق مع جهات محلية.
أعقب الانسحاب عمليات انتقام من الفصائل المحلية تجاه السكان مدنيين من المكون البدوي، أدت إلى غضب واسع في الأوساط العشائرية في عموم المناطق السورية، التي أرسلت أرتالًا من مقاتليها للمشاركة في الاقتتال.
وأعادت أحداث السويداء إلى الأذهان مشاهد مشابهة في الساحل غربي سوريا، بدأت في 6 من آذار الماضي، بتحركات عسكرية من ضباط وعناصر يتبعون للنظام السابق، وصفت بـ”الانقلاب”، تبعها خروج أرتال من فصائل موالية للحكومة ومدنيين حملوا السلاح، أدى ذلك إلى مقتل أكثر من 1400 شخص على أساس طائفي، بحسب لجنة تقصي الحقائق بأحداث الساحل، التي شكلتها الحكومة.
خروج الدفعة الثانية من مقاتلي “قوات سوريا اليمقراطية” (قسد) من حلب نحو شرقي سوريا – 9 نيسان 2025 (محافظة حلب/ تلجرام)
اللامركزية تتبلور
شكلت قضية اللامركزية و”الفدرلة” عامل كبح للمفاوضات بين الجانبين، إذ تصر “قسد” على هذا المبدأ، بينما تشدد دمشق على مركزية الدولة.
وبالرغم من تصريحات قادة “قسد” والأجسام التابعة لها، السياسية والحوكمية، المؤكدة على وحدة سوريا وأراضيها، يبقى التخوف من نزعات انفصالية مسيطرًا على موقف الحكومة.
عبدي في مقابلته مع “الحدث”، ألمح إلى تغير في مفهوم “قسد” للامركزية، قائلًا إن بعض الوزارات لا بد أن تكون مركزية، خاصة الوزارات السيادية.
تصريحات عبدي جاءت تأكيدًا على قول الرئيسة المشتركة لدائرة العلاقات الخارجية في “الإدارة الذاتية”، إلهام أحمد، لشبكة “روداوو“، في 27 من تموز الماضي، إن المطارات والمعابر الحدودية يجب أن تكون تحت إدارة مركزية، بينما الخدمات والشؤون الداخلية يجب أن تظل لامركزية.
التعليم، الصحة، الأمن الداخلي، وأيضًا الاقتصاد، كل هذا يجب أن يكون بنظام لامركزي.
يجب أن تُمنح الواجبات للمناطق، أو المدن أو المحافظات، وهي تقوم ببناء نفسها بنفسها، وتدير نفسها، ويتحمل الناس المسؤولية عن أنفسهم.
إذا كان لدينا دائمًا نظام مركزي، وكل قرار يتخذ يفرض على الجميع، هذا سيؤدي إلى تعميق الأزمة.
النظام السابق كان يطبق ذلك وخرجت الأزمة، وإذا فعلوا نفس الشيء الآن سيؤدي إلى نفس النتيجة.
المواضيع التي نراها واضحة عندما قلنا لامركزية لا يعطي معنى أن كل شيء لامركزي، توجد بعض الأمور مركزية، حدود البلدان، على سبيل المثال، المعابر، المطارات.
إلهام أحمد
الرئيسة المشتركة لدائرة العلاقات الخارجية في “الإدارة الذاتية”
27 من تموز لشبكة “روداوو”
الباحث في مركز “عمران” أسامة شيخ علي، اعتبر أن تصريحات عبدي، وقبلها إلهام أحمد، حول اللامركزية الإدارية وتوسيع الحكم المحلي، بمقابل الحديث عن مركزية الملفات السيادية، مؤشر إيجابي يمكن التفاهم عليه مع دمشق.
ويعتقد أن دمشق أدركت، الآن، أن العودة إلى المركزية المطلقة التي كانت تدار بها سوريا سابقًا غير ممكنة حاليًا، بعد 14 عامًا من الحرب، وتشكل إدارات من مختلف المناطق السورية، ويرى أن دمشق بدأت تدرك أن من الصعب تأسيس إدارة مركزية مطلقة، بالتالي تتبلور أكثر اللامركزية الإدارية وسيتم الحديث عنها بشكل أكبر.
وتتجه بعض الوزارات في الحكومة السورية إلى ترسيخ مبدأ اللامركزية الإدارية، أولاها وزارة التربية، التي بدأت اعتمادها في الأسبوع الأول من أيار الماضي.
صعوبات في دمج الجيش
يعد دمج المؤسسات العسكرية التابعة لـ”قسد” في الجيش السوري الجديد، إحدى أبرز العقبات في اتفاق 10 من آذار الماضي.
عبدي، ورغم تأييده ما تنشده الحكومة السورية من “حكومة واحدة وجيش واحد وعلم واحد” يشير إلى عقبات أمام دمج مؤسسات “قسد” العسكرية، معتبرًا أن دمج 100 ألف مسلح (بحسب تقديرات قائد القوات) في وزارة الدفاع السورية “عملية كبيرة” وتحتاج إلى بحث ومشاورات.
وأكد عبدي اتفاق الأطراف الكردية على طروحات “قسد”، لافتًا إلى وجود قلق من الاندماج بالجيش السوري من دون ضمانات دستورية، حسب قوله.
ومن جانب آخر، كشف عبدي أن جولة لمفاوضات مقبلة في العاصمة الفرنسية باريس، ستبحث آلية الاندماج في الجيش السوري، مؤكدًا أن “قسد” ستكون جزءًا من وزارة الدفاع السورية.
