“السريان” في حلب.. عادات ولغات تتقاطع دون إلغاء

  • 2025/10/12
  • 7:50 م
مبنى كنيسة مار جرجس للسريان الأرثوذكس في حي السريان - 30 أيلول 2025 ( عنب بلدي)

مبنى كنيسة مار جرجس للسريان الأرثوذكس في حي السريان - 30 أيلول 2025 ( عنب بلدي)

enab_get_authors_shortcode

عنب بلدي – محمد ديب بظت

في قلب مدينة حلب، ينبض حي السريان كأحد أكثر الأحياء تنوعًا، حيث يتجاور السريان والعرب والأرمن والكرد في مشهد يعكس صورة مصغرة عن التعايش الأهلي الذي طالما ميّز المدينة.

الحي، الذي سمّي على اسم السريان الذين استقروا فيه منذ نحو قرن، تحول مع الزمن إلى فضاء مشترك يجتمع فيه الناس على اختلاف انتماءاتهم في تفاصيل الحياة اليومية، من الأسواق إلى المدارس، ومن الأعياد إلى المناسبات البسيطة.

دون تفرقة

جوانا كاشور، شابة سريانية من أبناء الحي، قالت لعنب بلدي، إن الحياة في حي السريان كانت دومًا قائمة على المشاركة والتعاون بين الجيران.

وأشارت إلى أن العلاقات الاجتماعية بين السكان لم تكن يومًا محكومة بالهوية القومية أو الدينية، بل بالعشرة والمودة، فالبيوت المتلاصقة والأزقة الضيقة خلقت بيئة يتقاسم فيها الأهالي تفاصيل حياتهم الصغيرة، من اللعب في الطفولة إلى الوقوف جنبًا إلى جنب في المناسبات والأزمات.

وأكد شكري غريبي، المعروف بين الأهالي باسم “أبو حنّا”، أن مفهوم التعايش في حي السريان كان جزءًا أصيلًا من التربية اليومية، فالأهالي اعتادوا الوقوف مع بعضهم في الأفراح والأحزان، دون تمييز أو تفرقة.

ويرى “أبو حنّا”، في حديث إلى عنب بلدي، أن العلاقات الاجتماعية لم تتأثر بتغيرات الزمن أو بالتحولات التي شهدتها المدينة خلال سنوات الحرب الماضية، لأن أساسها قائم على الاحترام والتكافل، لا على العرق أو الدين.

أما أدريانا شاهينان، وهي شابة أرمنية تبلغ من العمر 27 عامًا، فقالت، لعنب بلدي، إن المدرسة والكنيسة كان لهما دور مهم في ترسيخ قيم العيش المشترك بين أبناء الحي.

فبينما تعرّف الأطفال في صغرهم إلى لغاتهم وثقافاتهم المختلفة، تعلموا في الوقت ذاته كيف يعيشون إلى جانب بعضهم، يتبادلون التهاني في الأعياد، ويتعاونون في الأنشطة المدرسية والاجتماعية، وهو ما ترك أثرًا طويلًا في الذاكرة الجمعية للسكان.

غنى ثقافي

الأسواق والمناسبات الاجتماعية شكلت دائمًا نقاط التقاء بين الجميع، فالحياة في حي السريان تسير بإيقاع واحد يجمع مختلف المكونات في نسيج اجتماعي متداخل، كما قال علي سيدو، وهو من المكوّن الكردي في الحي.

وأضاف علي، لعنب بلدي، أن هذا التنوع لم يكن يومًا مصدر خلاف، بل شكّل حالة من الغنى الثقافي والإنساني، إذ يتبادل الناس عاداتهم وتقاليدهم ويشاركون بعضهم في المناسبات وكأنهم أبناء عائلة واحدة.

أكرم زيتون، وهو من المكوّن العربي في الحي، قال إن الألفة المتبادلة جعلت الجميع يشعرون بالانتماء إلى المكان نفسه، بغض النظر عن أصولهم، فالأعراس والمناسبات الدينية والاجتماعية كانت دائمًا تجمع السكان، ويحرص الجميع على المشاركة فيها، في مشهد يعبر عن عمق العلاقات الإنسانية التي تميز الحي حتى اليوم.

هذه التجارب المختلفة تعكس صورة متكاملة لحي السريان كمكان يختزن ذاكرة طويلة من التعايش، حيث لم يكن التنوع القومي والعرقي مصدرًا للخلاف، بل عنصر قوة أسهم في تعزيز السلم الأهلي داخل المجتمع الحلبي.

التنوع في الحي لم يكن مجرد تباين في الأصول، بل شكّل اندماجًا يوميًا بين الناس في أعمالهم وتفاصيلهم الصغيرة، ما خلق شعورًا جماعيًا بالأمان والانتماء.

تأسيس الحي

اليوم، ما زال حي السريان يحتفظ بروحه القديمة، رغم التغيرات العمرانية والتحولات التي شهدتها المدينة.

تأسس حي السريان، وفقًا للمصادر التاريخية، بعد نزوح آلاف السريان من مدينة الرها (أورفا) في تركيا، هربًا من المذابح التي تعرضوا لها والمعروفة بمجزرة “سيفو”.

وأشار الباحث مارك خربوطلي توماس، في بحث يتناول تلك الحقبة التاريخية، إلى أن تأسيس الحي كان في عام 1924، واستقر النازحون في المنطقة التي سمّيت نسبة إليهم.

ترك السريان بصمتهم الثقافية والدينية الواضحة في المكان، فبنوا الكنائس والمدارس والمؤسسات الاجتماعية، التي ساعدت في الحفاظ على هويتهم، والانفتاح على بقية مكونات المدينة.

لاحقًا، استقر في الحي عرب قدموا من أحياء أخرى بغرض التجارة والعمل، وأرمن نزحوا إلى حلب في فترات متقاربة من التاريخ، ثم الكرد الذين أضافوا بعدًا ثقافيًا ولغويًا جديدًا.

ومع مرور السنوات، أصبح الحي مثالًا حيًا على التداخل الاجتماعي في حلب، حيث تتقاطع العادات واللغات في نسيج واحد دون أن تلغي إحداها الأخرى.

وما زال حي السريان شاهدًا على قدرة المجتمع الحلبي على الحفاظ على نسيجه الإنساني، رغم الحرب والتغيرات الاجتماعية والسياسية، فالبيوت القديمة والكنائس والمحال الصغيرة تروي حكاية مكان استطاع أن يحافظ على تنوعه، وأن يقدم نموذجًا نادرًا في المدينة عن معنى السلم الأهلي الحقيقي، حيث يصبح التنوع مصدر غنى لا تهديد، والتعاون هو اللغة المشتركة التي تجمع الجميع.

مقالات متعلقة

  1. الصابون الحلبي.. حرفة تتداخل مع عادات وذاكرة حلب
  2. الآشوريون في سوريا.. أقلية عرقية تقاوم فيضان الحرب
  3. تستمر 20 يومًا.. مجلس حلب يبدأ صيانة إشارات المرور
  4. حلب.. هدوء في المدينة وخروقات في الشرق

مجتمع

المزيد من مجتمع