عنب بلدي
لعبت باريس منذ سقوط نظام الأسد دورًا في الشأن السوري، من خلال توسيع هوامش نفوذها سياسيًا واقتصاديًا، وزيادة التنسيق في العديد من الملفات، إذ تُشير تقارير صحفية إلى أن فرنسا باتت تأخذ دورًا فاعلًا تجاوز ملف حماية الأقليات.
وفتحت باريس أبوابها للمسؤولين الكرد كأول دولة أوروبية داعمة لـ”الإدارة الذاتية” و”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، واحتضنت العديد من اللقاءات مع المسؤولين الكرد خلال فترة الرئيس الفرنسي السابق، فرانسوا هولاند، وصولًا للوقت الحالي في عهد الرئيس الحالي، إيمانويل ماكرون.
الدور الفرنسي، وفق تقارير، أرخى بثقله على ملف الجنوب السوري بعد الأحداث التي شهدتها السويداء، في تموز الماضي، وفتح المجال لوزير الخارجية، أسعد الشيباني، للتواجد في باريس والتواصل مع الجانب الإسرائيلي، وعليه باتت باريس تلعب دورًا بمناطق شمال شرقي سوريا، وفي الجنوب، وسط أحاديث عن دور وصف بـ”الخفي” في الساحل السوري.
يرى مدير “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات” في باريس، سلام الكواكبي، في حديث إلى عنب بلدي، أن من الصعب الحديث عن دور فرنسي فعّال في سوريا في ظل هيمنة الدور الأمريكي وملحقاته على المشهد، مستبعدًا أن يكون لفرنسا دور خفي في الساحل السوري.
وأضاف الكواكبي أنه لا يوجد أي تنافس، لأن باريس تعرف حدودها وضآلة قدرتها على التأثير في الواقع السوري اليوم، كما تحاول أن تكون إيجابية مع الحكم الجديد في دمشق، وهذا ما ترجمته دعواتها للرئيس أحمد الشرع ووزير خارجيته إلى العاصمة باريس، ومن المنتظر أن تقابل دمشق ذلك بإيجابية مماثلة من خلال اتخاذ خطوات فعلية في القضايا التي قد تُستخدم كورقة ضغط ضدها.
وأشار الكواكبي إلى أن عدم قدرة فرنسا على التأثير لا يُلغي إرث علاقاتها التاريخية والثقافية والاجتماعية في سوريا، وكذلك طموحاتها السياسية والاقتصادية، وأنه على أي قيادة سورية أن تكون حذرة في صدّها، بل أن تستفيد منها على المستوى الاقتصادي والقانوني والإداري، خاصة أن النظامين الإداريين والقانونيين في البلدين متشابهان، ويمكن للجانب السوري الاستفادة من خبرات الفرنسيين.
وبحسب الكواكبي، فإنه وبالرغم من حالة الضياع السياسي الداخلي التي تعيشها فرنسا، فإن سياستها الخارجية لا تزال تستند إلى المبادئ ذاتها التي أرساها الجنرال ديغول، مع تغييرات طفيفة، وعلى من يتعامل معها أن يفهم ذلك التاريخ ومقتضيات سياسة هذا البلد.
على ماذا تركز باريس
يرتكز الاهتمام الفرنسي في سوريا على قضيتين أساسيتين، حماية حقوق الأقليات وحقوق الإنسان، بحسب الكواكبي.
ولفت مدير “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات” في باريس، إلى أن فرنسا لا تشتكي من اللاجئين السوريين بقدر ما تفعل ألمانيا، نظرًا إلى قلة أعدادهم، كما أنها لا تبني علاقتها مع دمشق على أساس ملف المواطنين الفرنسيين المنتمين إلى تنظيم “الدولة” والموجودين في معتقلات “قسد”، لقلة أعدادهم أيضًا، إذ قُتل معظمهم، وتبقى أعداد مرتفعة نسبيًا من أطفالهم ونسائهم.
