عنب بلدي – أمير حقوق
برزت أعمال البيئة الشامية في الدراما السورية كنوع درامي مستقل، وأصبحت أكثر الأنواع هيمنة عليها، لا سيما خلال سنوات الثورة السورية، بالتزامن مع الانغلاق السياسي الذي شهدته سوريا، إذ بات الاتجاه إليها كبيرًا، لتأمين سوق عرض عربية، بعيدًا عن الأعمال الاجتماعية التي لم تلقَ خلال السنوات السابقة فرصة عرض خارجية.
وشهدت الدراما السورية، منذ “أيام شامية” و”الخوالي”، تصاعدًا في شعبية أعمال البيئة الشامية التي تصور الحارات الدمشقية القديمة، في أوائل القرن الماضي، راصدة العادات والتقاليد حينها، ومحاربة الاحتلال، والحراك الوطني، بالإضافة إلى تمجيد “كبار الحارة”، مع محاولة نشر صورة نمطية للمرأة الدمشقية بتلك الفترة.
قالب تجاري مكرر
يتناول التوصيف النقدي لدراما البيئة الشمية عدة مستويات، بحسب الناقد الفني عامر عامر، فمن حيث المضمون، غالبًا ما تُصور الحياة في دمشق القديمة (خاصة أحياءها الشعبية)، خلال أواخر الاحتلال العثماني وبدايات الانتداب الفرنسي، كما تركز على قيم الشهامة، النخوة، العائلة، الكرامة، ومقاومة الظلم.
وتُبنى سرديات هذه الأعمال على حكايات الجيران والبيوت الدمشقية الكبيرة، حيث تتشابك قصص الحب والغيرة والتآمر، أما من حيث الشكل فتعتمد على اللهجة الدمشقية، بما يجعلها سهلة المتابعة عربيًا، وفق ما قاله الناقد الفني عامر عامر، لعنب بلدي.
ومن حيث الملابس والديكورات، تأخذ طابعًا تراثيًا مألوفًا للجميع، والموسيقا التصويرية تستند إلى المقامات الشرقية والآلات التقليدية، بحسب تعبيره.
واعتبر أن هذا الصنف الدرامي تحول مع الزمن إلى قالب تجاري مكرر، يقدم قصصًا متشابهة وأدوارًا نمطية، خصوصًا بعد النجاح “الضخم” لمسلسل “باب الحارة”، كما أثار نقاشًا عن علاقته بالواقع التاريخي، وعن مخاطر أن تصبح الذاكرة الجماعية رهينة لصورة تلفزيونية أكثر منها صورة تاريخية.
دراما البيئة الشامية تحولت إلى قالب تجاري مكرر، يقدم قصصًا متشابهة وأدوارًا نمطية، كما أثارت نقاشًا عن علاقتها بالواقع التاريخي، وعن مخاطر أن تصبح الذاكرة الجماعية رهينة لصورة تلفزيونية أكثر منها صورة تاريخية.
عامر عامر
ناقد فني
أضعفت التنوع
في السنوات الماضية، طغت أعمال البيئة الشامية على الدراما السورية، إذ حدّت من إنتاج الدراما الاجتماعية، مستغلة الأوضاع السياسية التي قيّدت سوق المسلسلات الاجتماعية، فزاد الاعتماد على مسلسلات البيئة الشامية.
وهنا يرى الناقد الفني عامر عامر، أن البيئة الشامية كانت أداة لإبراز صورة مثالية عن “الوحدة الاجتماعية” و”التماسك الأخلاقي”، وأيضًا تناول قضايا معاصرة (حريات، نقد السلطة، قضايا الحرب) قد يكون محفوفًا بالمخاطر، بالمقابل، العودة إلى الماضي الدمشقي تبدو “آمنة سياسيًا”، فلا تصطدم مباشرة بالرقابة أو بالخطوط المحظورة.
من جانب آخر، الفضائيات الخليجية، خصوصًا في العقدين الماضيين، وجدت في الدراما الشامية مادة قابلة للتسويق، لأنها ذات لهجة مفهومة، وطابع تراثي يجذب المشاهد، وتحمل قيم “الرجولة والشرف” التي تتماشى مع الخطاب المحافظ، وهذا خلق سوقًا مضمونًا جعل المنتجين يكررون النمط نفسه لضمان العرض والمردود المالي، إضافة إلى قلة التكلفة مقارنة بأعمال معاصرة.
