حوكمة الأمن وإعادة الثقة في سوريا.. حلب نموذجًا

  • 2025/09/24
  • 10:58 ص
أحد العناصر الأمنية خلال حفل إطلاق صندوق التنمية في دمشق - 4 أيلول 2025 (وزارة الداخلية)

أحد العناصر الأمنية خلال حفل إطلاق صندوق التنمية في دمشق - 4 أيلول 2025 (وزارة الداخلية)

enab_get_authors_shortcode

مجيب خطاب

مع انهيار منظومة الأسد وتحرير عدد من المدن السورية من قبضة النظام، تخوّفت المجتمعات المحلية من الفراغ الأمني والذي بدوره يهدد استقرارها ويجعلها عرضة للفوضى والانقسام، سيما وأنه يعتبر انهيار الأجهزة الأمنية في مراحل الانتقال أحد أبرز العوائق أمام بناء السلم الأهلي وضمان استمرارية الحياة العامة.

في هذا السياق، برز جهاز الأمن العام كقوة مدرّبة ومهيأة، لا تقتصر مهامه على مواجهة التحديات العسكرية، وإنما سعى أيضًا إلى إدارة الشأن الأمني على نحو يراعي خصوصيات المجتمعات المحلية وتطلعاتها ومع مرحلة التحرير، شكّل الأمن العام خطوة محورية في مسار إعادة بناء المنظومة الأمنية البديلة، بما ينسجم مع مقاربات الأمن المجتمعي وحوكمة الأمن([1]) ويسعى إلى إعادة صياغة العلاقة بين المجتمع والمؤسسات الأمنية في سياق مختلف عن النموذج السلطوي السابق.

بناء الشرعية المحلية والرمزية

تأسس جهاز الأمن العام بداية في إدلب، ومع توسع رقعة التحرير دخل إلى مدينة حلب بشكل مكثف، حيث برزت الحاجة الملحّة إلى بنية أمنية قادرة على ضبط الأمن ومنع الفوضى، خصوصًا مع تزامن ذلك مع معركة ردع العدوان ودخول الثوار إلى المدن السورية المحررة، وقد أظهرت التجربة أن عناصر الأمن العام في حلب كانوا الأكثر انضباطًا مقارنةً ببقية المدن والبلدات السورية، وهو ما ارتبط بقدرتهم على فتح خطوط مباشرة مع المجتمع المحلي، بما عزز الثقة وقلّص الفجوة التقليدية بين السلطة والأهالي.

وما ميّز هذا الجهاز أيضًا اعتماده على عناصر مدرّبة تدريبًا مهنيًا في التعامل مع المدنيين، بعيدًا عن الأساليب القمعية التي ارتبطت تاريخيًا بأجهزة النظام السابقة.

فضلًا عن ذلك، مثّل تأسيس مكتب للعلاقات العامة مع بداية تحرير محافظة حلب والتي اعتُبرت مفتاح النصر لسوريا محطة مهمة في مسار بناء مؤسسات أمنية سورية جديدة، تعكس توجهًا نحو المأسسة وإعادة صياغة العلاقة بين الأمن والمجتمع.

وتكمن أهمية هذه الخطوة في عدة مستويات متداخلة فمن أبرز التحولات التي عكستها تجربة الأمن العام في حلب هو جعل أبناء المدينة أنفسهم في واجهة إدارة مكتب العلاقات العامة، وهي خطوة تتجاوز البعد الرمزي لتصل إلى جوهر إعادة تعريف العلاقة بين المجتمع والأمن، فعلى المستوى الاجتماعي، أتاح هذا الانخراط إنتاج شرعية تمثيلية قائمة على الانتماء المكاني، بحيث لم يعد الأمن جهازًا غريبًا يفرض سلطته من الخارج، وإنما أصبح جزءًا عضويًا من النسيج المحلي بالإضافة إلى ذلك، أسهم هذا التمثيل المحلي في خلق نوع من الاطمئنان الجمعي على المستوى النفسي السياسي، بحيث أدرك الناس أن من يقود الأمن هم من أبناء بيئتهم، العارفين بحساسياتها الثقافية والدينية والعشائرية، وبالتالي تجنّبوا الكثير من الانتهاكات التي كانت ملازمة لسياسات “الأمن المركزي” في عهد النظام البائد.