إن فرنسا تهتم إلى حد كبير بملف إعادة الإعمار لتأخذ حصتها من “الكعكة السورية”، حالها حال كثير من الدول، وفق الكواكبي، كما أن لديها بُعدًا آخر غير مرتبط بمصالحها المباشرة، وهو قضية الأقليات وحمايتهم ودمجهم في المشهد السياسي لضمان المساواة والتوازن بين كل المواطنين السوريين من مختلف المكونات.
وهذا ما وعدت به السلطة الجديدة في سوريا، إلا أن بعض الممارسات اليومية تدل على خلاف ذلك، الأمر الذي يقلق المراقبين الغربيين، وخاصة الفرنسيين منهم.
كما أن غياب المحاسبة عن الجرائم والانتهاكات التي جرت في الساحل السوري وفي السويداء، وعدم مساءلة مرتكبيها، يزيد من شكوك هذه الأوساط حول جدّية أي حديث عن إصلاح أو عدالة انتقالية، ويُضعف الثقة بقدرة السلطة الجديدة على بناء دولة قانون ومواطنة.
إضافة إلى أن التعرض للإنسان بغير وجه حق، بعيدًا عن مؤسسات القانون، بغض النظر عن الانتماءات على اختلافها، يُثير قلق جميع مراقبي حقوق الإنسان في الملف السوري، بحسب الكواكبي.
تراجع بدفع أمريكي
المحامي في محكمة باريس ومحكمة الجنايات الدولية، ومستشار مؤسس حزب “الجبهة الوطنية الفرنسية”، إيلي حاتم، قال لعنب بلدي، إن من الصعب لفرنسا لعب دور في سوريا حاليًا، على الرغم من محاولاتها في هذا المجال، حتى ولو قام الرئيس ماكرون بمبادرات بهذا الشأن.
وعزا حاتم السبب إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية تقوم منذ عقود بإبعادها من الشرق الأوسط، بل من كل العالم التي كانت تلعب دورًا فيه، لا سيما في القارة الإفريقية.
وأشار حاتم إلى أنه في عهد الرئيس ماكرون الأول، حاول الرئيس الفرنسي إعادة إحياء الدور الفرنسي على الساحة الدولية، امتدادًا إلى سياسة الجنرال ديغول مؤسس الجمهورية الخامسة التي كانت تعرف عنه “السياسة العربية لفرنسا”، ولكنه حورب من الولايات المتحدة وحلفائها.
ولفت حاتم إلى تراجع الدور والتأثير الفرنسي في لبنان، مبينًا أنها بالطريقة ذاتها فقدت فرنسا تأثيرها في سوريا. وتأتي هذه الضغوطات سواء من الداخل (أي في الدول التي تربطها علاقة تاريخية أو طبيعية مع فرنسا، مثل ما حصل في لبنان) أو بوساطة قوى إقليمية تدفع من قبل العالم “الأنجلوسكسوني” للحد من هذا الدور.
بالنسبة للسوريين الكرد، أوضح حاتم أن فرنسا كانت داعمة لهم خاصة في محاربة الإسلام السياسي، سواء “القاعدة” أو تنظيم “الدولة”. وكان الاقتناع العام بأن هذه المنظمات عفوية وبأنها تشكل خطرًا ليس على سوريا والمنطقة ولا سيما العراق، بل أيضًا على أوروبا بما في ذلك فرنسا التي كانت ضحية عمليات إرهابية حصلت على أراضيها من مجموعات تنتسب خاصة إلى تنظيم “الدولة” وحتى من “هيئة تحرير الشام”، بحسب قوله.
وأردف حاتم أن الصورة اليوم اتضحت، فكلتا المنظمتين ليست سوى ابتكار من الأجهزة الأمريكية والصهيونية لخلق البلبلة والفتنة في الشرق الأوسط، وإثارة الرأي العام في أوروبا ضد المسلمين وخاصة المسلمين العرب، على حد قوله.
وأضاف أن كل منفذي العمليات الإرهابية في فرنسا هم من أصول عربية مغاربية، يحملون أسماء عربية، بينما هناك المئات من الفرنسيين الذين لديهم أسماء فرنسية التحقوا بتنظيم “الدولة” وشاركوا بشراسة في المجازر لا سيما في سوريا، ولكنهم أعفوا من تنفيذ عمليات إرهابية في فرنسا.
