ادير الزور – عبادة الشيخ
تحولت المناهج الدراسية التي فرضتها “الإدارة الذاتية”، وهي الذراع الحوكمية لـ”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، إلى ساحة جديدة للصراع بين سلطة قائمة تسعى لفرض هويتها، ومجتمع محلي يتمسك بوجوده، بينما اعتبرتها مجتمعات عربية أخرى “أمرًا واقعًا”، وقبلت بها لمواصلة سير العملية التعليمية.
هذا الانقسام الحاد في ردود الفعل بين القبول في مناطق والرفض في مناطق أخرى بريف دير الزور الشرقي والغربي، ليس مجرد خلاف تعليمي عابر، بل اعتبر انعكاسًا عميقًا لصراع على الهوية والثقافة ومستقبل كامل للأجيال في المنطقة.
بين قبول حذر ورفض قاطع
في مدينة هجين، التي تتبع إداريًا لمنطقة البوكمال، سارت عملية توزيع الكتب المدرسية بسلاسة، وقوبلت المناهج الجديدة بقبول نسبي في المدينة دون أي معارضة علنية تُذكر من قبل المجمع التربوي التابع لـ”قسد”.
بالمقابل، قالت رائدة الخلف، من سكان هجين، إن هذا القبول لا يعني بالضرورة اقتناعًا تامًا بالمحتوى التعليمي، بقدر ما هو نتاج لعدة عوامل وصفتها بـ”القاهرة”، تجعل من المواجهة خيارًا “محفوفًا بالمخاطر”.
وباعتبار المنطقة مركزًا عسكريًا وإداريًا رئيسًا لـ”قسد” في الريف الشرقي، بات وجود “الإدارة الذاتية” هناك أمرًا واقعًا لا يمكن تجاوزه بسهولة.
وأضافت أن التكيف هو الطريق الأكثر عملية في ظل غياب أي بدائل أخرى، خاصة بعد سنوات من الصراع والفوضى التي عصفت بالمنطقة.
القبول هنا، وفق رائدة، هو خيار يهدف إلى استمرار الحياة وتأمين الحد الأدنى من التعليم للأبناء، بدلًا من الدخول في مواجهة قد تكون نتائجها “وخيمة”، بحسب وصفها.
مروان السميح معلم مدرسة ببلدة السوسة، رفض المنهاج لعدة أسباب، يتعلق الأول بـ”ضعف” مناهج المرحلة الابتدائية، وفق وصفه، بينما تحمل مناهج المرحلة الإعدادية مواد تتحدث عن حرية المرأة وفلسفة القائد السابق لحزب “العمال الكردستاني” (PKK)، عبد الله أوجلان، ومؤسس الديانة البوذية، بوذا، وتقارن الأخير بالنبي محمد.
وقال لعنب بلدي، إن الرفض لم يقتصر على الاعتراض اللفظي، بل وصل إلى حرق الكتب المدرسية كرسالة مباشرة من الأهالي بأن هذه المناهج لا تمثلهم ولا تعكس هويتهم.
قلق على الهوية والمستقبل
يتجاوز رفض الأهالي في ريف دير الزور مسألة المناهج التعليمية بحد ذاتها، ليلامس محورين رئيسين يشكلان أساس هذا الرفض، بحسب معلمين التقتهم عنب بلدي.
يتمثل المحور الأول بالصدام مع الهوية المحلية، إذ يرى معلمون أن المناهج التي وضعتها “الإدارة الذاتية” بعيدة عن قيمهم ومبادئهم.
وبحسب شهاداتهم، تتضمن الكتب مواد عن “تاريخ الشعوب” و”الفكر الديمقراطي”، بطريقة يرون أنها لا تتوافق مع هويتهم العربية والإسلامية.
واعتبروا أن هذه المناهج تهدف إلى طمس الهوية المحلية وخلق جيل منفصل عن جذوره، وهو الدافع الأكبر وراء حالة الرفض، بحسب ما رصدته عنب بلدي.
سامح السرهيد، معلم مدرسة في بلدة درنج، قال إن الكتب التي أحضروها لا تشبههم، مضيفًا، “نحن عرب ولنا تاريخ وقيم، وهذه المناهج لا تعكس شيئًا من ذلك، لهذا قمنا بحرقها، فهي لا تصلح لأبنائنا”.
غياب الاعتراف بالشهادات
يتمثل المحور الثاني في رفض مناهج “الإدارة الذاتية” بمستقبل الطلاب التعليمي والأكاديمي، وما يتعلق بالاعتراف بشهاداتهم.
عبد الحكيم المداد، مدير مدرسة في بلدة حريزة بريف دير الزور الشمالي، قال إن من أكبر المخاوف التي تهدد مستقبل الطلاب هو عدم اعتراف الجهات الرسمية محليًا ودوليًا بالشهادات التي تمنحها “الإدارة الذاتية”.
وأضاف أن هذا القلق ليس نظريًا بل هو “واقعي جدًا” في ظل غياب اعتراف دولي أو حتى إقليمي بهذه الشهادات، إذ يرى الأهالي أن أبناءهم قد يواجهون صعوبات في إكمال تعليمهم الجامعي أو الحصول على فرص عمل في المستقبل، ما يجعل من المناهج مجرد “عبء” لا فائدة عملية منها.
صراع يتجاوز التعليم
لطالما شكلت قضية المناهج الدراسية في مناطق سيطرة “قسد” شمال شرقي سوريا حالة جدلية، خلال السنوات الماضية، خاصة في مناطق انتشار المكوّن العربي.
قضية المناهج الدراسية في دير الزور هي بمثابة نقطة ارتكاز لصراع أوسع على الهوية والسلطة، فبينما تسعى “الإدارة الذاتية” لترسيخ نفوذها عبر المؤسسات التعليمية، يرى الأهالي في هذه المناهج تهديدًا مباشرًا لهويتهم الثقافية.
ومع بداية العام الدراسي الحالي، أبلغت “هيئة التربية والتعليم” في “الإدارة الذاتية” المدارس الخاصة والعامة بأن منهاج الحكومة السورية لن يُسمح بتدريسه في أي مؤسسة ضمن مناطق سيطرتها، وأصدرت قرارًا بتوحيد المنهاج الذي وضعته سابقًا.
وكانت “الإدارة” فرضت منذ العام 2020 منهاجًا تعليميًا في المناطق الخاضعة لها بدير الزور والحسكة والرقة وحلب، إلا أنه قوبل بالرفض من قبل بعض السكان، وشهدت المنطقة لسنوات احتجاجات على سير العملية التعليمية.