من الصف إلى الشارع.. ملامح علاقة جديدة بين السوريين والدولة

  • 2025/09/21
  • 7:38 م
أحمد العسيلي
enab_get_authors_shortcode

أحمد عسيلي

شهدت سوريا خلال الفترة الماضية حادثتين متباعدتين في الزمان والمكان، لكنهما تكشفان خيطًا واحدًا في مسار ما بعد سقوط النظام.

الأول إعادة افتتاح ثانوية دوما للبنين، بعد ترميم شامل منحها صورة مختلفة تمامًا عما اعتاده السوريون في مدارس الحقبة السابقة، حيث المباني أقرب إلى سجون، والحمامات بؤر قذارة تدفع الطلاب إلى تجارب يومية مهينة. في المقاطع المصورة للمدرسة الجديدة، برزت صورة مختلفة، صفوف حديثة، مرافق مرتبة، وحمامات نظيفة.

أما الحدث الثاني فوقع في الشارع، حين حاول شرطي مرور مخالفة فتاة، فانفجرت في وجهه بكلمات بذيئة وطائفية صادمة، صورت المشهد ونشرته. المفارقة أن الشتائم الفجة وحّدت كثيرًا من السوريين ضدها، إذ أظهرت بشاعة الطائفية دون أي تجميل.

هنا بين مؤسسة تعليمية تعاد صياغتها، وشارع يُختبر فيه القانون، تلوح ملامح علاقة جديدة بين المجتمع والسلطة.

المدرسة في عهد عائلة الأسد لم تكن مكانًا للتثقيف والتعليم، بل مؤسسة لتدجين الأجيال وتدريبها على الطاعة، أتذكر كيف كان يُطلب منا كطلاب أن نعتمد الكتاب المدرسي مرجعًا وحيدًا، وأن نكتب في أوراق الإجابة ما ورد فيه حتى لو كان خاطئًا، وكأن الهدف هو تكريس الطاعة العمياء لا الفهم أو النقد. كنا نرتدي ما يسمى “بدلات الفتوة” التي حولت الطلاب إلى جنود صغار داخل قطعة عسكرية، لا إلى متعلمين أحرار، حتى شكل المدارس كان يتطابق مع شكل السجون، بواجهات قبيحة وجدران صارمة. بعد العام 2005، خفّ الطابع العسكري قليلًا نتيجة الضغوط الدولية عقب اغتيال رفيق الحريري، لكن جوهر العملية التعليمية لم يتغير، مبانٍ متداعية، عقلية قمعية، وأساليب تعيد إنتاج الخضوع بدل أن تبني التفكير الحر.

من هنا تأتي أهمية مشهد مدرسة دوما الجديدة، صحيح أنه إعمار مادي بالدرجة الأولى، لكنه على الأقل خطوة أولى في الاتجاه الصحيح، صورة المدرسة النظيفة المرتبة ليست تفصيلًا شكليًا، بل رسالة نفسية للطلاب: أنتم تستحقون مكانًا أفضل، وهي نقطة البداية نحو تغيير أعمق لا بد أن يشمل أسلوب التعليم والمناهج والعلاقة بين المعلم والطالب، فلا ديمقراطية ممكنة إذا بقيت المدرسة مجرد أداة لإعادة إنتاج الطاعة، الديمقراطية تبدأ من الصف الدراسي باعتباره الاحتكاك الأول بين الطفل ككائن مستقل وبين إحدى مؤسسات الدولة.

تستحضرني بقوة هنا أفكار عالم الاجتماع نوربرت إلياس، خاصة في كتابه الشهير “عملية التمدن”، بأن التغيير الاجتماعي الحقيقي لا يبدأ بالشعارات الكبرى، بل من التفاصيل اليومية: طريقة النظافة، شكل المباني، أسلوب الكلام. المدرسة الجديدة بحماماتها النظيفة وصفوفها المرتبة ليست مجرد ترميم عمراني، بل مؤشر إلى إمكانية تحول أعمق في العلاقة بين الفرد والدولة، التفاصيل الصغيرة تحمل دلالات بعيدة المدى، لأنها تزرع في اللاوعي إحساسًا بأن زمن القبح والإهمال قد انتهى.

