عنب بلدي – كريستينا الشماس
يشهد العالم الفني تحولًا واضحًا في السنوات الأخيرة، مع دخول الذكاء الاصطناعي بقوة إلى مجالات الإبداع السمعي والبصري، فبعد أن اقتصر في البداية على التوليد الموسيقي أو تصحيح الصوت، بات اليوم حاضرًا في صناعة “الفيديو كليب”.
أصبح بإمكان الفنان أن يطرح عملًا بصريًا كاملًا من إنتاج الذكاء الاصطناعي، دون الحاجة إلى فريق تصوير أو مواقع إنتاج ضخمة.
هذا التحول شمل الساحة العربية أيضًا، ومن النماذج “نار عَ علم” لحسام جنيد، و”نركب هالسيارة” لـ”أبو ورد”، و”معنى العشق” لملحم زين، وهي فيديوهات تعتمد كليًا على تقنيات التوليد بالذكاء الاصطناعي، ما فتح نقاشًا واسعًا حول القيمة الفنية، والأصالة، ومستقبل الصورة الموسيقية في ظل هذا التوجه.
تغيرات الإنتاج البصري
لطالما شكّل “الفيديو كليب” جزءًا أساسيًا من هوية الأغنية، خصوصًا في فترة تسعينيات القرن الماضي وحتى العقد الأول من الألفية الجديدة، حين كانت الفضائيات تعد المصدر الرئيس للمشاهدة، وفي تلك المرحلة، كانت الأغنية التي تصور “فيديو كليب” تحصل على شهرة وانتشار، فيما تظل الأغاني التي لم تُصور أقل حظًا، بحسب ما قاله الناقد الفني شارل عبد العزيز، لعنب بلدي.
وأوضح أن المخرجين أنفسهم تحولوا حينها إلى نجوم، مثل يحيى سعادة وليلى كنعان وسعيد ونادين لبكي، وبلغت تكاليف بعض الإنتاجات مئات آلاف الدولارات، باعتبار “الكليب” كان يعد عنصرًا دعائيًا لا يقل أهمية عن الأغنية نفسها.
لكن المشهد تغيّر جذريًا، بحسب عبد العزيز، مع انتشار المنصات الرقمية وتراجع دور التلفزيون، إذ أصبحت التطبيقات الصوتية مثل “أنغامي” وغيره هي المصدر الرئيس لاستهلاك الموسيقا، فلم يعد المشاهد ينتظر عرض “الكليب” على شاشة، بل يكتفي بالاستماع، وهو ما دفع الفنانين إلى تخفيض ميزانياتهم الإنتاجية، والاكتفاء بما يُعرف بـ”كليبات بسيطة” ذات موقع تصوير واحد، كما فعلت نانسي عجرم في أعمالها الأخيرة، وهكذا تحول “الفيديو كليب” من تجربة بصرية غنية ومكلفة إلى منتج سريع ومنخفض التكاليف، يلبي متطلبات النشر على الإنترنت أكثر مما يخاطب حس الإبداع.
غياب رؤية فنية
رغم أن توظيف التقنيات البصرية في “الكليبات” ليس جديدًا، كما ذكر عبد العزيز، إذ استُخدمت مؤثرات “الجرافيكس” منذ التسعينيات، على سبيل المثال أغنية “على بالي” لنوال الزغبي، التي استخدمت فيها “جرافيكس” لتجسيد مشاهد خيالية تحت الماء، أو “تسهرني الليل عيونك” لراغب علامة، التي تضمنت مشاهد فئران راقصة بتقنيات “الأنيميشن”، فإن تلك الأعمال كانت تعتمد على جهد فني وتعاون مع مختصين، وكانت مكلفة جدًا مقارنة بما يُنتج اليوم “بضغطة زر” ومتاحة لأي شخص، بحسب تعبيره.
