خطيب بدلة
لا قيمة لأي كتابة، إذا لم تقدم للمتلقي معلومة، وفكرة، وفائدة، وتثير فيه رغبة بالتساؤل، أو الاعتراض. فمثلًا، حينما نتحدث عن أهمية زياد الرحباني الفنية، بمناسبة رحيله، لن نعدم شخصًا “يطحش” علينا قائلًا: ولكنه كان يؤيد “حزب الله”!
لا بد، هنا، من تسجيل بعض الملاحظات، التي تنبع من “الطحشة” ذاتها. الأولى، أن إحصاء الأشخاص الذين كانوا يؤيدون “حزب الله”، وقائده حسن نصر الله، في أيام العز، صعب للغاية، ثم بدأ عددهم يتناقص، حتى وصل إلى الحدود الدنيا، بسبب التطورات العسكرية، والتقلبات السياسية التي رافقتها، خلال السنوات الأخيرة.
الملاحظة الثانية، أن المواقف السياسية التي تصدر عن مبدع كبير، مثل زياد، تتلاشى، بعد مرور زمن قصير على رحيله، وأما فنه، وعلمه، وثقافته، فستبقى بين أيدي الباحثين، والمهتمين، والمتخصصين.. زياد، نفسه، قال إن مَن يسمع مقطوعة للأخوين الرحباني، والده عاصي وعمه منصور، يتبادر لذهنه أن لحنها بسيط، ولكنه، عندما يحاول قراءتها، و”تنويطها”، سيجدها بالغة الصعوبة والبراعة.. وهذا يأخذنا إلى ألحان زياد نفسه، التي يتشابك فيها عمل الآلات الموسيقية، ويستولي عليك التطريب النادر، ثم يأتي التلوين بالسخرية والدعابة، ليعطيها نكهته الخاصة، كما في قوله: “مِن مَرا لَمَرا، عم ترجع لَوَرا”! وأما الإيقاعات السريعة، التي تجدها في مقدمة أغنية “جبل الشيخ”، أو أغنية “عودك رنان”، فلا ريب أنها غاية في الروعة.
لا يهمك، وأنت تستمع، اليوم، إلى عبد الحليم حافظ، أنه كان، في بعض الأحيان، يمدح جمال عبد الناصر، فأنت، عندما تريد أن تسمع لأم كلثوم، يستحيل أن يخطر ببالك أن تسمع أغنيتها “أصبح عندي الآن بندقية”، ولو فكرت بالموضوع، مليًا، قد تصل إلى فكرة خطيرة، ملخصها أن “السياسي”، يتوسل، غالبًا، إلى “الفني”، فلولا شهرة أم كلثوم، وأهميتها الكبرى في عالم الطرب، لما طلب منها أن تؤدي هذه الأغنية النضالية.
الملاحظة الثالثة، أن الفن يضيق ذرعًا بحمل القضايا، فمصر نفسها، التي غنت لها أم كلثوم، “راجعين بقوة السلاح”، من كلمات صلاح جاهين، وألحان رياض السنباطي، 1967، وبعد عشر سنوات فقط من تسجيل الأغنية، تخلت عن مواجهة إسرائيل بالسلاح، ولا شك أن الأحياء من المطربين السوريين الذين غنوا لحافظ الأسد، قد ندموا، لأن المجهود الفني الذي بذلوه، في ذلك الوقت، قد ضاع، بينما الناس ما زالوا يترنمون بأغاني أبي خليل القباني، بعد أزيد من مئة سنة على إبداعها.
إن ما يجمع بين العبقريين، زياد الرحباني، وبليغ حمدي، ومحمد سلطان، هو النبوغ المبكر. فمع أن محمد عبد الوهاب، معلم المعلمين في إبداع الموسيقا، إلا أنه لم يلحن لأم كلثوم إلا بعد أن عبر سن الستين، بينما تبنت أم كلثوم لحن أغنية “حب إيه” لبليغ حمدي، بعد سماعها منه أول مرة، وكان، يومها في التاسعة والعشرين، وإذا عدتَ بسيرة بليغ إلى الوراء، لوجدت أن حضنه لم يكن يتسع لآلة العود، وهو صغير، ومع ذلك تمكن من العزف، وأصبحت الألحان، كمان قال محمد عبد الوهاب: “تتحدف عليه حدف”!