أحمد عسيلي
توفي الأسبوع الماضي الموسيقي والمسرحي اللبناني زياد الرحباني، سليل عائلة الرحباني الفنية، وابن السيدة فيروز، أيقونة الطرب اللبناني والعربي، وقد سبّب رحيله موجات متناقضة من المشاعر بين السوريين، امتزج فيها الحزن بالخذلان، والاحترام بالغضب الصامت، فزياد الذي مثّل لدى كثيرين (وأنا منهم) رمزًا للتمرد، وموسيقا الرفض، ولغة يسارية عابرة للطوائف، لم يكن يومًا شخصية محايدة أو باهتة، كان يقف على المسرح ويهزأ من السلطة، يشتم النظام المصرفي، يعري الحياة اليومية من زيفها، ويمنح السخرية صوتًا جديًا. كان جيل كامل في سوريا يحلم بثورة تشبه موسيقاه، فيها تمرد و”نوستالجيا”، مع هذا المزيج الرائع والغريب من العقلانية والتهور.
لكن هذا الفنان نفسه، وقف مع نظام الأسد، دافع عنه علنًا، تبنى روايته، واختار أن يكون إلى جانب القاتل لا الضحية، لم يكن مترددًا ولا رماديًا، بدا أحيانًا مستفزًا، كأنه يستهين بما جرى في سوريا، أو كأن دماء الضحايا لم تصل أبدًا إلى مسامعه، وهنا بالتحديد نشأت تلك التناقضات في الوجدان السوري، كيف نرثي فنانًا خذلنا سياسيًا؟ كيف نترحم على من دعم آلة القتل؟ وهل نسمح لأنفسنا أن نحزن، فقط لأننا أحببنا يومًا موسيقاه أو ضحكنا على مسرحياته؟
تزداد حالة الارتباك هذه مع بعد ثالث لهذا الإنسان، فزياد ليس فقط مناصرًا لنظام الأسد الساقط، وليس فقط فنانًا ثوريًا، بل هو أيضًا ابن فيروز، أي أنه محاط بهالة رمزية شبه مقدسة، مستمدة من والدته، في بيئة ثقافية اعتادت هذه الاستمرارية، وهذا يضاعف المأزق، فالمشاعر لا تُؤمر، ولا يمكن إخضاعها للمنطق السياسي البارد، قد نشعر بالحزن رغم كل شيء، وقد نغضب من أنفسنا لأننا حزنا، أو نحاول أن نصمت كي لا نخون ضحايانا، أحيانًا لا نحزن على الشخص بل على جزء منا ارتبط به، على زمن ظنناه أنبل، أو على وهم بالثورة والجمال.
وفي نفس التوقيت تقريبًا، شهدنا كسوريين حدثًا آخر لا يوازي الأول أهمية رمزية، لكنه يحمل وزنًا وجدانيًا مشابهًا من حيث التعقيد: اعتُقلت فتاة سورية ناشطة، معروفة على نطاق ضيق بين بعض الناشطين، اشتهرت بينهم بأسلوبها الحاد وغير الراقي في الكتابة، وبدفاعها عن شخصيات أمنية سابقة، بل وبتنمرها أحيانًا على بعض السوريين بكلمات نابية، أثارت كتاباتها استياء من قبل متابعيها، ربما لا نختلف على حقيقة أن الكلام السوقي والبذيء انتشر بشكل واسع حاليًا في أوساط السوريين (ولهذا أسبابه سنناقشها ربما لاحقًا) لكن يبدو أن هذه الصحفية شكّلت حالة ما من التمادي في استخدام تلك الكلمات.
ومع ذلك، فإن اعتقالها طرح سؤالًا شديد الإلحاح: هل يستحق الإنسان الدفاع فقط عندما يكون “بطلًا” أو “شبيهًا لنا”؟ وهل التفاهة، أو الابتذال، أو حتى الانحياز السياسي المتطرف يبرر التوقيف خارج القانون؟ المشاعر في هذه الحالة أيضًا غير منسجمة: بعضهم شمت، بعضهم فرح، بعضهم غضب، لكن الموقف الأخلاقي هنا كان أوضح من حالة زياد، لا يحق لأي سلطة أن تعتقل من تشاء دون محاكمة عادلة، وهذا مبدأ المفروض أنه لا يقبل النقاش، القانون لا يُطبق بحسب درجة شعبيتك أو فصاحة خطابك، والعدالة لا يُفترض أن تكون حكرًا على الذين نحبهم.
ما يجمع الحالتين ليس فقط التوقيت، بل هذا التوتر الداخلي الذي يعصف بنا كلما واجهنا موقفًا إشكاليًا، نكتشف أن المشاعر لا تسير بالضرورة جنبًا إلى جنب مع المبادئ، يمكن أن نكره أحدًا ونرفض قمعه، ويمكن أن نحب شخصًا ثم لا نخصص وقتًا لتأبينه، وهذا تمامًا ما يتطلبه الزمن الجديد في سوريا: أن نتحمل التناقضات، أن نتعامل بصدق مع ارتباكنا، وأن نميّز دائمًا بين ما نشعر به وما نقرره.
فالحزن ليس خيانة، كما أن الغضب ليس عدالة بحد ذاته، نحزن لأننا بشر، ونغضب لأننا جُرحنا، لكننا نُحاسَب فقط على المواقف التي نختارها، لا على المشاعر التي تتسلل إلينا دون استئذان.
في هذا السياق، يمكن التوقف عند حادثة مشابهة حصلت في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، حين توفي وزير التسليح النازي ألبرت شبير، المعروف بعلاقته القوية بهتلر، ورغم إدانته بجرائم الحرب، كتبت صحيفة “نيويورك تايمز” عند وفاته عام 1981 أنه كان “صديق الناس”، مما أثار استياء واسعًا بين الناجين من معسكرات الإبادة، لقد شعر بعضهم نحوه بشيء من الاحترام الشخصي، وربما الانبهار بذكائه، لكنهم طالبوا في الوقت ذاته بعدالة لا تخفف بناء على “الكاريزما” أو الحضور، فرغم كل عبقريته، حكم عليه بالسجن 20 سنة، لكن هذا لم يمنع من بعض التكريم ولو بكلمات بسيطة من مجلة بحجم “نيويورك تايمز” بعد وفاته، بكلمات أخرى: المشاعر البشرية قد تكون معقدة، لكن القيم الأخلاقية لا يجب أن تكون كذلك.
أن نحب أو لا نحب.. هذا لا نقرره. لكن أن نكون عادلين.. هذا خيار، وهو ما سيصنع الفرق فيما سيأتي.