عنب بلدي – محمد ديب بظت
تعاني صناعة النسيج في حلب، التي تشكل جزءًا مهمًا من الاقتصاد المحلي، واقعًا صعبًا منذ سنوات، إذ تحاول المعامل الصمود وسط ظروف متغيرة وأسواق متقلبة، بينما آلاف العمال يعتمدون عليها كمصدر رزق أساسي.
القطاع يواجه تحديات يومية متعددة، من بينها المنافسة الأجنبية التي تضغط على الأسعار، خاصة مع تكاليف الإنتاج المرتفعة التي تشمل المواد الخام واللوجستيات.
ارتفاع التكاليف التشغيلية ومن بينها الكهرباء، وتأخر وصول المواد الخام أحيانًا، يجعل المعامل أمام مفاضلة يومية بين الاستمرار في الإنتاج أو تقليصه، وكل خيار له أثر مباشر على الصناعة المحلية وعلى العمال وحياة عائلاتهم.
“المحلي” أعلى تكلفة من دول أخرى
تواجه صناعة النسيج جملة من الصعوبات التي تهدد قدرتها على الاستمرار والمنافسة في الأسواق المحلية والخارجية، أبرزها ارتفاع تكاليف الطاقة وضعف القدرة على تأمين حواملها، وفق ما ذكره الصناعي عبد المنعم ريحاوي، لعنب بلدي.
وأوضح ريحاوي أن مشكلات الطاقة تشمل الكهرباء والمازوت والفيول، وهي عناصر أساسية للإنتاج، إلا أن أسعارها المرتفعة جعلت تكلفة المنتج المحلي أعلى بكثير من مثيلاتها في دول أخرى، على رأسها مصر.
وأضاف أن الصناعيين في مجال النسيج يعتمدون في مقارنتهم التنافسية على السوق المصرية باعتبارها الأقرب من حيث نوعية الإنتاج، في حين لا تعد السوق التركية معيارًا واقعيًا للمقارنة “نظرًا إلى تفوقها الكبير في الانطلاقات الصناعية واتساع أسواقها الأمريكية والأوروبية”.
وبيّن ريحاوي أن الصناعي السوري اليوم يعمل ضمن “صندوق مغلق”، إذ لم تعد الأسواق الخارجية مفتوحة أمامه، فيما استحوذ المنتج المصري على الأسواق الخليجية والإفريقية التي كانت سابقًا مجالًا لتصريف الإنتاج السوري.
وبحسب تقديره، فإن الفارق في تكلفة الطاقة بين سوريا ومصر كبير جدًا، وهو ما انعكس سلبًا على تنافسية المنتج المحلي في السوق الداخلية أيضًا، التي خسرها الصناعيون لمصلحة البضائع المستوردة.
وأشار إلى أن هذه المشكلات نوقشت مع وزارة الصناعة أكثر من مرة دون نتائج ملموسة، ما جعل الكثير من أصحاب المعامل “ينسون السوق المحلية والخارجية معًا”، على حد تعبيره.
وفي حديثه عن الأسواق المتاحة، أوضح أن القطاع لم يعد قادرًا على الاعتماد لا على السوق المحلية ولا الخارجية، رغم التحسن الطفيف في حركة الإنفاق الداخلي بعد زيادة الرواتب مؤخرًا، معتبرًا أن “الوضع الحالي مقبول نسبيًا، لكنه لا يمثل رؤية اقتصادية جديدة”.
كما لفت ريحاوي إلى أن الأسواق الإقليمية التي كانت تُعتبر منفذًا رئيسًا للمنتج السوري، مثل الأردن والعراق ولبنان وتركيا، مغلقة حاليًا أمام التصدير، بينما تواجه الأسواق الخليجية صعوبات في عمليات الشحن والتحويلات المالية عبر نظام “السويفت”، ما جعل العملية التصديرية شبه متوقفة.
وفيما يتعلق بالعمالة، اعتبر ريحاوي أن العمالة في سوريا لا تزال منخفضة التكلفة مقارنة بالدول الأخرى، إلا أن ارتفاع أسعار المحروقات أفقد هذه الميزة جدواها الاقتصادية.
وأوضح أن العامل في عام 2010 كان يتقاضى نحو 70 دولارًا أسبوعيًا، وهو مبلغ كان كافيًا لتغطية احتياجاته، بينما لم يعد هذا الدخل اليوم يفي بالحد الأدنى من متطلبات المعيشة، بسبب الغلاء العالمي وارتفاع الأسعار داخل البلاد، بالإضافة إلى تكاليف إضافية مثل أجور “الأمبيرات”.
وأضاف أن هذه الظروف أدت إلى عزوف بعض العمال عن العمل في المصانع، في محاولة للبحث عن أعمال أخرى، “لكنهم في النهاية لا يجدون بدائل حقيقية”.
أما بالنسبة لتطوير خطوط الإنتاج وإدخال التقنيات الحديثة، فيرى ريحاوي أن ذلك مرتبط بحجم الطلب في السوق، “فالمعمل، سواء كان جديدًا أو قديمًا، لا يمكنه التطوير أو التوسع ما لم يكن هناك طلب فعلي على الإنتاج”.
