عنب بلدي – كريستينا الشماس
يعد حي باب شرقي في الطرف الشرقي من دمشق القديمة شاهدًا على مسيرة أقدم عاصمة في التاريخ، ويمتد عمره إلى ما يقارب أربعة آلاف عام، وهو أحد أعرق الأحياء التي جمعت تحت سقفها أديانًا ومذاهب متعددة، فعاش فيه المسيحيون بكنائسهم المتنوعة، والمسلمون بطوائفهم المختلفة، واليهود الذين استقروا فيه قرونًا طويلة قبل مغادرتهم في القرن الـ20.
لم تكن منطقة باب شرقي مجرد موقع أثري أو تجاري، بل لوحة حيّة جسدت فكرة التعايش السلمي على مدار سنوات، حين عاش سكانه معًا بلا اكتراث لما يحمله كل منهم من انتماء ديني، بل بما يجمعهم من جيرة ومودة.
تنقل عنب بلدي في هذا التقرير، قصصًا لأهالي حي باب شرقي يتحدثون فيها أن التنوع هو الذي جمعهم، لتكون منطقة باب شرقي ليست فقط مهدًا لانطلاق الأديان، بل أيضًا مكانًا نقل للعالم رسالة السلام عن تآخي الأديان.
معالم دينية متجاورة
يُعرف حي باب شرقي اليوم بأنه أكبر تجمع لكنائس الديانة المسيحية بطوائفها المختلفة في دمشق، حيث توجد فيه مقار لبطريركيات كبرى مثل بطريركية أنطاكيا وسائر المشرق للروم الأرثوذكس (الكاتدرائية المريمية)، وكاتدرائية سيدة النياح للروم الكاثوليك، إلى جانب كنائس الأرمن والسريان والأنجيليين.
وتتوسط الحي كنيسة حنانيا، التي تُعد من أقدم الكنائس في العالم، ويروي التاريخ أن القديس حنانيا، أحد أوائل المؤمنين بالمسيحية في دمشق، استضاف فيها شاول الطرسوسي (القديس بولس لاحقًا) بعد أن أبصر النور على يديه، ما جعل الكنيسة رمزًا لبدايات المسيحية وانتشارها في المنطقة.
كما كان لباب شرقي حضور يهودي بارز، فقد سكنت فيه جماعتان أساسيتان هما اليهود القراؤون الذين عاشوا في حارة الزيتون حتى عام 1832، وكان لهم كنيس خاص تحوّل لاحقًا إلى كنيسة الزيتون، واليهود التلموديون الذين استقروا فيما يُعرف اليوم بحارة اليهود، وترك وجودهم بصمته في هوية الحي وذاكرته، ليمثل مع المسيحيين والمسلمين مشهدًا غنيًا للتعددية.
وما يميز المشهد العمراني في باب شرقي هو تعانق المآذن بالقباب، حيث تقف الجوامع إلى جانب الكنائس في تداخل عمراني واجتماعي يعكس قرونًا من التعايش.
ذاكرة التعايش السلمي
يستذكر يوسف الصايغ (78 عامًا)، أحد سكان حارة اليهود في باب شرقي سابقًا، جيرانه اليهود، وكيف كانوا لسنوات يتشاركون أعيادهم وطقوسهم مع بعضهم.
قال يوسف لعنب بلدي، إنه كان يذهب صباح كل يوم سبت، ليوقد النار لجيرانه اليهود، احترامًا لطقوسهم.
“أذكر طرق جارتنا على بابنا كل يوم سبت، كانت تطلب منا إشعال الموقد لها، وكنا نلبي بكل ود ومحبة”، وأضاف يوسف أنهم لم يشعروا يومًا أن هناك اختلافًا بينهم، “كنا نعتبرهم أهلًا لنا”.
تروي تريز حنا (70 عامًا)، تعيش بمفردها في شارع القشلة بباب شرقي، عن وحدة الحال وتبادل الأعياد مع جيرانها المسلمين، قائلة، “في عيد الميلاد كنت أرسل كعكة العيد لجارتي أم خالد، وفي رمضان كانت تبعث لي أطباق المعمول والكعك، كنا نزيّن الحي معًا في الأعياد كلها، لم يكن الدين حاجزًا، بل كان مناسبة لتبادل المحبة”.
وأضافت بابتسامة، أنه في أصعب اللحظات، كان جيرانها المسلمون أول من يطرق بابها ليسأل عنها، وكانت تفعل ذات الشيء معهم.
ويستعيد حسن الشامي (65 عامًا)، طفولته في باب شرقي، وصورة الحي الذي كان يقطن فيه ويضم المسلمين والمسيحيين واليهود، مضيفًا، “كنا نلعب جميعًا في الأزقة دون أن نفكر من هو المسلم أو المسيحي أو اليهودي”.
ولا يستطيع حسن حتى اليوم أن يمر في الحي من دون زيارة أصدقائه المسيحيين في أعيادهم، فما ورثه عن أهله، هو أن الجيرة فوق كل شيء، بحسب تعبيره.
يقضي حسن مع جاره “أبو شربل” أغلبية وقته، وهما يلعبان “طاولة الزهر”، ويتناقشان لساعات بأحداث الوضع الراهن، ليستخلصا في كل جلسة أن “الطائفية لن يكون لها مكان بينهم”.
التعايش.. جوهر المجتمع السوري
الكاتب والصحفي السوري يعرب العيسى، صاحب رواية “المئذنة البيضاء” التي تطرق فيها إلى باب شرقي، تحدث لعنب بلدي، أنه درس تاريخ المنطقة وأمضى سنوات بالبحث فيها، وهي منطقة مرتبطة تاريخيًا بكل الأحداث المهمة.
كان باب شرقي منذ نشأته سوقًا تجاريًا نشطًا، وتحوّل عبر العصور إلى نقطة تلاقٍ للحضارات والأديان، من الحقبة الرومانية، إلى انتشار المسيحية، فالفتح الإسلامي، مرورًا بعصر المماليك، بحسب العيسى.
يرى العيسى أن تعايش الأديان في باب شرقي على مدار آلاف السنين، يبرهن أن سوريا لم تعرف يومًا مناطق مغلقة على طائفة واحدة، حتى إدلب، التي تقدم اليوم كمحافظة متشددة، ضمت عبر القرون قرى شيعية ومسيحية ودرزية متجاورة مع القرى السنية، وظلت تعيش جنبًا إلى جنب لأكثر من ألف عام.
وأوضح العيسى أن هذا التنوع يبرهن أن الانقسامات الراهنة، هي بمثابة حالة طارئة ومرتبطة بمرحلة الضعف التي تعيشها سوريا.
وأشار العيسى إلى أن استغلال الطائفية كأداة سياسية، بدأ مع حكم “البعث” وتعمق مع مجيء حافظ الأسد، الذي وظف البنى الطائفية والعشائرية والطبقية لتعزيز سلطته.
وأكد العيسى أن تاريخ سوريا الطويل يثبت أن المجتمع قادر على تجاوز هذه الانقسامات، كما فعل مرارًا في لحظات صحوة وطنية.
“سوريا بلد متنوع بطبيعته، والتعايش جزء من بنيته العميقة”، قال العيسى، لذلك لا تكفي مبادرات شكلية كـ”لجان السلم الأهلي”، بل المطلوب تغيير مناخ عام وظرف سياسي يعيد الثقة بين السوريين، ويفتح الطريق لعودة طبيعتهم الحقيقية، “مجتمع متعايش رغم تنوعه”، بحسب وصفه.