خطيب بدلة
تنطوي دراسة طبائع البشر، بنزاهة، ودون خلفيات أيديولوجية، على متعة يصعب وصفها.. فمثلًا، كان يطلع لنا، في الأمسيات الثقافية والأدبية، شخص يهوى تخريب الأفكار، والاستهزاء بجهد الآخرين.
كنا نصغي، ذات مرة، إلى محاضرة لمثقف يمتلك رؤية تحررية، لخص فيها قضية المرأة، بالتفصيل الوافي، وبعد المحاضرة جرت مناقشة مع الجمهور، ووقتها وقف صاحبنا، وقال: كل كلامكم لا قيمة له، فالله تعالى كرم المرأة بالغسيل، والكوي، والشطف، وتحفيض الأولاد، والسلام.
خلال الأشهر الأخيرة، بدأت متعتي بالفرجة على تبدل المواقف تتضاعف، فمن ينظر، اليوم، إلى المشهد العام، سينتابه شعور بأن حافظ الأسد وبشار الأسد أمضيا في الحكم 54 سنة بدون أنصار، ولا مؤيدين. وتتساءل: هل يعقل أن مسيرات التأييد المليونية لحافظ الأسد، كلها كاذبة؟ هل كان الأشخاص الذين يرقصون على الطبل، ويحملون الصور واللافتات، يكرهون حافظًا وبشارًا ونظاميهما؟ ألم يكن في سوريا ثلاثة ملايين بعثي، ينتظرون إشارة من أمين الشعبة، أو أمين الفرع، ليخرجوا إلى الشوارع، ويباشروا التعييش والتسقيط؟
أنا، شخصيًا، أمتلك موقفًا مبدئيًا، ثابتًا، من الاستبداد، ولهذا عارضت نظام الأسد، وبقيت معارضًا رغم المضايقات الأمنية، ولكن ما أقوله، هنا، لا يتعلق بالمواقف السياسية، بل يهدف لفهم الطبائع السياسية للبشر.. وفي ذاكرتي حكايات كثيرة عن غرابة هذه الطبائع، فقد اجتمعت، خلال إقامتي في تركيا، بالأستاذ سين، المثقف السوري المعارض الشرس لبشار الأسد، عفوًا، كلمة “شرس” لا تفي بالغرض، فلو جاز لي أن أنحت وصفًا مجازيًا، لقلت إنه مريض بالمعارضة، حالته إسعافية، وصل به هوس المعارضة إلى حد الاصطدام مع بعض أصدقائه، المعارضين مثله! كان مأخذه عليهم، أنهم يعارضون “على البارد”، بينما هو مستعد للمناقرة كديك، والمبارزة، والمجادلة، و”المجاقشة”، والسباب على كل من يهادن بشار، أو يقصر في معاداته.
قبل انطلاق الثورة، كنت أسمع، من بعض الناس، أن سين، نفسه، كان مقربًا من بشار، ولكنني، بيني وبين نفسي، كذبت الخبرية، وفكرت أن آخر إنسان في العالم، يمكن أن تكون له صلة ببشار، هو الأستاذ سين.. ومرت الأيام، بقى سيدي، وبدأت تتجمع عندي خيوط قصة عجيبة، عن علاقة سين ببشار الأسد، ملخصها أنه سافر، في سنة 2000، إلى حلب، ليلقي محاضرة في اتحاد الكتاب، وبعد المحاضرة، اصطحبه أحد أصدقائه إلى مسرحية لهمام حوت، وفي أثناء المحاضرة، وبمصادفة عجيبة، دخل بشار الأسد، وجلس في الصف الأول، بقربه، وبعد انتهاء العرض، وقف بين الحاضرين، وسلم عليه، وكان أحد مرافقي بشار يعرف سين، فقدمه إليه، وأشاد به، وبإنجازاته الأدبية، فقال له بشار بطريقة تمثيلية: أوه، فلان؟ نار على عَلَم. وخلال تبادل عبارات المجاملة، دعاه سين لزيارة مكتبه في دمشق، فقبل بشار الدعوة، ووعده بزيارة قريبة، وأخذ منه العنوان.
يحكى أن سين، في تلك الأيام، مرض بحب بشار الأسد، وقد روي عنه، أنه سرعان ما أجرى للمكتب حفلة تنظيفات وترتيبات شاملة، وأحضر مهندس ديكور، وطلب منه توسيع فتحة مدخل المكتب، لأن بشار طويل، ويخاف أن يصطدم، في أثناء الدخول، بالنجفة!