كما أن “الموساد” الإسرائيلي والأجهزة الأمريكية استعملت أفرادًا في ظل دعاية موسعة لزج بعضهم في منظمات الإسلام السياسي الذي هو موالٍ لليهودية السياسية، بحسب ذكر حاتم.
ولمساهمة الكرد في ردع هذا التغلغل من خلال محاربتهم تنظيم “الدولة” و”جبهة النصرة”، وبعد حصول الأجهزة الفرنسية على هذه المعلومات، عوّلت فرنسا على دور “قسد” وساندتها، لكن الصورة أضحت معقدة أكثر، خاصة بعد 8 من كانون الأول 2024.
وأكد حاتم أن الدور الفرنسي اليوم يتراجع، خاصة مع تدهور الأوضاع الاقتصادية والسياسية في فرنسا. لهذا السبب، من الصعب أن تركز على السياسة الخارجية بينما تعاني من خطر الإفلاس، إضافة إلى مشكلات سياسية داخلية ربما تدفع البلاد إلى حرب أهلية.
وعلى الرغم من إرادة الرئيس ماكرون الاعتماد على عمله في السياسة الخارجية، معطيًا رئيس الحكومة والحكومة نفسها الدور في العمل كسلطة تنفيذية داخليًا، فهو اليوم مع الأزمة الحالية لا يعلم إذ كان سيبقى في الحكم أو يستقيل أو يحل البرلمان، بسبب تعقيد الأحوال السياسية مع حكومة شُكّلت واستقالت بعد أقل من 14 ساعة.
بانتظار التحولات في باريس
يجب انتظار ما سيحدث في الداخل الفرنسي وأن تثبت المؤسسات الفرنسية نفسها بحكومة قوية مع قادة أقوياء، يخرجون من سيطرة الاتحاد الأوروبي الذي تطغى عليه الولايات المتحدة الأمريكية، على مثال الجنرال ديغول وفرنسوا ميتران وحتى جاك شيراك، لإعادة استقلالية السياسة الخارجية الفرنسية لخدمة المصالح المشتركة بين فرنسا والدول التي لديها علاقات طبيعية وتاريخية معها، وفق المحامي في محكمة باريس ومحكمة الجنايات الدولية، ومستشار مؤسس حزب “الجبهة الوطنية الفرنسية”، إيلي حاتم.
وقال إن وتيرة التحليلات السياسية عن الدور الفرنسي في سوريا، ازدادت بعد ظهور مناف طلاس من باريس، واعتبار أن ثمة ترتيبات دولية تُحضر وبديلًا محتملًا، أو شريكًا سياسيًا، علمًا أنها ليست المرة الأولى التي يروّج فيها اسم العميد المنشق عن نظام الأسد، والمثير للجدل بسبب قربه وعائلته من نظام الأسد.
ظهور طلاس، أرجعه محللون إلى أنه جاء من بوابة الحرص الفرنسي على تقديم رموز مقبولة نسبيًا بين جميع الأطراف لتلعب دورًا استشاريًا أو محوريًا إذا اقتضى التوافق، وإن كانت لا تفرضه بشكل رسمي كقائد بديل، لكنها توفر له منبرًا للنقاش حول إصلاح المؤسسات السورية والحوكمة، وتعطيه هامشًا واتصالًا محميًا في الدوائر الغربية، مما يرسل رسالة أنها منفتحة على سيناريوهات تتجاوز التحالفات التقليدية.
فيما يرى آخرون، أن ذلك يأتي ضمن النهج الفرنسي لإبقاء المنابر مفتوحة أمام شخصيات سورية مختلفة، دون أن يعني ذلك وجود خطة فرنسية واضحة أو رهانات استراتيجية على طلاس، وعليه يبقى الدور الفرنسي تكميليًا، يتحرك في هوامش محددة ويُمنح غطاء سياسيًا محدودًا، دون أن يتجاوز حدود النفوذ الأمريكي في سوريا بخصوص أي مسار.