تشهد بعض قرى اللاذقية ومناطقها في الأسابيع الأخيرة ظهور حالات مرضية متفرقة ترافقت بأعراض متشابهة، أبرزها الحمى والتعب المستمر وآلام المفاصل والغثيان.
التشابه في الأعراض وتفاقم بعض الحالات عما هو معتاد لدى الأهالي، بالتزامن مع قلة وجود المراكز الصحية والأطباء ضمن القرى، وتأخر تقديم العلاج الصحيح، أثار المخاوف حول طبيعة الأمراض ومدى انتشارها بين الناس عن طريق العدوى.
يروي خضر (31 عامًا) أب لطفلة عمرها أقل من عام، لعنب بلدي، ما حصل معه خلال فترة مرضه، إذ بدأت القصة وكأنها أعراض لضربة شمس كان اعتادها سابقًا، وكانت احتمالًا مؤكدًا بالنسبة له، بعد عمله ليومين تحت حرارة الشمس في قطاف الزيتون.
وعانى خضر من حرارة مرتفعة، وغثيان، وعدم قدرة على الحركة، وانتشار للألم في أنحاء الجسم كافة. خلال هذه الفترة استخدم أدوية خافضة للحرارة، ومسكنة، دون مراجعة للطبيب.
”انتهى الأسبوع الأول، وما زالت الأعراض تشتد وتنتشر بشكل أكبر، حتى بدأت ألحظ تغيرًا في لون البول، وحبسًا للغازات، وألمًا يتفاقم في منطقة المعدة، مما أثار قلقي من انتقال أي عدوى لابنتي خلال الفترة السابقة، ودفعني لمراجعة الطبيب للتأكد من الأمر”.
ونظًرا إلى عدم توفر طبيب في المنطقة، عمد خضر، وفق ما قاله، للذهاب إلى مخبر في قرية قريبة، والحصول على التحاليل التي نصحه بإجرائها صيدلي القرية، ومن ثم الذهاب بالنتائج إلى الطبيب في مدينة جبلة، ليكتشف مؤخرًا أن ما أصيب به كان “التهابًا للكبد” وليس “ضربة شمس”.
عنب بلدي تواصلت مع رئيسة شعبة الأمراض السارية والمزمنة في مديرة صحة اللاذقية، الدكتورة خيرية دباغ، لتكشف أسباب انتشار تلك الأمراض خلال هذه الفترة من العام، ومدى خطورتها وكيفية الوقاية منها.
ولادات الحيوانات سبب رئيس
أرجعت رئيسة شعبة الأمراض السارية والمزمنة في مديرية صحة اللاذقية، الدكتورة خيرية دباغ، سبب الانتشار الحالي للأمراض التي تتشابه في الأعراض، إلى عوامل موسمية ترتبط بتربية الحيوانات، إذ تكثر في هذه الفترة ولادات الأغنام والماعز، ما يزيد احتمالية انتقال جرثومة “البروسيلا” (الحمى المالطية).
كما يزيد ارتفاع درجات الحرارة من خطر تلوث المياه وانتشار الأمراض جراء ذلك، ولفتت دباغ إلى أن نشاط الحشرات الناقلة مثل “ذبابة الرمل”، يزداد خلال مواسم معينة، ويكون سببًا لأمراض عدة.
الالتباس في الأعراض
التقارب الكبير في الأعراض جعل التشخيص أكثر صعوبة، خصوصًا في ظل غياب التحاليل المخبرية.
وذكرت دباغ، في حديثها لعنب بلدي، أن “الحمى المالطية” تتميز بحمى متموجة وصداع وآلام مفصلية شديدة، إضافة إلى تضخم الكبد والطحال، بينما يرتبط “التهاب الكبد (أ)” بظهور اصفرار في الجلد والعينين وتحول لون البول إلى داكن، رغم اشتراك المرضين في التعب والحمى وفقدان الشهية.
ولفتت إلى أن المرحلة المبكرة لكليهما تشبه أعراض الإنفلونزا، ما يزيد الالتباس في حال الاعتماد فقط على المظاهر السريرية.
وبينت الدكتورة خيرية دباغ أنه لا يمكن حسم طبيعة المرض بدقة مطلقة من دون فحوصات مخبرية، إلا أن أكثر الاحتمالات شيوعًا في الريف السوري والمتوافقة في الأعراض تشمل:
- الحمى المالطية (البروسيلا)، وهي الاحتمال الأرجح نظرًا إلى انتشار تربية المواشي.
