عنب بلدي – كريستينا الشماس
بعد التغيّر السياسي في سوريا وسقوط النظام السابق، تبرز الصين كأحد الفاعلين الدوليين الذين يسعون إلى إعادة صياغة علاقتهم مع الحكومة الحالية في سوريا، كمحاولة للمحافظة على إرث من العلاقات الدبلوماسية الوطيدة والمصالح الاقتصادية التي سبقت التحول في المشهد السياسي السوري.
وبادرت الصين بعد شهر من سقوط النظام السابق لفتح صفحة جديدة مع سوريا، عبر إرسال وفد على رأسه سفير الصين بدمشق، شي هونغ وي، إذ التقى الرئيس السوري للمرحلة الانتقالية، أحمد الشرع.
ولم تذكر الرئاسة السورية أي تفاصيل حول الاجتماع الذي عُقد في شباط الماضي، والمواضيع التي نُوقشت فيه.
وتجددت زيارات السفير الصيني، شي هونغ وي، إلى دمشق في تموز الماضي، وفي 10 من آب الحالي، أجرى زيارة التقى خلالها وزير الخارجية والمغتربين السوري، أسعد الشيباني، وبحث الجانبان المستجدات الإقليمية والدولية ذات الاهتمام المشترك، إضافة إلى مناقشة العلاقات الثنائية بين البلدين وسبل تعزيزها في مختلف المجالات.
أعادت هذه الزيارات إحياء ملف العلاقات السورية- الصينية، الذي ظل حاضرًا خلال سنوات الحرب عبر زيارات رسمية ومواقف داعمة في المحافل الدولية، عبر استخدام حق النقض (الفيتو) في جلسات مجلس الأمن لمصلحة النظام السابق، لكنها اليوم تكتسب بعدًا جديدًا في ظل التغيير السياسي وانفتاح الحكومة السورية الحالية على شركاء جدد.
ملف “الإيغور” يشغل الصينيين
الباحث في العلاقات الدولية محمود علوش، قال لعنب بلدي، إن الصين تسعى لمحاولة بناء علاقات جديدة مع سوريا، لكن هذه العلاقة تواجه تحديات وعقبات كبيرة، على رأسها ملف المقاتلين الإيغور والقلق الصيني من وجود جماعات في سوريا تشكل تهديدًا لأمنها القومي.
وأوضح علوش أن من الواضح أن هناك رغبة متبادلة بين الصين والحكم الجديد في سوريا لبناء علاقة جيدة، ولكنها لا تزال في بدايتها وربما تستغرق وقتًا بعملية إعادة الاتفاق بين الطرفين.
ويرى الباحث السياسي نادر الخليل، أن العلاقات السورية- الصينية تشهد مرحلة من التجديد، بعد سنوات من الدعم الصيني الثابت للنظام السوري السابق خلال سنوات الثورة السورية، ويعكس اللقاء الأخير بين وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، والسفير الصيني، شي هونغ وي، استمرار النهج الصيني في تعميق الشراكة مع سوريا، لكن في إطار جديد بعد التغيرات السياسية الأخيرة في دمشق.
وكانت الصين أحد أهم حلفاء نظام الأسد، واستخدمت حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن عدة مرات لحماية النظام السابق من العقوبات الدولية، كما قدمت دعمًا دبلوماسيًا واقتصاديًا محدودًا مقارنة بدور روسيا العسكري، أما اليوم مع السلطة الجديدة في سوريا، فتبدو بكين حريصة على إعادة ترتيب أوراقها، مع الحفاظ على مصالحها الاستراتيجية، بحسب الخليل.
“الحزام والطريق”.. مصالح متبادلة
هناك عدة عوامل تدفع الصين إلى تعزيز علاقاتها مع سوريا في هذه المرحلة، منها المصالح الاقتصادية وإعادة الإعمار، بحسب الباحث السياسي نادر الخليل، مضيفًا أن سوريا بحاجة ماسة إلى استثمارات ضخمة لإعادة بناء البنية التحتية المدمرة، والصين لديها قدرات مالية وتقنية هائلة في هذا المجال، كما أنها تريد ضمان حصة لها في صفقات إعادة الإعمار، خاصة في قطاعات الطاقة والبنية التحتية.
وأشار الخليل إلى أن هناك مصالح جيوسياسية لدى الصين التي تسعى لتعزيز نفوذها في الشرق الأوسط لتنفيذ مشروعها “الحزام والطريق”، وتعتبر سوريا موقعًا استراتيجيًا يخدم هذا المشروع.
