لمى قنوت ورهام قنوت رفاعي
يحوك ترامب وبعض ممثلي إدارته مفاهيم التطوير العقاري في نسيج دبلوماسية الولايات المتحدة الأمريكية وأطر سياستها الخارجية، ليصدروا خطابًا عن الحدود والسيادة والهيمنة والشرعية أقرب إلى لغة المعاملات التجارية وإدارة الشركات العابرة للحدود من اللغة المهنية للدبلوماسية التقليدية، فتتحول الولايات المتحدة في الخطاب من كيان دولة إلى شركة استثمار عقاري عابرة للحدود، في انعكاس لرؤية ترامب لذاته، كمطور عقاري، ونوعية الأشخاص الذين اختارهم ليكونوا جزءًا من إدارته.
معجم إدارة ترامب للدبلوماسية
لعل أبرز الرمزيات اللغوية لقطيعة إدارة ترامب مع إرث عقود من الاستراتيجيات الدبلوماسية والمجاز السياسي وصناعة الرأي العام، تتجلى في إعادة تسمية وزارة الدفاع بوزارة الحرب، التي، وإن كانت أصدق في تمثيل طبيعة الولايات المتحدة كدولة حرب، إلا أنها تصعيد خطابي لافت.
تطغى في المعجم الجديد كلمات مثل: ”شراء“، و”امتلاك“، و”إعادة تطوير“، و”مشروع“، و”موقع“، و”استثمار“، مقابل مفردات العلاقات والقانون الدولي، وتظهر ألقاب متل “رب العمل أو السيد” (boss) بدل من رئيس دولة، و”مرتزقة أو عامل مأجور” (mercenary) بدل “دبلوماسي”، وتتم الإشارة إلى مناطق جغرافية وأراضي شعوب ودول أخرى بـ”منطقة استثمار“ أو ”أرض شاغرة“ أو “مُدمرة غير آهلة”، وتوصَمُ شعوب وحكومات وأطراف دولية وجهات فاعلة على الأرض بالحوكمة الفاشلة والفوضوية والعجز، في مقابل وصف جهود إدارة ترامب بالمُنتِجة والمثمرة والعقلانية والواقعية.
يتشابك خطاب سوق العقارات النيوليبرالي الصريح مع الخطاب الأمني لعقلنة مسار إدارة ترامب في إطار الهيمنة النيوكولونيالية، وتسويق نشاط مجمعها الصناعي العسكري على أنه دعم للحلفاء وليس بتدخلات عسكرية مباشرة (boots on the ground)، ويتبنى الخطاب معادلات أيديولوجية مثل أن “التنمية الاقتصادية تساوي السلام”، و”رأس المال الخاص يعني الكفاءة”، و”الأمن والاستقرار يتطلبان الاستثمار والازدهار الاقتصادي”، وهي معادلات يتبناها خطاب السلطات والأطراف السياسية الصاعدة والمستقرة في منطقة جنوب غرب آسيا اليوم.
الهيمنة والشرعية
في انعكاس لأولويات الولايات المتحدة في الهيمنة وإرثها الكولونيالي المستمر، لا يتعامل ترامب، المهووس بالخرائط، مع حدود الدول كمساحات نفوذ جيوسياسي ثابت، بل كمناطق توسع يمكن تشييئها وتسليعها وامتلاكها، وإعادة تسويقها كالعلامات التجارية، لتبرز إعادة تسمية المناطق ورسم الخرائط كعمل مرادف لادعاء ملكيتها والاستحواذ عليها (To Name is to Claim)، مثل تصريحات ترامب حول إمكانية تحويل كندا إلى الولاية الـ51 الأمريكية عبر صفقة ما، وتغيير وزارة الداخلية الأمريكية اسم “خليج المكسيك”، المسطح المائي الذي تتشارك فيه ثلاث دول منها الولايات المتحدة وكوبا والمكسيك، إلى “خليج أمريكا”، علمًا أن “خليج المكسيك” هو الاسم المعترف به دوليًا كمرجع ملاحي بحري منذ مئات السنين. بالإضافة إلى محاولات استحواذ أخرى لترامب في التعامل مع الحدود والمناطق والدول كمساحة عقارية قابلة للاستثمار، من استعادة قناة بنما، والهيمنة على قطاع غزة بوصفه “مشروعًا سياحيًا”، إلى امتلاك غرينلاند.
إقليميًا، وفي سياق منطقة جنوب غرب آسيا، فقد تحدث ترامب عن “صِغر مساحة إسرائيل على الخارطة، ولطالما فكر بتوسيعها”، وقد سبق لمسؤول كبير في إدارة ترامب بأن شبه “الحدود الحديثة لإسرائيل” في عام 1926 و1948 و1976 و1973 بأنها رُسمت على أسس وهمية، مثيرًا الشكوك حول بقاء بعض الدول القومية في الشرق الأوسط، منتقدًا “اليد القبيحة للغرب” في تقسيم الدولة العثمانية والتي أشاد في نموذج حكمها.
وفي ذات الإطار، أوضح المبعوث الأمريكي إلى سوريا، توم براك، في حواره مع هادلي غامبل، رؤية إدارة ترامب للنزاعات ودول المنطقة ومآلات المرحلة قائلًا: “لم يكن هناك سلام من قبل، وربما لن يكون هناك سلام في المستقبل، لأن الجميع يقاتل من أجل الشرعية (…) الحدود هي مجرد عملة تفاوض، النتيجة النهائية هي أن طرفًا يريد الهيمنة، وهذا يعني، أن طرفًا آخر يجب أن يخضع”، والخضوع غير وارد عند العرب، وطرح بأن الازدهار الاقتصادي هو الحل الوحيد، وأبدى براك خلال اللقاء استغرابه من عدم استقبال العرب، مثل مصر والسعودية، للفلسطينيين، رغم ما يحدث لهم منذ أوائل القرن الـ20، واعتبره لغزًا حقيقيًا، في المقابل، أجابته غامبل بكل بساطة: “لأنهم يريدون البقاء على أرضهم”، فكان رده بأن الأمر لا علاقة له بالأرض، بل بالشرعية والمعنى والصلة بالهوية.
يتجلى في هذه الأمثلة قصور هذه العقلية في فهم شعوب المنطقة، والتأطير الكولونيالي والنيوليبرالي للأرض كمكان حيادي لا معنى له بحد ذاته، بل سلعة، تُحدد المصالح الاقتصادية والسياسية سعرها، وتأتي الشرعية من القوة والسلطة المهيمنة، ويُرَحل السكان ويتم نقلهم كما تنقل البضائع والأصول، بينما، في الموروث الثقافي الجمعي في منطقتنا، الأرض هي الشرف والجذر وأصل الهوية والانتماء، والتمسك بها في وجه احتلال أو استعمار مقرون بالكرامة والاستمرار عبر الأجيال والوجود.