ويرى الناقد الفني شارل عبد العزيز، أن المشكلة ليست في استخدام الذكاء الاصطناعي بحد ذاته، بل في الاعتماد الكامل عليه دون وجود فكرة أو رؤية فنية تبرر حضوره، فهناك بعض الأعمال الحديثة مثل “كليب” حسام جنيد “نار عَ علم”، نرى فيها مشاهد غير مترابطة وغير مبررة، مجرد خلفيات مولّدة بلا معنى بصري أو سردي.
واعتبر عبد العزيز أن هذه المشاهد قللت من قيمة الصورة الفنية وشوهت هوية الفنان، لأن الجمهور لم يعد يرى فيه عملًا متكاملًا، بل مجرد استعراض لتقنيات الذكاء الاصطناعي.
ووصف تجارب الفنانين السابقة بدمج الواقع الافتراضي مع “الفيديو كليبات” بـ”الأذكى”، بطريقة يبقى الفنان في صورته الحقيقية، فيما تولّد الخلفيات أو التفاصيل المحيطة به بالذكاء الاصطناعي، وهو ما يمنح توازنًا بين الأصالة والتجديد.
ما سبب الإقبال
السبب الرئيس وراء هذا التوجه، وفقًا لعبد العزيز، هو التكلفة المنخفضة وسرعة الإنتاج، فالفيديو الذي كان يحتاج إلى فريق مكون من عشرات الأشخاص، ومواقع تصوير وسفر ومونتاج، يمكن اليوم إنجازه في يوم واحد، وربما بأيدٍ فردية.
الفنانون يعتقدون أنهم بذلك يواكبون العصر أو يصنعون “تريند”، لكن النتيجة في الغالب لا تلقى استحسان الجمهور، لأن الذكاء الاصطناعي صار مألوفًا ومتاحًا في كل مكان، ولم يعد يشكّل دهشة بصرية.
شارل عبد العزيز
ناقد فني
تهديد هوية الفنان
من وجهة نظر عبد العزيز، فإن الخطر الحقيقي لا يكمن فقط في ضعف الجودة البصرية، بل في تهديد هوية الفنان نفسه، معتبرًا أن الفنانين الكبار يمتلكون “إيميج” (صورة) تراكمت عبر سنوات من العمل، وهذه الصورة جزء من أرشيفهم وجاذبيتهم الجماهيرية.
“الفنان الذي يختار الاعتماد الكامل على الذكاء الاصطناعي يخاطر بأن يفقد أصالته، لأن الصورة المولّدة لا تعبّر عنه فعليًا، بل عن خوارزمية قابلة للتكرار”، قال عبد العزيز.
وأضاف أن الفنانين العالميين الكبار، رغم قدرتهم التقنية والمادية، لم يعتمدوا بعد على الذكاء الاصطناعي في أعمالهم الرسمية، بل يتركون استخدامه للحملات الترويجية أو الصفحات الخاصة بجمهورهم، حفاظًا على القيمة الفنية للصورة الموسيقية.
وحذر الناقد الفني، عبد العزيز، من أن هذا المسار قد يؤدي مستقبلًا إلى استبدال الفنانين أنفسهم بنماذج رقمية، فاليوم نستبدل فريق الإنتاج بذكاء اصطناعي، وغدًا يمكن أن نستبدل الفنان نفسه بـ”أفاتار” يغني بصوت مولّد وملامح محسّنة، وربما يجد الجمهور في ذلك ما يشبع فضوله الجمالي، بحسب عبد العزيز، معتبرًا أن الخطر الأكبر هو تحول الفن إلى منتج بلا روح، عندما تتساوى كل الأصوات والصور في عالم رقمي متشابه.
واختتم عبد العزيز حديثه بالتأكيد على أن الفن الحقيقي لا يُختزل في التقنية، بل في الإحساس والجهد والرؤية، فالذكاء الاصطناعي أداة مهمة، لكنه لا يمكن أن يحل محل الإنسان في التعبير عن المشاعر أو نقل التجربة.
وأشار إلى أن “الفيديو كليبات” القديمة التي صُورت بجهد وحس فني ما زالت تعيش في ذاكرة الناس حتى اليوم، بينما يصعب أن تترك الأعمال المولّدة بالذكاء الاصطناعي الأثر نفسه.