خيار الامتناع.. سوريا بين الإكراه الخارجي وضرورات الإنقاذ الوطني

  • 2025/10/05
  • 4:18 م
غزوان قرنفل

غزوان قرنفل

enab_get_authors_shortcode

غزوان قرنفل

تشهد الساحة السورية اليوم لحظة فارقة ومعقدة، إذ تتقاطع عليها ضغوط دولية وإقليمية متزايدة، تتصدرها الولايات المتحدة وإسرائيل، بهدف دفع السلطة السورية الجديدة لتوقيع اتفاق أمني مع إسرائيل، سواء بالصيغة التي تطرحها تل أبيب أو بصيغ ملتبسة لا تحفظ الحد الأدنى من التوازنات التي كانت قائمة قبل 8 من كانون الأول 2024 على الأقل.

ظاهر الأمر قد يبدو هذا الطرح خطوة باتجاه الاستقرار أو تسوية النزاع، لكنه في جوهره يحمل أخطارًا استراتيجية جسيمة على وحدة سوريا ومستقبلها، فضلًا عن انعكاساته العميقة على أمن المنطقة بأسرها.

فسوريا الراهنة، وبعد عقد ونصف تقريبًا من الحرب والدمار والانقسامات، ليست في موقع يمكنها من تحمل أعباء التزامات استراتيجية من هذا القبيل، والسلطة الحالية، مهما حاولت إظهار التماسك، تفتقر إلى قاعدة الشرعية الجامعة، كما أنها محاطة بشبكة من التوازنات الداخلية الهشة، ومكبلة بوجود عسكري وسياسي متعدد الأطراف على أراضيها، وبالتالي فإن الدخول في اتفاق أمني مع إسرائيل ضمن هذه الظروف يعني عمليًا تقديم تنازلات لا يمكن للمجتمع السوري استيعابها، ولا للدولة السورية أن تتحمل تبعاتها، لأن أي اتفاق يبرم من موقع شديد الهشاشة والضعف، وتحت ضغط إكراهات خارجية، سيفقد تلقائيًا قيمته السياسية والأخلاقية، وسيفتح الباب أمام انفجار داخلي جديد ربما تغذيه قوى إقليمية أخرى ترى نفسها متضررة منه، كما أن شرائح واسعة من السوريين ستنظر إليه ليس بوصفه خيانة فقط بل باعتباره تخليًا عن الثوابت الوطنية وعن السيادة على الأرض ومصادر المياه.

هذا وحده كفيل بتأجيج النزعات الانفصالية وتغذية مشاريع التقسيم، وإشعال فتيل احتراب أهلي لن تملك السلطة الوسائل الكافية للسيطرة عليه، ولن يقف الخطر عند حدود الداخل السوري، فمجرد إدماج سوريا في منظومة أمنية إسرائيلية- أمريكية سيجعل منها قاعدة متقدمة في مشروع يستهدف إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية للمنطقة بما يخدم التفوق الإسرائيلي والمصالح الأمريكية بالضرورة دون أدنى اعتبار للمصالح الوطنية السورية، وستتحول سوريا، بعمقها الجغرافي وصلاتها التاريخية مع المشرق العربي، إلى أداة ضغط وابتزاز على جوارها المباشر (تركيا والأردن والسعودية)، وسيتحول موقعها من عنصر توازن إلى مصدر تهديد دائم يعيد إنتاج التوترات بدل أن يفتح بابًا لتسويتها.

إن القبول بهذا المسار سيعني أن سوريا لم تعد دولة ذات سيادة، بل حلقة وظيفية في منظومة إقليمية تُدار من الخارج، وتُرسم سياساتها بما يتناسب مع مصالح تل أبيب وواشنطن فحسب، وهذا بحد ذاته سيضعف قدرتها على لعب أي دور مستقل حتى فيما يتعلق بحماية مصالحها، وسيبدل دورها من أن تكون جسرًا بين شعوب المنطقة لتجعل منها رأس حربة في مشروع يهددهم.

انطلاقًا من هذه المعطيات، يصبح خيار الامتناع عن التوقيع في الوقت الراهن ليس مجرد موقف سياسي قابل للأخذ والرد، بل ضرورة وجودية تفرضها مصلحة الدولة والمجتمع السوريين، والامتناع هنا لا يعني رفض الحوار أو إغلاق الأبواب أمام أي تسوية مستقبلية، بل يعني ببساطة إدراك حجم اللحظة التاريخية وخطورة الاندفاع نحو التزامات غير قابلة للتنفيذ داخليًا، ولا تتوافق مع الحد الأدنى من المصلحة الوطنية.

إن أي اتفاق خارجي يحتاج أولًا إلى قاعدة داخلية صلبة تحمله، وإلى عقد اجتماعي متماسك يمنحه الشرعية، ومن دون ذلك، سيبقى حبرًا على ورق، أو يتحول إلى شرارة انفجار داخلي، ومن هنا فإن الأولوية القصوى أمام السوريين اليوم تكمن في معالجة انقساماتهم الداخلية، وإعادة بناء منظومة الثقة الوطنية على أسس جديدة.

ما تحتاج إليه سوريا اليوم ليس اتفاقًا أمنيًا مع إسرائيل، بل هي بحاجة إلى اتفاق وطني داخلي يضمن شراكة حقيقية بين جميع المكونات، وإعادة صياغة منظور جديد للدولة، لا يقوم على المركزية المطلقة ولا على الإقصاء، بل على المشاركة والعدالة وتوزيع الموارد بشكل متوازن، لأن ذلك بات شرطًا لا غنى عنه لإعادة الاستقرار، فمن دون شراكة وطنية حقيقية ستظل السلطة الحالية أسيرة ضغوط الخارج، لأنها تفتقر إلى الشرعية التي تمنحها قوة التفاوض، أما إذا نجح السوريون في إعادة بناء علاقتهم الوطنية على قاعدة جديدة، فإنهم سيكتسبون القدرة على الدخول في أي عملية تفاوض مستقبلية من موقع الندية، لا من موقع الاضطرار أو الانصياع.

قد يقال إن هذا الامتناع سيضع سوريا في مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة وإسرائيل، وربما يعرضها لمزيد من الضغوط والعقوبات، وهذا صحيح إلى حد ما، غير أن البديل أكثر خطورة بكثير، لأنه يهدد الكيان السوري نفسه بالتفكك، فسوريا التي ترفض الانصياع اليوم، قد تدفع ثمنًا آنيًا من الضغوط، لكنها ستحافظ على إمكانية إعادة بناء نفسها غدًا، أما سوريا التي ترضخ وتمتثل، فستفقد ما تبقى من مقومات الدولة والمجتمع، وتتحول إلى أداة ضمن مشروع خارجي لا يراعي مصالحها ولا يضمن مستقبل شعبها.

إن خيار الامتناع عن توقيع اتفاق أمني مع إسرائيل في هذه المرحلة هو خيار إنقاذي بامتياز، وهو تعبير عن إدراك عميق لحدود الممكن في ظرف تاريخي معقد، وهو دعوة للتركيز على الداخل قبل الانشغال بالخارج، وعلى الشراكة الوطنية قبل التحالفات الإقليمية، وعلى إعادة بناء الدولة السورية قبل الدخول في تسويات قسرية.

فقط على أرضية وطنية متماسكة يمكن لسوريا أن تفاوض من موقع قوة، وأن تسعى لتسويات تحفظ سيادتها ووحدتها، بدل أن تكون مجرد ورقة في يد الآخرين، وبالتالي فإن الامتناع ليس مجرد موقف سياسي، بل هو شرط البقاء نفسه.

مقالات متعلقة

  1. على من تقرأ مزاميرك يا داوود
  2. الأسد وسياسة "التطنيش" الاستراتيجي
  3. حول قانون مناهضة التطبيع مع نظام الأسد
  4. جبهة حرب واجبة في لاهاي

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي