عنب بلدي – أمير حقوق
بين التصريحات الرسمية والوقائع الميدانية، لا يزال ملف المخدرات، وتحديدًا “الكبتاجون”، يشكّل واحدًا من أخطر التحديات الأمنية التي تواجه سوريا والمنطقة.
وتقول دمشق إنها تهدف إلى تفكيك شبكات التصنيع والتهريب، إلا أن الجغرافيا المعقدة، والتشابكات الإقليمية، والاقتصاد الموازي الذي نشأ بفعل الأزمة، كلها عوامل تجعل من هذا الملف أكثر تعقيدًا من أن يُحل بقرارات أحادية أو عمليات أمنية منعزلة.
وبينما تظهر الحكومة السورية إصرارًا على محاربة تجارة المخدرات من خلال تعزيز الإجراءات الأمنية، وتوسيع التعاون مع الدول المجاورة، تبقى هذه الظاهرة تحديًا مستمرًا لها على الصعيد الداخلي.
جهود سورية لتجفيف المنابع
منذ تسلم الإدارة الجديدة، أبدت استعدادها الفوري لمحاربة صناعة المخدرات وتجارتها، وبدا ذلك واضحًا من خلال عشرات العمليات التي تنفذها وزارة الداخلية السورية لضبط عمليات التهريب والصناعة، الأمر الذي بدأ يغير شكل وصورة الصناعة محليًا وعربيًا، ولكن هل انحسر وتراجع الملف؟ أم ما زال قائمًا بصورته المعتادة؟
يرى المحلل السياسي حسام طالب، أن سوريا دخلت مرحلة جديدة في التعامل مع ملف صناعة وتجارة المخدرات، مشيرًا إلى أن الحكومة تعمل بجهد واضح لتجفيف منابع التصنيع، وقد تمكنت بالفعل من تفكيك العديد من مصانع المخدرات ومصادرة كميات ضخمة من المواد.
وأكد طالب، خلال حديث إلى عنب بلدي، أن وتيرة تهريب المخدرات شهدت تراجعًا كبيرًا، معتبرًا أن “ما يُضبط اليوم عبر الحدود هو في معظمه من مخزونات قديمة، وليس نتيجة نشاط تصنيعي نشط كما في ذروة الأزمة”.
وقال إن المخدرات اليوم تُنتج وتُهرب من قبل عصابات “إجرامية”، لا من قبل الدولة كالسابق، ومن الطبيعي أن تواجهها الحكومة بكل الوسائل، فالمسألة لا تتعلق بتجميل الصورة، بل بأداء واجب أمني وأخلاقي، وهو ما يعكس إصرار الدولة السورية على إغلاق هذا الملف”.
ملف المخدرات في سوريا لم يُغلق، وإنما تغير شكله وأدواته، مع تطور أساليب التهريب وظهور لاعبين جدد بعد سقوط النظام السابق، بحسب ما قاله الخبير السياسي والأمني الأردني الدكتور عامر السبايلة.
هذه التجارة تحولت إلى اقتصاد بديل بعد العقوبات وتدهور الوضع الاقتصادي، وبالتالي هناك مستفيدون محليون وإقليميون يسعون لاستمرارها.
وأضاف السبايلة، لعنب بلدي، أنه لا يمكن توقع أن تنتهي عمليات التهريب بسقوط النظام أو تغيرات سياسية، لأنها باتت جزءًا من شبكة إجرامية دولية.
التعاون الدولي والخروج من عباءة “دولة الكبتاجون”
رغبة السلطة السورية في الخروج من عباءة “دولة الكبتاجون” واضحة منذ إعلان كانون الأول 2024، إلا أن التحديات لا تزال كبيرة، وفق الكاتب السياسي درويش خليفة.
ويرى خليفة، في حديث إلى عنب بلدي، أنه رغم انتهاء التصنيف، لا تزال الحدود السورية، خصوصًا مع لبنان والعراق، تشهد نشاطًا لميليشيات طائفية تسعى لاستعادة نشاطها في التهريب.
وقد تم الكشف مؤخرًا عن منشآت إنتاج جديدة في حمص والهرمل، مما يُظهر استمرار هذا الاقتصاد الخفي.
وأعلنت إدارتا مكافحة المخدرات في سوريا والأردن إحباط سبع محاولات تهريب لمواد مخدرة عبر الحدود المشتركة بين البلدين، في إطار تعاون أمني متواصل لمواجهة شبكات التهريب.
وذكرت وزارة الداخلية السورية، في بيان مشترك نشرته في 5 من تشرين الأول الحالي، أن العمليات الأمنية المشتركة بين الجانبين أسفرت عن ضبط نحو مليون حبة مخدرة كانت معدّة للتهريب والترويج، إلى جانب إلقاء القبض على عدد من المتورطين في تلك القضايا.
وأضاف البيان أن التعاون بين إدارتي مكافحة المخدرات في دمشق وعمان شمل تبادل المعلومات الاستخباراتية وتنسيق الجهود الميدانية، ما أدى إلى تفكيك شبكات إجرامية منظمة تنشط في تهريب المخدرات، وتشكل تهديدًا مباشرًا لأمن البلدين والمنطقة، وأن هذه العمليات تمثل نموذجًا للتعاون الأمني الثنائي في مواجهة ظاهرة تهريب المخدرات.
وكانت إدارة مكافحة المخدرات السورية والاستخبارات التركية نفذتا، في 2 من أيلول الماضي، عملية ضبط 500 كيلوغرام من المواد الأولية المخصصة لصناعة المخدرات وكمية كبيرة من حبوب “الكبتاجون” في منطقة يعفور بمحافظة ريف دمشق.