كما تحاول الصين كسب موطئ قدم استراتيجي في منطقة حيوية تنافس فيها الولايات المتحدة وروسيا، بمحاولة منها لتحقيق التوازن الإقليمي، فمع عودة العلاقات السورية- الأمريكية جزئيًا، تريد الصين ضمانات بألا تصبح سوريا تحت النفوذ الغربي بالكامل.
وهذا يعكس موقف الصين تجاه الغرب، فهي ترفض التدخل الخارجي في الشؤون الداخلية للدول، فضلًا عن امتلاكها أسبابًا وملفات داخلية خاصة بها لا تريد استخدامها ضدها، وهو ما يتوافق مع خطاب السلطة الجديدة في دمشق حول فرض سيادتها ورفض التدخل الخارجي في شؤونها.
بالمقابل، تحدث الخليل عن مصالح سوريا في إعادة رسم العلاقة مع الصين، والتي تتجلى بمحاولة الحصول على دعم مالي واستثماري لإعادة الإعمار، وتعزيز الشرعية الدولية عبر التحالف مع قوة عظمى مثل الصين، وتنويع التحالفات لتجنب الاعتماد الكلي على روسيا أو الغرب.
ومن وجهة نظر الباحث في العلاقات الدولية محمود علوش، فإن العلاقة مع الصين مهمة بالنسبة لسوريا على مستويات متعددة، منها الدور المحتمل للصين في إعادة إعمار سوريا، وأيضًا ضرورة أن تكون هناك علاقة جيدة مع الصين لأنها دولة عضو في مجلس الأمن الدولي وتمتلك حق النقض (الفيتو)، وهذا مهم بالنسبة لسوريا.
ماذا عن الموقف الأمريكي
تتجه الأنظار نحو موقف أمريكا من تجدد العلاقات السورية- الصينية، بعد الدعم الوطيد التي قدمته لسوريا منذ سقوط النظام السابق ورفع العقوبات الأمريكية عنها.
ويعتقد الباحث في العلاقات الدولية محمود علوش، أن الولايات المتحدة الأمريكية لا ترغب بأن يكون للصين حضور قوي في سوريا، وهذا سيكون أحد عوامل الضغط على الحكم الجديد في سوريا بما يتعلق بتشكيل علاقته مع الصين، لكن هناك هوامش تستطيع سوريا أن تتحرك فيها ببناء علاقة لا تضغط على المصالح الأمريكية في سوريا والمنطقة.
ونوه علوش إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية تفرض قيودًا على علاقات سوريا سواء مع الصين أو حتى مع روسيا، لأن السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط وحتى تجاه آسيا الوسطى مصممة من أجل مواجهة المشروع الصيني” الحزام والطريق”.
بالمقابل، يرى الباحث السياسي نادر الخليل، أن عودة العلاقات السورية- الأمريكية جزئيًا قد تخلق توترًا خفيًا في تحالفات دمشق، لكن من غير المرجح أن تؤثر بشكل كبير على الشراكة مع الصين، لأن:
- الصين لا تتنافس عسكريًا مع الولايات المتحدة في سوريا، بل تركز على الجانب الاقتصادي.
- سوريا تحتاج إلى تعددية التحالفات لضمان عدم الوقوع تحت سيطرة طرف واحد.
- بكين وواشنطن قد تتفقان على تقسيم النفوذ في سوريا، إذ تركز أمريكا على الملف الأمني (مكافحة الإرهاب)، بينما تركز الصين على الاقتصاد.
“الحزام والطريق” مبادرة صينية قامت على أنقاض طريق الحرير القديم، وتهدف إلى ربط الصين بالعالم عبر استثمار مليارات الدولارات في البنى التحتية على طول “طريق الحرير” الذي يربطها بالقارة الأوروبية، ليكون أكبر مشروع بنية تحتية في تاريخ البشرية.
وكانت هناك مباحثات جادة سابقة بين الرئيس المخلوع، بشار الأسد، ونظيره الصيني، شي جين بينغ، للانضمام إلى مشروع “الحزام والطريق”.
مستقبل العلاقات
حول مستقبل العلاقات السورية- الصينية، على المستوى السياسي، يتوقع الباحث السياسي نادر الخليل، أن تستمر الصين بدعم الموقف السوري في المحافل الدولية، خاصة في مجلس الأمن.
وقد تشهد العلاقات تنسيقًا أكبر في الملفات الإقليمية، مثل القضية الفلسطينية والموقف من إسرائيل، بحسب الخليل.
ويرجح الخليل على المستوى الاقتصادي توقيع اتفاقيات استثمارية في قطاعات الطاقة والنقل والاتصالات، وقد تشهد سوريا زيادة في المساعدات الصينية غير المشروطة “مقارنة بالمساعدات الغربية المرتبطة بشروط سياسية”.