من جانبها، ربطت إلهام أحمد قضية الدمج بالتفاهمات مع دمشق، إذ ترى أنه ليس من البساطة أن يتم تسليم السلاح أو المقاتلين دون نقاش، معتبرة أن من الضروري تعرف الإدارة في دمشق إلى إرادة الشعب (في شمال شرقي سوريا) والوصول إلى طريق يمكن من خلاله تحمل المسؤولية بشكل مشترك.
الباحث أسامة شيخ علي قال إن هناك الكثير من التفاصيل غير معروفة حتى الآن، متسائلًا، كيف سيكون شكل الدمج العسكري في ظل وجود “مجلس دير الزور العسكري”، إضافة إلى المؤسسات الأمنية والاستخباراتية داخل “قسد” و”الإدارة الذاتية”.
“قسد” بصدد إرسال قافلة مساعدات لأهالي السويداء وتطالب بمر آمن لها – 19 تموز 2025 (الهلال الأحمر العربي السوري)
ما الفرق بين اللامركزية السياسية واللامركزية الإدارية؟
في النقاشات حول مستقبل إدارة الحكم، لا سيما في الدول الخارجة من نزاعات أو تلك التي تسعى لإعادة تنظيم سلطاتها، كثيرًا ما يُطرح مصطلح “اللامركزية” كمفتاح للإصلاح الديمقراطي وتحقيق التوازن بين السلطة المركزية والسلطات المحلية. لكن ما لا يُدرك دائمًا هو أن اللامركزية لا تعني أمرًا واحدًا، بل لها أشكال متعددة أبرزها اللامركزية السياسية واللامركزية الإدارية، ولكل منهما طبيعة قانونية ومؤسسية تختلف بشكل جذري.
أولًا : اللامركزية السياسية.. إدارة محلية بصلاحيات تشريعية ودستورية
اللامركزية السياسية هي نظام حكم يُمنح فيه الإقليم أو الولاية أو المنطقة استقلالًا ذاتيًا واسعًا، سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا، وذلك ضمن حدود جغرافية واضحة. وتتمتع الكيانات المحلية التي تُمارس هذا النوع من اللامركزية بـ:
- سلطات تشريعية خاصة تصدر قوانينها المحلية.
- حكومات وبرلمانات إقليمية تُنتخب بشكل مستقل.
- دستور محلي ينظّم عمل السلطات داخل الإقليم، بشرط ألا يتعارض مع الدستور الاتحادي للدولة.
وغالبًا ما توجد اللامركزية السياسية في الدول ذات الطابع الاتحادي أو المركب (الفيدرالي)، مثل الولايات المتحدة وألمانيا وسويسرا، حيث تتقاسم الحكومة المركزية والسلطات الإقليمية الصلاحيات وفق اتفاق دستوري.
ويُعد هذا الشكل من اللامركزية أكثر عمقًا وتأثيرًا، لأنه يقيّد تدخل الحكومة الاتحادية في شؤون الأقاليم إلا في حالات يحددها الدستور، كما يصعب تعديل صلاحياته بسبب الطابع الدستوري الذي تستند إليه.
ثانيًا: اللامركزية الإدارية.. صلاحيات خدمية تحت إشراف مركزي
في المقابل، اللامركزية الإدارية هي نظام يمنح الإدارات المحلية أو المجالس البلدية قدرًا من التفويض في إدارة شؤونها، لكن ضمن إطار إداري ومالي محدود تحدده الحكومة المركزية.
وتتعلق الصلاحيات عادة بـ:
- الخدمات العامة مثل التعليم والصحة والنقل والمرافق.
- تخصيص الموارد والميزانيات المحلية.
- إدارة الموارد البشرية والخطط التنموية.
لكن بخلاف اللامركزية السياسية، فإن الإدارات المحلية في هذا النموذج لا تملك سلطات تشريعية مستقلة، بل تُطبق القوانين الوطنية نفسها التي تسري على كامل البلاد، وتبقى خاضعة لرقابة السلطة المركزية، بل ويمكن تعديل أو إلغاء تفويضها بقرارات إدارية أو قوانين عادية.
وتطبّق اللامركزية الإدارية في كل من الدول الموحدة (مثل فرنسا ومصر) وكذلك في الدول الفيدرالية، لكنها لا تصل إلى درجة الحكم الذاتي.
جوهر الفرق: الدستور مقابل القرار الإداري
يتجلى الفرق المحوري بين النوعين في مصدر القوة والضمانات:
- اللامركزية السياسية تستمد شرعيتها من نصوص دستورية يصعب تعديلها.
- اللامركزية الإدارية تُنظَّم عبر قوانين إدارية يمكن تغييرها أو تقليصها بحسب توجهات الحكومة.
كما أن الأولى تُحدّ من رقابة المركز على الأقاليم وتضمن التعددية القانونية والتشريعية، بينما الثانية تُبقي على وحدة القانون والقرار، وتُخضع الإدارات المحلية لسلطة الإشراف والمساءلة من قبل العاصمة.
سواءً تعلق الأمر بإعادة هيكلة الحكم المحلي أو بوضع مسارات انتقال سياسي في سوريا أو أي دولة أخرى، فإن فهم الفوارق بين أشكال اللامركزية يشكّل خطوة ضرورية لفهم حدود الصلاحيات، وضمان تمثيل حقيقي للمجتمعات المحلية في صنع القرار، وتفادي الخلط الذي قد يؤدي إلى مخرجات سياسية وإدارية مشوّهة أو مضلّلة.