ولكن مسلسلات البيئة الشامية أسهمت في انتشار الدراما السورية عربيًا وخلقت “ماركة مسجلة”، ومن ناحية أخرى، أضعفت التنوع، إذ تراجعت الدراما الاجتماعية المعاصرة، وأهملت قضايا سورية راهنة (الحرب، النزوح، التحولات الاجتماعية).
من احتكار المشهد إلى الوجود المحدود
بعد الانفتاح السياسي الذي شهدته سوريا عقب سقوط نظام الأسد، يتوقع أن تستغل الدراما السورية هذا الانفتاح، وأن تتطور إنتاجية الدراما الاجتماعية، ما يحدّ من إنتاج أعمال البيئة الشامية.
وخلال الثورة السورية، تحولت هذه النوعية إلى “ملاذ فني”، يبعد عن الخوض في الواقع السياسي أو الاجتماعي المعاصر، وينقل المشاهد إلى زمن يبدو أكثر أمانًا واستقرارًا.
الناقد عامر عامر، يرى أن الانفتاح السياسي لن يلغي دراما البيئة الشامية، لكنه سيعيدها إلى حجمها الطبيعي كجزء من المشهد، بينما تتقدم الدراما الاجتماعية لتحتل مكانة أوسع.
وأضاف أن من المتوقع أن تنتقل البيئة الشامية من “احتكار المشهد” إلى “الوجود المحدود والمكمل”.
“نوستالجيا سطحية”
اليوم، بعد أكثر من عقدين على سيطرة دراما البيئة الشامية على المشهد، يمكن القول إنها تعاني أزمة تجديد، وبالتالي فهي تفتقد لعدة عناصر، وتحتاج إلى مطالب أساسية كي تستعيد قيمتها الفنية.
الناقد عامر، قال إن دراما البيئة الشامية اليوم بحاجة إلى جرأة فنية ونقدية تعيدها إلى موقعها كفن، لا كقالب تجاري مكرر، والمطلوب أن تتحول من “نوستالجيا سطحية” إلى مختبر ثقافي يقرأ الماضي ليحاور الحاضر.
كما تحتاج إلى الخروج من الاستهلاك التجاري، وتطوير اللغة البصرية، ودمج الحس التاريخي مع الفني، وتنويع الشخصيات والنماذج بدلًا من الارتكاز على شخصية الزعيم دائمًا، وإلى تجديد في المضامين، وتجسيد المرأة بشكل واقعي، وعدم حصرها بنموذج أو اثنين فقط.
دراما البيئة الشامية بحاجة إلى جرأة فنية ونقدية تعيدها إلى موقعها كفن، لا كقالب تجاري مكرر، وأن تتحول من “نوستالجيا سطحية” إلى مختبر ثقافي يقرأ الماضي ليحاور الحاضر.
عامر عامر
ناقد فني
تشويه البيئة الشامية
الاتهام بـ”تشويه البيئة الشامية” لم يأتِ من فراغ، بل هو نقد تردد على ألسنة مؤرخين وباحثين وحتى بعض الدمشقيين أنفسهم، بحسب الناقد عامر عامر.
ويرى الناقد أن البيئة الشامية اقتصرت في هذه المسلسلات على الحارة الدمشقية “المغلقة”، مع زعيم متسلّط، ونساء مقهورات أو “نمّامات”، ورجال منشغلين بالشرف والانتقام، بينما دمشق الحقيقية كانت مدينة متنوعة حضاريًا وثقافيًا، فيها أحياء شعبية.
ونوه إلى أنه لم يكن بالضرورة “تشويهًا متعمدًا”، بل نتيجة خضوعها لمتطلبات السوق والرقابة، وتفضيل التسلية و”النوستالجيا” على الدقة التاريخية.
وحمل الموسم الرمضاني الماضي في جعبته أكثر من 12 مسلسلًا، كانت خمسة منها دراما بيئة شامية، هي: “العهد”، “بنات الباشا”، “ليالي روكسي”، “تحت الأرض”، “السبع”.