يمكن اعتبار هذه الخطوة عاملًا محوريًا في تأسيس مقاربة جديدة للأمن، تقوم على اعتباره خدمة اجتماعية جماعية وليست أداة سلطوية، بما أتاح المجال لإعادة إنتاج مفهوم السيادة المحلية في محافظة حلب ضمن إطار أكثر تشاركية، وهنا تجدر الإشارة إلى أن وجود أبناء حلب لم يكن وحده كافيًا لإنتاج شرعية متأصلة؛ فالعامل الجوهري تمثّل في انخراط شخصيات معروفة بنزاهتها ولها دور كبير في الثورة السورية، هذه المشاركة أضفت على الجهاز بعدًا رمزيًا يتجاوز الفاعلية التقنية إلى الشرعية الأخلاقية والمجتمعية، حيث بات ينظر إلى الأمن كامتداد للثورة لا كقوة بديلة عنها. ([2])

وهنا تتجلى أهمية البعد الرمزي في المجتمعات الخارجة من صراع طويل مثل سوريا، خاصة أن الشرعية تعتبر عاملًا أساسيًا في قبول أي مؤسسة جديدة، ([3]) فالثقة، لا تبنى بالقوانين واللوائح الإدارية، وإنما من خلال ارتباط الجهاز بقيم النزاهة والالتزام بمحاكاة العادات المحلية.

الرأسمال الرمزي للثورة والأمن الحوكمي

من منظور علم الاجتماع السياسي، يمكن النظر إلى تجربة الأمن العام في حلب بوصفها تجسيدًا لما يمكن تسميته بـ “الرأسمال الرمزي للثورة”، حيث جرى تحويل النضال السابق وقيمه الأخلاقية إلى رصيد مؤسساتي يُستثمر في بناء شرعية جديدة، غير أنّ أهمية هذه التجربة لا تقف عند حدود الرمز، وإنما تتعداها إلى كونها مختبرًا لعلاقة جديدة بين السلطة والمجتمع، فالأمن العام لم يظهر كأداة تقنية لضبط الشارع وإنما كفاعل اجتماعي يسعى لشرعنة سردية التحرير في الممارسة اليومية، عبر أنماط تعامل مختلفة مع المدنيين وفتح قنوات تواصل مع المجتمع المحلي.

وإذا قُدّر لهذه التجربة أن تستمر وتتطور، فإنها ستشكل نواة لنموذج أمني بديل في سوريا المستقبل، نموذج يسعى إلى الربط بين الأمن والعدالة الاجتماعية، ويوازن بين مقتضيات الحوكمة ومتطلبات الشرعية الشعبية.

وعليه، فإن أهم دلالة لتجربة مكتب العلاقات العامة تكمن في قدرتها على الانتقال من منطق الثورة إلى منطق الحوكمة. ([4]) الأمر الذي تحقق عبر فتح قنوات تواصل منتظمة مع المجتمع المدني والمواطنين والذي لم يقتصر على إجراء بروتوكولي، وإنما بداية لتشكيل عقد اجتماعي أمني جديد، هذا العقد يقوم على الاعتراف بحق المجتمع في الرقابة والتقييم، مقابل التزام الجهاز بالشفافية والمسؤولية.

هذا التحول يعبّر عن إدراك كبير لضرورة الانتقال من حالة “الأمن الثوري” الذي يعتمد على الشرعية الشعبية المؤقتة والزخم العاطفي، إلى “الأمن الحوكمي” القائم على البنية المؤسسية والقواعد المستقرة وفي هذا السياق، يمكن فهم المأسسة كخطوة لإدماج الجهاز الأمني في إطار الدولة السورية الجديدة، بحيث لا يبقى أسير اللحظة الثورية وإنما يتحول إلى مؤسسة مستدامة قابلة للمساءلة والتطوير وعلى تواصل وتلاحم دائم مع المجتمعات المحلية .وعليه، تتجلى هذه الرؤية عمليًا في تجربة الأمن العام في حلب حيث يجتمع ثلاثة مستويات متكاملة (المحلية، والشرعية الرمزية، والمأسسة) مما يجعلها حالة فريدة في التاريخ السوري الحديث فهي تظهر محاولة واعية لتفكيك المعادلة الأمنية القديمة (أمن مقابل خوف)، واستبدالها بمعادلة جديدة (أمن مقابل ثقة) غير أن نجاح هذه التجربة يظل رهنًا بقدرتها على الحفاظ على هذا التوازن الهش: بين الانتماء المحلي والقدرة على الإدارة المركزية، بين الشرعية الثورية ومتطلبات المأسسة، بين الخطاب الرمزي والفعالية العملياتية.

وفي ضوء ما قدمته تجربة الأمن العام في حلب، يمكن استخلاص عدة استنتاجات قابلة للتعميم على بقية المدن السورية المحررة. توضح التجربة أن دمج المجتمع المحلي في إدارة الأمن، والاستعانة بالواجهات الثورية من أبناء المدينة أو المنطقة نفسها، يمثل عاملًا جوهريًا في بناء شرعية مؤسساتية حقيقية فالفواعل المحلية القادرة على فهم الخصوصية الاجتماعية والثقافية تستطيع خلق توازن بين ضبط الأمن واحترام التعددية المجتمعية، ما يعزز الثقة المتبادلة بين المواطنين والجهاز الأمني علاوة على ذلك، تؤكد التجربة أن الانتقال من منطق “الأمن الثوري” إلى “الأمن الحوكمي” يثمر عن مأسسة واضحة، مع فتح قنوات تواصل مستمرة مع المجتمع المدني، مما يجعل الأجهزة الأمنية مؤسسات مستقرة، قابلة للمساءلة، ومستندة إلى قيم العدالة والشرعية الشعبية وبذلك، يمكن أن تصبح هذه المقاربة نموذجًا قابلًا للتطبيق في جميع المناطق والمحافظات السورية، بما يضمن استدامة الأمن وبناء الثقة مع المجتمعات المحلية في سوريا الجديدة.


[1] – لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا) دراسة بعنوان “نحو حوكمة أمنية خاضعة للمساءلة في سوريا: إصلاح المؤسسات الأمنية وتحقيق استقرار قطاع الأمن في أعقاب النزاع” عام (2025)
استرجع من https://www.unescwa.org/ar/publications/نحو-حوكمة-أمنية-خاضعة-للمساءلة-في-سوريا

[2] -رسلان، عامر، المؤسسة السورية للدراسات وأبحاث الرأي العام دراسة بعنوان “الشرعية الثورية، معناها، مبرراتها، وإشكالياتها: سوريا نموذجًا”
استرجع من https://syriainside.com/articles/247-الشرعية-الثورية-معناها-مبرراتها-وإشكالياتها-سوريا-نموذجًا

[3] – العبد الله، سمير، شعبان، نوار، مركز حرمون للدراسات المعاصرة دراسة بعنوان ” إعادة بناء الأمن في سورية: استراتيجيات نزع السلاح والتسليح وإعادة الإدماج وإصلاح القطاع الأمني DDR/ SSR”، عام 2025
استرجع من https://www.harmoon.org/researches/إعادة-بناء-الأمن-في-سورية

[4] – ناصيف، طارق، مركز حرمون للدراسات المعاصرة دراسة بعنوان ” تجليات الحوكمة الرشيدة في الواقع السوري المعاصر”عام (2020)
استرجع من https://www.harmoon.org/wp-content/uploads/2020/08/تجليات-الحوكمة-الرشيدة-في-الواقع-السوري-المعاصر

 

مقالات متعلقة

  1. باحثون يناقشون الحوكمة في سوريا بعد 2011
  2. خطوات مطلوبة لرفع كفاءة "الأمن العام" في سوريا
  3. ما المطلوب من الحكومة السورية المقبلة
  4. الداخلية بين تعثر أمني وتجاوزات تهدد الثقة

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي