أحمد عسيلي
حضر إذًا الرئيس السوري، أحمد الشرع، اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وشارك أيضًا في اللقاء الذي نظمته مؤسسة “كونكورديا”، بل وبالتزامن مع ذلك، بُثّ أيضًا حوار له عبر برنامج “60 دقيقة” على قناة أمريكية كبرى.
كل هذه المشاهد لم تكن مجرد مؤشرات على عودة سوريا إلى الساحة الدولية بعد عزلة طويلة، رغم أهمية ذلك بالطبع، بل حملت دلالات أعمق بكثير، تتعلق بتغير العقلية التي تحكم مفهوم السلطة في سوريا، فالشرع ظهر كرجل دولة عادي بين عشرات القادة، لا كبطل استثنائي ولا كرمز مقدس، بلاده بدت جزءًا من مئات القضايا العالمية المطروحة، لا المركز الذي تدور حوله الدنيا كما أوهم النظام السابق شعبه، فلا مؤامرة كونية، ولا تحالفات دولية صيغت خصيصًا كي تقضي على نظامنا. رئيس يلتقي ببعض القادة ولا يلتقي بآخرين، وربما يمر في قاعة الجمعية العامة قادة وموظفون لا يعرفون اسمه أصلًا. هذه التفاصيل تكفي لتقويض أوهام كبيرة، فالرئيس مثل غيره يملك مقعدًا محددًا ووقتًا معلومًا للخطاب، يستأذن بكل أدب من رئيس دولة أخرى أمام الكاميرات كلها، كي يذهب ولا يتأخر عن موعد إلقاء خطابه هذا، بل إن “الفيزا” الممنوحة له لم تتجاوز أيامًا قليلة، هذا ليس خاصًا بالشرع، بل حتى الرئيس الفرنسي كاد أن يتأخر عن موعد حضوره إلى الجمعية العامة نتيجة أزمة سير، مما اضطره للذهاب مشيًا على الأقدام، حدث شيء مشابه أيضًا مع أردوغان، السياسة الدولية لا تمنح امتيازات مطلقة لأحد، بل تضع الجميع ضمن قواعد عامة لا تسمح بالاستعراض إلا في أذهان مضطربة.
ويُحسب للشرع في حواره أنه استخدم لغة جديدة، أكثر فيها من كلمات مثل “أعتقد” و“برأيي” و“أرى”، هذه المفردات تنقل الخطاب السياسي من منطق اليقين المطلق إلى منطق النسبية، أن يتكلم الرئيس بهذه الطريقة يعني أنه يعترف ضمنًا بحدوده، ويقر بأن رأيه ليس الحقيقة النهائية، بل وجهة نظر قابلة للنقاش، ومع هذه اللغة جاء تحول آخر موازٍ: الإقرار بعدم الكمال، فالمشهد لم يعد يدار بعقلية العصمة المطلقة، بل صار هناك اعتراف علني، وبشكل رسمي بأن الدولة تخطئ، وأن الأخطاء جزء من التجربة السياسية.
لكن هذا التحول لا يكتمل من دون تحول المعارضة أيضًا، فهي للأسف لا تزال أسيرة خطاب قديم يرى نفسه ممثلًا للشعب كله، بينما الواقع تغير، لقد كانت فعلًا أكثرية في سنوات سابقة، تجابه نظامًا عائليًا مجرمًا دون شعبية تذكر، لكنها اليوم أقلية، أمام سلطة لها امتدادها الواسع في الشارع السوري، وهذا لا يمس شرعيتها أبدًا، ولا يحكم على رؤيتها، لكنه يحدد موقعها. الاستمرار في ادعاء التحدث باسم الجميع يعيد إنتاج لغة سابقة طوتها الأحداث، على المعارضة أن تعترف بأنها أقلية في الشارع، مرة أخرى هذا ليس عيبًا أو تقليلًا من دورها أو استراتيجيتها، بل يجب عليها، ومن مصلحتها هي أولًا، أن تبني خطابها على هذا الأساس، وإلا ستبقى خارج أي إمكانية للتطور، أما الذين انتقلوا حديثًا من ضفة النظام إلى العمل المعارض، وأقصد هنا أنصار الأسد الساقط، فلا يزال أمامهم الكثير ليتعلموا آليات المعارضة، فهي ليست تكرارًا معكوسًا لخطاب السلطة، بل ممارسة تقوم على التعدد والاعتراف بالاختلاف.
التحدي الأكبر أمام المعارضة إذًا هو التخلي عن خطابها الذي يدعي امتلاك الحقيقة ويمارس شيطنة الآخر، فالمشهد أكثر تعقيدًا: مناطق “الإدارة الذاتية” ليست جنة الديمقراطية كما يُصورها مؤيدوها، فهناك اعتقالات وهناك قمع، بل وقتل، وما يجري في السويداء يكشف عن أخطاء فادحة لا تجد أي نقاش جدّي بين أنصار هذه التجربة، تجاهل هذه الأخطاء لا يمنع الآخرين من رؤيتها، بل يفضح عجز الخطاب السياسي عن مواجهة نفسه بصدق.
في النهاية، نحن كسوريين مقبلون على مرحلة جديدة تستلزم قدرًا كبيرًا من التأقلم، ليس فقط مع تبدل علاقة السلطة بالمجتمع، بل مع تغير العلاقات بين الناس أنفسهم، المهتمين بالشأن السياسي خاصة، وقد عبّرت عن ذلك وإن بشكل فج ناشطة سورية، كانت معارضة لنظام الأسد منذ عام 2011، حين أعلنت استعدادها للوقوف مع أنصار النظام البائد في معسكر واحد ضد السلطة الحالية. قد يبدو هذا الموقف متطرفًا، بل وإشكاليًا إلى حد كبير، لكنه يكشف عن تبدل طرق الاصطفاف السياسي، والحاجة إلى مرونة أكبر في التعامل مع هذه الحقيقة، فالعالم اليوم لا يتيح لأي طرف أن يتمسك بخطاب مطلق أو يدعي امتلاك الحقيقة.
إن القدرة على الاعتراف بالحدود وبالأخطاء وبحق الآخر في الاختلاف هي الشرط الضروري لولادة عقلية جديدة، أكثر واقعية، وأكثر استعدادًا لمواجهة المستقبل، السلطة أخذت خطوات يبدو أنها مطمئنة، على الأقل حتى الآن، هنا علينا كمجتمع مهمة مزدوجة، من جهة العمل على إصلاح الصوت المعارض، ومن جهة أخرى دفع السلطة والضغط عليها أكثر من أجل إحراز تقدم أكبر في هذه التغيرات. هي مهمة شاقة جدًا بالتأكيد، لكن بالنهاية لا بد منها.