- التهاب الكبد الفيروسي (أ)، الذي يرتبط بتلوث الماء أو الطعام.
- داء الليشمانيات، وهو مرض طفيلي تنقله ذبابة الرمل.
- الإنفلونزا وبعض الفيروسات الموسمية التي تبدأ بأعراض مشابهة.
وإلى جانب ذلك، تنتشر حالات الإسهال الحاد الناتج عن تلوث المياه، إضافة إلى الأمراض الطفيلية المعوية، في أوقات متفرقة من العام.
مخاطر الاعتماد على الصيادلة أو الممرضين
نظرًا إلى بعد القرى عن مراكز المدن، مكان وجود الخدمات الطبية الكاملة من أطباء ومخابر ومستشفيات، وقلة المراكز الصحية ضمن القرى، يلجأ الأهالي كحل منقذ وسريع إلى الصيدلاني الموجود في القرية، أو الممرضين من الأهالي، للحصول على وصفة سريعة تخفف عنهم ما يعانونه من أمراض.
وقال الصيدلاني في إحدى قرى جبلة أحمد سليمان، لعنب بلدي، إن الصيدلاني ضمن القرية يعد مصدر ثقة بالنسبة للأهالي، لذا يجب عليه العمل على تعزيز ثقة المريض، دون إيذائه أو التأثر بالضغوط التي تمارَس عليه، ومحاولة استعطافه للحصول على أدوية لا يمكن إعطاؤها دون وصفة الطبيب.
ويلجأ أحمد إلى الاستماع لما يعانيه المريض، وتوضيح الاحتمالات الواردة وفقًا للأعراض التي تم ذكرها، وحثه على زيارة الطبيب وإجراء فحوصات مخبرية، للحصول على الفحص الدقيق.\
وخلال هذه الفترة يعمل على إعطاء المريض بعض الأدوية المسكنة والمساعدة على تخفيف الأعراض مؤقتًا.
وقال الصيدلاني لعنب بلدي، “في الغالب لا يراجع أحد الأطباء، نتيجة الوضع المادي السيئ في القرى”، مفسرًا سبب لجوئهم للصيادلة.
ووصفت رئيسة شعبة الأمراض السارية والمزمنة في مديرة صحة اللاذقية، الدكتورة خيرية دباغ، هذا السلوك من قبل الأهالي بأنه يحمل مخاطر كبيرة، مشيرة إلى أن دور الصيدلي ينحصر في صرف الأدوية، وقد يصف مضادات حيوية غير مناسبة، تساعد في إخفاء الأعراض إلا أنها لا تعالج السبب، أما الممرض، فإن خبرته في الإجراءات التمريضية لا تغطي التشخيص الباطني.،
وينتج عن هذا السلوك الخاطئ وفق دباغ، التأخر في التشخيص الصحيح وتفاقم الحالة المرضية، إضافة إلى هدر الوقت والمال، منوهة إلى أن التوجه إلى طبيب في مركز صحي أو مستشفى هو الخيار الأمثل، فيما تقع على عاتق الصيدلي أو الممرض مسؤولية توجيه المريض إلى الطبيب بدلًا من محاولة التشخيص.
نصائح للوقاية
طرحت الدكتورة خيرية دباغ مجموعة من الإجراءات الوقائية، أبرزها:
- غلي الحليب ومشتقاته (القشطة، اللبنة) لمدة لا تقل عن خمس دقائق، وتجنب استهلاك الأجبان الطرية غير المعقمة.
- تلقيح المواشي بانتظام، وارتداء القفازات عند التعامل مع الحيوانات أو في أثناء الولادة.
- غلى مياه الشرب غير المعبأة، وغسل الخضار والفواكه جيدًا.
- غسل اليدين بالماء والصابون قبل الطعام وبعد استخدام المرحاض.
- ضرورة مراجعة الطبيب مباشرة عند استمرار الحمى والتعب لأكثر من يومين، ولا سيما في حال وجود تماس مباشر مع الحيوانات.
بين ضعف البنية الصحية وانتشار ممارسات خاطئة في العلاج، وغياب الوعي الكافي، تبقى القرى في ريف اللاذقية وأبناؤها عرضة لانتشار أمراض موسمية متكررة، وسط ظروف معيشية قاسية، تقف عائقًا أمام الحصول على التشخيص الدقيق، وعلاجه.