علي عيد
خلال الأسبوع الماضي، دفعني شيطاني لتصفح إحدى الصحف الرسمية السورية، ولولا أنني تابعت المرور على ما تنشره بدافع تحليل المحتوى، لكنت توقفت بعد قراءة العناوين والمقدمات.
هدفي ليس التلميح فيما يخص اسم الصحيفة، على اعتبار أنني لاحظت نمطًا واحدًا في أكثر من وسيلة إعلامية، دون تعميم، ويتجاوز الأمر عندي ذلك إلى قراءة في فهم من يدير وسائل الإعلام تلك لما يبحث عنه الجمهور، وكذلك ما إذا كانت سياسات التحرير واعية لأهمية خطورة المرحلة، وهذا يقود إلى سؤال محرج مفاده، هل الهدف أن نقول إننا ندير منظومة إعلام رسمية بنجاح، أم أننا ندير محتوى يفي بمتطلبات بلد مدمّر ومنقسم سياسيًا، وتتلاعب به هواجس داخلية وتطلعات نفوذ خارجي.
من حيث المبدأ، كل قرش يتم صرفه بلا خطة راسخة هو هدر مركّب، لا تتوقف خسائره عند المال، بل ستدفع البلاد ثمنه بعد وقت.
والخسارة الأفدح، انصراف الجمهور، حتى وإن كان يعتقد من يدير وسائل الإعلام تلك أنه يربح جمهورًا يراهن عليه بالأصل.
غرف الأخبار في وسائل إعلام كبيرة، حافظت على حضور وتأثير نسبي حتى في بيئات الاستقطاب، لأنها تدار بخطة واضحة من كوادر متمرسة تفهم اللغة الرقمية دون أن تُضحي بالمعايير التحريرية، ولأنها تبني جسور ثقة مع الجمهور، حتى وإن طالها الانتقاد، فالجمهور لا يعود للإعلام، بل يعود للثقة.
وتظهر الاستطلاعات الحديثة مثل مؤشر إدلمان للثقة (Edelman Trust Barometer 2024)، أن الجمهور لا يفقد الثقة بالإعلام كمفهوم، بل بالإدارة التي لا تعرف كيف تحفظ توازنه.
أكثر من 60% من المستطلعين عالميًا “يشكّون في حياد المؤسسات الإعلامية”، ويبحثون عن وسائل إعلام تغطّي هذا الاحتياج عبر “منصات أكثر مهنية”، بمعنى أن الثقة تغيّر عنوانها، والمؤسسات التي لا تمتلك خبرة كافية لإدراك هذا التحول تفقد مكانها حتى وإن استمرت في العمل، وهذا ما قصدت به الهدر والخسارة المركبة.
ويقاس أثر الإعلام في الأزمات، بقدرته على تهدئة أو توجيه النقاش العام، لا بعدد مشاهداته، وهذا مؤشر آخر شديد الخطورة، يجب أن يتنبه له المديرون وحتى صانعو السياسات في الدول الهشّة والساعون إلى جسّر الهوّة بين المجتمعات المحلية.
دعوني أسوق لكم مثالين:
تشير دراسة حول “راديو الكراهية” (RTLM) في رواندا أن القرى الأكثر تعرضًا للبث التحريضي خلال أحداث عام 1994، كانت فيها المشاركة في العنف أعلى بـ10 إلى 14%، أما القرى الأقل تعرضًا، أو تلك التي كانت فيها وسائل إعلام مستقلة أو مهنية فاعلة، فشهدت انخفاضًا في التحريض بمستويات تقارب 20–30% ما يشير إلى أثر “الإعلام المهني” في كبح التحريض، وفق الدراسة التي حملت عنوان “الدعاية والصراع: أدلة من الإبادة الجماعية في رواندا”، ونشرت في المجلة الفصلية للاقتصاد (The Quarterly Journal of Economics).
أما في يوغوسلافيا السابقة، فتُظهر التقييمات أن وسائل الإعلام التي خضعت لإصلاح مهني بعد الحرب، تمكنت من خفض محتوى الكراهية بنحو الثلث تقريبًا مقارنة بما قبل التدخل.
إذًا، ماذا يعني أن تقدم خطابًا لا يتسق مع الهدف، بقدر اعتقادك بأنه يحقق أهداف السلطة، في حين أن السلطة ذاتها تعاني لتحقيق الاستقرار، ومحاربة الكراهية؟
وماذا يعني أن تركز عناوينك ومحتواك على رواية “خالية الدسم”، حسب اعتقادك، هربًا من المسؤولية، أو جراء ضعف الخبرة في مواجهة تحديات لا بدّ منها، حتى يشعر الجميع بأن هذا إعلامهم، ثم يتأثروا وتتغير توجهاتهم؟
دائمًا، وخصوصًا عند الأزمات السياسية الاجتماعية المركبة، لا يكون الإعلام مجرد وسيط ناقل للأخبار، بل أداة لإدارة الوعي العام وتوجيهه، وإدارة وسيلة إعلامية في بيئة منقسمة سياسيًا تتطلب معرفة بالمهنة وحدودها، والسياسة ومتطلباتها.
إذا لم تتوفر عناصر المهنية والخبرة والحس التحريري والوعي السياسي، يصبح الإعلام مثل “طبخة بحص”، تؤدي مصلحة تتعلق بإثبات أنها موجودة لا بدورها، وشيئًا فشيئًا، مع نقص الخبرة وأخطاء المضمون والابتعاد عن الهدف، يتحول الإعلام إلى طرف في النزاع بدل أن يكون مساحة للنقاش العام تخفف الضغط وتشعر الجمهور بأنه ممثل فيها.
ليس المطلوب من الإعلام في سوريا أو أي دولة في العالم أن يتحول إلى منصة سياسية جديدة، لأن هناك من يقوم بهذا الدور، وعندما يفعل الإعلام ذلك، بوعي أو دون وعي، يفقد دوره كوسيط موضوعي بين الدولة والمجتمع، ويتحول إلى منصة سياسية جديدة، وعندها لن يتجاوز عدد جمهوره أولئك الذي يكتبون فيه إضافة إلى عدد من المسؤولين الذين ينظرون في مرآتهم فقط.
ما سبق، هو الظرف المناسب لإنتاج واستمرار الخطاب المتوتر والانقسام، وذهاب الإعلام بعيدًا عن دوره الوقائي في تهدئة النزاعات، أو شرح السياقات وتفسير طبيعة الأحداث دون أدلجتها أو خلطها بتوجه سياسي.
بالعودة إلى ما قرأته في تلك الصحيفة الرسمية، أجدني مضطرًا للقول، هذه مجلة حائط.. وللحديث بقية.