أما العلاقة مع ممثلي الدولة ومنهم الشرطي، فكانت لعقود تقوم على الرشوة و”الواسطة”، كنا إما ندفع لنحمي أنفسنا منه، وإما نستخدمه لمصلحتنا إذا سيطرنا عليه بالمال أو النفوذ، وفي حال حدوث أي احتكاك تبدأ سلسلة “الواسطات”، حيث الغلبة دومًا لمن “واسطته” أقوى. ما حدث في قضية الفتاة أعاد الأمور إلى مسارها الصحيح، جرى استدعاء جميع الأطراف دون تمييز، الاستماع إلى أقوالهم، وتحويل الملف إلى المحكمة، هنا برزت رسالة مزدوجة: الدولة موجودة وحاضرة، لكن لا الفتاة قادرة على التمادي بلا حساب، ولا الشرطي محصن فوق القانون، القضاء شمل الجميع، مواطن عادي وشرطي على قدم المساواة.

الأهم أن ما جرى وُثّق بطريقة واضحة، ليصبح جزءًا من عملية تربية مدنية نحتاج إليها اليوم لتغيير العقلية التي سادت في عهد الأسد، نحن أمام مشهد جديد: السلطة لا تُختصر في فرد أقوى أو في شبكة “واسطات”، بل تبدأ تدريجيًا بالتجسد في مؤسسة قضائية، هذا لا يعني أن الرشوة اختفت أو أن كل شيء بات مثاليًا، لكنها إشارة إلى أن النية موجودة، وأن هناك استعدادًا لتصحيح العلاقة بين المواطن والشرطي على قاعدة القانون، هنا يبرز دور المجتمع: الضغط المستمر، التوثيق، المطالبة، وعدم السماح بانزلاق هذه النية إلى عادة قديمة.

الحدثان يكشفان مسارين متوازيين: مدرسة تعيد الاعتبار للحجر كواجهة للدولة، وقضية شرطي ومواطنة تعيد الاعتبار للبشر كممثلين للسلطة، الدولة لم تعد مجرد جدران قبيحة ومبانٍ متداعية، ولا مجرد شرطي مذلول أو متسلط، بل صورة تتشكل ببطء: حجر أنيق، وبشر يخضعون للقانون.

الدرس الأهم أن السلطة اليوم لا تزال طفلًا في طور النمو، ومسؤوليتنا أن نرعاه ونحدد مساره بالطريقة التي نرغب بها. الأشهر الماضية أثبتت أن الرقابة الاجتماعية قادرة على التأثير، فقد غيرت الكثير من عادات بعض أجهزة الدولة تحت ضغط الحملات الشعبية، وربما كان هذا الضغط ما دفع جهاز الشرطة أيضًا للتحرك في الحادثة الأخيرة، هذه المهمة إذًا واجب جماعي لا يخص الدولة وحدها، فنحن جميعًا معنيون بالتخلص من إرث نصف قرن من العفونة الأسدية، من إعادة بناء المدارس وتحديثها، إلى دفع المعلمين لاعتماد أساليب تدريس حديثة بدل أساليب التلقين القديمة، إلى الضغط على مؤسسات الدولة كي تحترم القانون وتتجاوز منطق الرشوة والواسطة، إنها عملية شاقة وطويلة المدى، بل لا نهائية بمعنى ما، لكن كل ما ننجزه اليوم يختصر سنوات من التأخر عن ركب الأمم الأخرى، والتحدي أن نحافظ على الوعي بأن التغيير يبدأ من التفاصيل، وأن المشاركة المجتمعية هي التي تمنح هذه التفاصيل قيمتها.

مقالات متعلقة

  1. الفراغ الكبير.. تحليل نفسي لبنية السلطة في سوريا
  2. كي لا نقع في الخطأ مرتين
  3. لمَ كل هذا الاستقطاب في الشارع السوري؟
  4. ثلاثة دروس من أحداث الساحل

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي