عنب بلدي – سدرة الحريري
بعد سبعة أعوام من عودته، غابت ألوان وطبول “كرنفال مرمريتا” عن شوارع البلدة هذا العام، إذ أعلنت اللجنة المنظّمة إلغاء الفعاليات التي كان من المقرر أن تقام في 14 من آب الحالي، كوقفة “وفاء لأرواح شهداء تفجير كنيسة مار إلياس في دمشق، وشهداء الساحل والسويداء”، ولأسباب قالت إنها تتعلق بالظروف العامة التي لا تحتمل احتفالات ضخمة.
جورج شوك، عضو اللجنة التنظيمية، قال إن “الوضع في البلد لا يحتمل احتفالات ضخمة، و(كرنفال مرمريتا) بطبيعته احتفال كبير بعدد حضوره وتنوع فعالياته”.
وأضاف، “كما أننا ألغيناه حدادًا على أرواح شهداء سوريا في الفترة الماضية”، مشيرًا إلى أن السلطات قدمت كامل التسهيلات لإقامته، لكن اللجنة فضّلت أن تكون هذه السنة بمثابة استراحة تمهيدًا للعودة العام المقبل بشكل أفضل.
على مدى 12 عامًا، عاش السوريون ويلات الحرب التي تركت بصمتها الثقيلة على المدن السورية، وكانت حمص من أوائل المحافظات التي شهدت مآسي وعمليات عسكرية تسببت بسقوط ضحايا مدنيين ودمار وتهجير، كما توقّف فيها “كرنفال مرمريتا” لخمس سنوات متتالية، من 2011 حتى 2015، إذ غابت الألوان عن شوارع البلدة، قبل أن يعود بشكل عفوي عام 2016، ويتخذ طابعه الرسمي مجددًا في 2017.
ما “كرنفال مرمريتا”؟
في قلب وادي النصارى بريف حمص، تتحول بلدة مرمريتا في 14 من آب كل عام إلى مسرح مفتوح للألوان والموسيقا والقصص الحية، مع انطلاق “كرنفال مرمريتا” الذي يعود تاريخه إلى عام 1975، احتفاء بعيد السيدة العذراء، الذي يرمز في المعتقد المسيحي إلى انتقال مريم العذراء إلى السماء.
منذ ساعات الصباح، تبدأ ساحة القرية بالامتلاء بمجموعات من أبناء البلدة وزوارها، الذين يأتون من مختلف المحافظات السورية، إذ يرتدي المشاركون أزياء تنكرية تحاكي أحداثًا تاريخية وقضايا اجتماعية وشخصيات رمزية، تصطف استعدادًا لمسيرة تتنافس فيها الفرق على أفضل عرض قصصي، وسط أجواء غامرة بالتصفيق والهتافات.
تجوب العروض الكشفية شوارع البلدة على وقع الطبول والموسيقا، فيما يُزيَّن تمثال السيدة العذراء بالورود ويحمل في موكب احتفالي يتجه نحو “جبل السيدة”، وهناك تنقسم الجموع بين من يواصل الاحتفال في البلدة، ومن يختار إحياء الليلة على قمة الجبل، في مشهد يختلط فيه البعد الروحي بالبهجة الشعبية.
لكن ما يمنح “الكرنفال” نكهته الخاصة، هو أنه مساحة مفتوحة للجميع، حيث يلتقي المسلمون والمسيحيون دون حواجز، يتبادلون الغناء والرقص ويشاركون لحظات الفرح نفسها، كما تؤكد اللجنة المنظّمة، التي ترى فيه “جسرًا للمحبة والسلام، يبقى حاضرًا رغم كل ما مر على البلاد”.
احتفال تجاوز الحدود الدينية
لا يذهب الزوار إلى مرمريتا في 14 من آب فقط من أجل الاحتفال بعيد السيدة العذراء، بل لأن “الكرنفال” تجاوز منذ سنوات حدوده الدينية، ليصبح مناسبة اجتماعية واسعة تحاكي كل المجتمع السوري.
سارة خوري (20 عامًا) ابنة مدينة السويداء، وهي طالبة جامعية، تحدثت لعنب بلدي عن زيارتها لـ”الكرنفال”، “في مرمريتا هناك أكلات وتراث خاص غير موجود في أي منطقة أخرى”، وسط الأزياء الملوّنة وقرع الطبول، تمتد رائحة “الهريسة” في الأزقة، وهي الطبق الأبرز في عيد السيدة، وهي عبارة عن لحم غنم مسلوق مع القمح، “مُتبّل بمزيج من البهارات”، ويقدَّم للضيوف كجزء أصيل من الاحتفالات.
لا يُعتبر تناولها مجرد وجبة، بل هي طقس جماعي يربط الناس بالموروث المحلي.
ورغم ارتباط “الكرنفال” بجذوره الدينية، تحوّلت ساحته الرحبة إلى مساحة مدنية مفتوحة، حيث يتقاسم المسلمون والمسيحيون الغناء والاحتفال، مردّدين الأغاني الشعبية الخاصة بالبلدة.
علاء قسّام، شاب مسلم من دمشق، وصف، لعنب بلدي، تجربته في العام الماضي، “لم أشعر أني ضيف، كنا جميعًا نحتفل وكأننا عائلة واحدة، وهذا هو أجمل ما في (الكرنفال)”.
تتوارث البلدة رسالة بسيطة وعميقة في أن المحبة والسلام قادران على جمع السوريين مهما فرّقتهم الأزمات.
بالنسبة لأهالي مرمريتا، لا يُختزل “الكرنفال” في الاستعراضات والعروض، بل في الرسالة التي يحملها وهي أن المحبة والسلام والألفة يمكن أن تبقى حيّة.
وفي هذا قالت مرح (18 عامًا)، لعنب بلدي، وهي تستعيد ذكرياتها من “الكرنفال” الماضي، “كنت زائرة ولا أعرف أحدًا سوى أصدقائي الذين خرجت معهم، لكنني كنت أشعر هناك أني أعرف الجميع وأحبهم”، وأضافت، “اكتسبت الكثير من الأصدقاء بعد (الكرنفال) ونتواصل حتى اليوم”.
ختمت الفتاة العشرينية، “عندما يحين موعده من جديد، سيجد القادمون من كل مكان أن الساحة ذاتها ما زالت تحتضنهم، وأن الفرح، كما اعتادوا، لا يحتاج إلى دعوة، بل يكفي أن تأتي لتجد نفسك جزءًا من عائلة كبيرة اسمها مرمريتا”.