صعوبات في الصناعات المرتبطة
لا تقتصر آثار الصعوبات التي تواجه صناعة النسيج في حلب على هذا القطاع وحده، إذ تمتد لتشمل سلسلة طويلة من الصناعات المرتبطة به بشكل مباشر، مثل صناعة الخيوط والأقمشة، والمصابغ، ومعامل معالجة الأقمشة.
هذه الحلقات المتكاملة تشكل معًا العمود الفقري للصناعة النسيجية في المدينة، وأي خلل في إحداها ينعكس تلقائيًا على بقية المراحل.
ومع ارتفاع تكاليف التشغيل في كل حلقة من هذه الحلقات، تتراجع فرص استمرارية العمل والإنتاج، ما يجعل القطاع النسيجي برمته أمام تحدٍّ متواصل للبقاء في دائرة النشاط الاقتصادي.
تعد مصابغ الأقمشة ومعامل معالجة النسيج جزءًا أساسيًا في سلسلة الإنتاج النسيجي بحلب، إذ تمثل حلقة وسطى تربط بين الصناعات التي تسبقها وتلك التي تليها في مراحل التصنيع، وفق ما ذكره الصناعي محمود شيخ الكار، في حديث إلى عنب بلدي.
وأوضح شيخ الكار أن طبيعة عمل المصابغ “مكملة لباقي الصناعات”، وأنها تشكل “العقدة التي تكتمل فيها صناعة النسيج”، إذ تتضمن هذه المرحلة النسبة الأعلى من قيمة المنتج النهائي، ما يجعل أي خلل أو ارتفاع في تكاليفها ينعكس سلبًا على قدرة المنتج السوري على المنافسة في السوقين المحلية والخارجية.
وأضاف أن حوامل الطاقة والمواد الأولية الداخلة في الإنتاج، يجب أن تكون منسجمة مع البنود الجمركية التي تنظم عملية الاستيراد والتصدير.
واعتبر أنه “إذا كان هناك تحرر في البنود الجمركية، فيجب أن يقابله تحرر في أسعار الطاقة والمواد الأولية، والعكس بالعكس”.
ودعا إلى “إعادة ضبط التوازن” بين الضرائب المفروضة على الطاقة والمواد الأولية من جهة، والسياسات الجمركية التي يفترض أن تدعم مبدأ الاقتصاد الحر الذي أعلنت عنه وزارتا الاقتصاد والصناعة.
عمل عشوائي
وصف شيخ الكار واقع الصناعة النسيجية في حلب بأنه “إنتاج موجود، لكن دون تواترية مستمرة”، موضحًا أن الإنتاج يسير وفق مخطط بياني عشوائي يتأرجح بين الصعود والهبوط، “فلا يوجد استقرار في حجم العمل أو الطلب، رغم توفر المصانع والمعامل”.
وأشار إلى أنه اضطر إلى خفض عدد العمال لعدم قدرته على الوصول إلى حجم الإنتاج المطلوب، كما لم يتمكن من زيادة الرواتب الحالية بسبب التنافسية العالية في السوق.
واعتبر أن من الضروري أن “تحصل اليد العاملة على أجرها العادل وألا تبقى رخيصة”، لكن لتحقيق ذلك “يجب تخفيض التكاليف الأخرى المفروضة على الصناعيين، حتى يتمكنوا من رفع الأجور دون أن يتكبدوا خسائر”.
وبيّن شيخ الكار أن القطاع النسيجي بمختلف فروعه يعمل اليوم بطاقة تتراوح بين 40 و60% فقط، موضحًا أن الوصول إلى مستوى إنتاج 40% يعني الدخول في الخسارة، بينما يشكّل بلوغ 60% من الطاقة الإنتاجية “هامش ربح محدودًا بالكاد يسمح بالاستمرار”.
لا إحصائية دقيقة
لا توجد إحصائية لمعامل النسيج العاملة والمتوقفة، ما يجعل الأرقام غير دقيقة بنسبة 100%، وفق ما قاله عضو مجلس إدارة غرفة صناعة حلب، والصناعي في مجال النسيج محمد زيزان، لعنب بلدي.
وأضاف أن ثلاثة أرباع معامل الصناعة النسيجية متوقفة حاليًا عن العمل بسبب دخول البضائع الأجنبية إلى السوق المحلية.
واطلعت عنب بلدي على التقرير السنوي لمجلس إدارة غرفة صناعة حلب لاجتماع الهيئة العامة السنوي لعام 2024، الذي انعقد في آب الماضي، والذي ذكر أن عدد منشآت قطاع الصناعات النسيجية المسجلين في الغرفة يبلغ 4670 منشأة وشركة، بما يشكل 45% من إجمالي المسجلين.
في ظل الواقع الاقتصادي المتقلب، تبدو صناعة النسيج في حلب أمام اختبار حقيقي للاستمرار، فالمعامل التي كانت رمزًا لازدهار المدينة الصناعية، باتت اليوم تكافح للبقاء وسط تحديات الطاقة والتكاليف والمنافسة الأجنبية.
ورغم تمسك الصناعيين بالأمل في إعادة تنشيط هذا القطاع الذي يشكل شريانًا أساسيًا للاقتصاد المحلي، فإن مستقبل الصناعة النسيجية يبقى مرتبطًا بمدى قدرة الجهات المعنية على إعادة ضبط التوازن بين التكلفة والإنتاج، وبين الحماية والدعم، وبين السوق المحلية والانفتاح الخارجي.