المحلل السياسي حسام طالب، اعتبر أن أي دولة غير قادرة على تحقيق أمن ذاتي بمعزل عن محيطها، مشيرًا إلى أن التعاون المشترك بين سوريا والدول المجاورة، وخاصة الأردن وتركيا، هو الطريق الفعلي لضبط الحدود ومنع التهريب.
وقال، “ضبط الحدود هو مسألة إقليمية بالغة الأهمية، تخدم الأمن السوري والأردني والتركي، وتنعكس إيجابًا على أمن المنطقة ككل، وسوريا اليوم لا تستثمر في الأزمات كما في الماضي، بل تحاول إنهاءها، وهذا التحول يجب أن يُقرأ جيدًا”.
إيجابي “لكن لا يكفي”
الخبير الأمني الدكتور عامر السبايلة شدد على أن التعاون الإقليمي، خصوصًا مع سوريا، يبقى ضروريًا في مواجهة هذه الظاهرة، قائلًا، “بغض النظر عن فعالية أو قدرة الطرف السوري، فإن التنسيق معه أفضل من غياب أي تعاون، كما كان الحال سابقًا حين كان يُتهم برعاية هذه الأنشطة”.
وقال، “رغم أن نتائج هذا التعاون لا تزال محدودة، فإن أي خطوة باتجاه التنسيق المشترك تبقى إيجابية، ويمكن أن تتحسن بمرور الوقت إذا توفرت الإرادة والقدرة”.
ويعتقد السبايلة أن كلما زادت قدرة الدولة السورية على تنفيذ عمليات أمنية فعالة، وتقديم معلومات دقيقة عن شبكات التهريب، أسهم ذلك في تعزيز صورتها دوليًا، خاصة في ظل تصاعد الضغوط الإقليمية والدولية حول هذا الملف.
وأكد أن ملف المخدرات قد يتحول إلى عنصر في تقييم شرعية وفعالية الدولة السورية في علاقاتها الخارجية، لا سيما مع الدول المجاورة مثل الأردن ولبنان.
وفي الوقت الذي تبدي فيه دول الجوار، وعلى رأسها الأردن وتركيا، استعدادًا لدعم جهود سوريا في ضبط الحدود، يرى الكاتب السياسي درويش خليفة، أن هذا “لا يكفي”، معتبرًا أن الخطر الحقيقي الذي يهدد هذه الدول من الداخل السوري، حيث تنطلق عمليات التهريب بأدوات متطورة وبدعم من شبكات منظمة.
وقال، “حتى الآن، لم نرَ جدية حقيقية من القوى الكبرى أو المنظمات الدولية في صياغة استراتيجية شاملة لمعالجة هذا النوع من الجريمة المنظمة، أو ضرب جذوره السياسية والاقتصادية، ما يعني أن المواجهة ستبقى غير متكافئة في المدى المنظور”.
لبنان: معابر خارج السيطرة ولاعبون جدد بعد الأزمة
الأمر مختلف من الأردن وتركيا إلى لبنان، إذ لا تزال الحدود السورية اللبنانية تشهد عمليات تهريب للمخدرات وسط انفلات أمني على المعابر غير الشرعية، مع غموض المتورطين والمستفيدين من عمليات التهريب هذه.
الخبير الأمني الأردني الدكتور عامر السبايلة، لفت إلى أن الحدود السورية- اللبنانية عاشت لسنوات طويلة على اقتصاد المخدرات، ويصعب ضبطها بسهولة، مشيرًا إلى أن “ظهور لاعبين جدد بعد الأزمة السورية، وتحوّل بعضهم إلى وكلاء لعمليات التهريب، فاقم من تعقيدات المشهد”، مضيفًا أن المواجهة مع العصابات لا تزال مفتوحة، خاصة مع تطور قدراتها وأساليبها.
ويرى أن لبنان مدعو للقيام بدور أكبر وأكثر فاعلية في مراقبة الحدود والتعاون مع الدول المعنية، رغم تفهم المجتمع الدولي للضغوط الداخلية والأولويات الأمنية والسياسية التي تعيشها البلاد، لكنه يؤكد في الوقت نفسه أن “إغلاق هذه الثغرات يتطلب تعاونًا إقليميًا حقيقيًا، وعمليات إجرائية ميدانية لا تقتصر على التصريحات السياسية”.
أما المحلل السياسي حسام طالب فيرى أنه فيما يتعلق بالحدود اللبنانية، فالوضع أكثر تعقيدًا، بسبب وجود ميليشيات مسلحة وعشائر مدعومة من “حزب الله”، تسيطر على عدد من المعابر غير الشرعية، وتقوم بأنشطة تهريب تشمل المخدرات والسلاح.
وكشف طالب أن سوريا طالبت مرارًا الجيش اللبناني بالانتشار الكامل على الحدود المشتركة، مؤكدًا أن “ضبط الحدود لا يمكن أن يتم من جانب واحد فقط، بل يحتاج إلى تعاون وتنسيق فعّال بين الطرفين، وإبعاد المسلحين عن خطوط التهريب”.
واختتم بالتشديد على أن “الجغرافيا المتداخلة، وخاصة في المناطق الجبلية، تُستخدم من قبل المهربين بفعالية، ما يجعل التعاون الأمني بين سوريا ولبنان ضرورة ملحّة لإنهاء هذه الشبكات الإجرامية”.
بين محاولات الدولة السورية لضبط الملف، والتحركات الأمنية في دول الجوار، يبقى ملف المخدرات في سوريا تحديًا مشتركًا يتجاوز الحدود والسياسة، ويتطلب تعاونًا إقليميًا صريحًا واستراتيجية دولية شاملة، تتعامل مع الجذور الاقتصادية والسياسية للظاهرة، لا مع نتائجها فقط، برأي الخبراء الثلاثة.