لنكف عن المتاجرة بمطلب تسليم الأسد

  • 2025/10/19
  • 4:47 م
غزوان قرنفل

غزوان قرنفل

enab_get_authors_shortcode

غزوان قرنفل

في خضم المشهد السوري المتشظي، لا تزال قضية المساءلة والمحاسبة عن الجرائم المرتكبة بحق الشعب السوري تشكّل بندًا مركزيًا في أي حوار جاد حول العدالة الانتقالية، غير أن تحويل هذا المطلب النبيل إلى مادة للاستهلاك الإعلامي الرخيص، تحت شعارات جوفاء تطلقها السلطة السورية الحالية، قد أفرغته من مضمونه، بل وأساءت إليه أيّما إساءة.

ولعل أبرز أشكال هذا التسخيف ما نراه في تكرار المطالبات الدعائية بـ”تسليم الأسد” من قبل روسيا، وكأن الأمر مجرد بطاقة ضغط سياسية يمكن التلويح بها ثم طيّها عند اللزوم، حيث بات من الضروري الآن أكثر من أي وقت مضى  سحب مسألة “طلب تسليم الأسد” من التداول الإعلامي، لا لأنها فقدت مشروعيتها القانونية، بل لأن الترويج السطحي لها والمتاجرة بمشاعر الجمهور، أسهم في تحويلها إلى أداة بيد المطبّلين والمرقعين للسلطة الحالية، يتم استخدامها في سياق التسويق لتلك السلطة التي تحاول الإيحاء أنها لن تتنازل عن هذا المطلب الأخلاقي أو عن قضية المساءلة والمحاسبة عمومًا بدلالة أنها لم تُحِل أي متهم ممن تم القبض عليهم طوال الأشهر العشرة الماضية إلى أي محكمة.

السلطة السورية تعرف تمامًا أن روسيا التي وفرت ملاذًا آمنًا للأسد بعد أن حمته من السقوط لعقد كامل وأمعنت في استباحة حياة ومدن السوريين، لن تقدم على خطوة تسليم الأسد، ولن تلطخ سجلها الدولي بسابقة لم تفعلها حتى في حالات أقل تعقيدًا وأكثر وضوحًا من الناحية القانونية والسياسية، بل إنها لم تسلّم أي رئيس سابق لجأ إليها سواء لأسباب سياسية أو قانونية، وهي بالتالي ترى في تسليم الأسد خرقًا خطيرًا لتحالفاتها الدولية، واعترافًا ضمنيًا بمسؤولية حليفها (ومسؤوليتها معه) عن جرائم حرب كثيرة ارتكبت بحق السوريين، ما من شأنه أن يفتح أبوابًا من المساءلة الدولية حتى على صعيد القيادة الروسية ذاتها.

لذلك فإن تظاهر السلطات السورية بأنها ستطالب ولن تتنازل عن مطلب تسليم الأسد وبأن تسليمه مسألة ممكنة، أو أنها رهن الضغط أو التفاوض، هو عبث سياسي ومحاولة مضحكة لإعطاء انطباع لدى جمهورها أنها طرف “ملتزم بالمحاسبة”، بينما العمل جارٍ على قدم وساق في الواقع على شل يد العدالة.

وإذا كانت السلطة السورية الحالية صادقة حقًا في ما تطرحه من دعوات للمساءلة، وهو أمر مشكوك فيه بطبيعة الحال، فإن أمامها مسارًا قانونيًا أكثر جدية ومصداقية وهو الانضمام إلى نظام روما الأساسي المنشئ لمحكمة الجنايات الدولية والتصديق عليه ليكون جزءًا من الالتزامات القانونية الدولية للدولة السورية، ومن ثم منح تلك المحكمة صلاحية التحقيق والمحاسبة، حتى بأثر رجعي عن الجرائم المرتكبة قبل توقيع وتصديق الدولة السورية على الميثاق استنادًا إلى الفقرة الثالثة من المادة “12” من الميثاق، فهذه الخطوة وحدها الكفيلة بإعادة الاعتبار لمطلب العدالة لأنها ستكون دليلًا على نية حقيقية للالتزام بالعدالة الدولية، أما الاستمرار في لعبة الشعارات الإعلامية حول مطلب تسليم الأسد، فهو في حقيقته مجرد تكرار لمواقف فارغة تعبث بقيمة العدالة ومشروعية المساءلة، بل ويمكن القول إن هذا الخطاب بات يستخدم كأداة لتفريغ العدالة من مضمونها، إذ يضع الجمهور في حالة انتظار دائم لحل لن يأتي ويخلق وهمًا بأن العدالة تصنع بقرارات فوقية، لا عبر أدوات قانونية مؤسساتية، الأمر الذي يسهم بشكل غير مباشر في شرعنة غياب المحاسبة، حيث يتم تصويرها كأداة انتقامية لا كمسار قانوني وأخلاقي لإحقاق الحق وإنصاف الضحايا، وهذا ما يضعف مع الأسف من زخم مطالبات الضحايا- الناجين وذويهم الذين يُنظر إلى أصواتهم اليوم كمجرد أصداء في خطاب سلطوي، لا كصرخات حق تستحق الإنصات والدعم.

خلاصة القول، إذا أردنا فعلًا تأسيس مسار حقيقي للمساءلة والعدالة في سوريا، لا يكفي أن تُنشَأ هيئة وطنية للعدالة الانتقالية دون أن يتوفر لها من الدعم والمتابعة والاحتياجات ما يمكنها من النهوض بمسؤولياتها، وعلينا أن نكف عن هذه المتاجرة الرخيصة بمطلب “تسليم الأسد” كلما حصل تواصل أو اتصال سياسي أو دبلوماسي مع روسيا، بل أن نتوجه نحو خطوات عملية سواء على المستوى الوطني لجهة دعم هيئة العدالة الانتقالية الكسيحة لتنهض بعملها وإحالة جميع المتهمين بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ممن تم القبض عليهم ومن الفارين حتى للمحاكمات العلنية، وكذلك على المستوى الدولي انضمام سوريا إلى نظام روما الأساسي كما ذكرنا سابقًا، فذلك وحده كفيل بإعادة النقاش إلى سكّته الجدية ويمنح الضحايا أملًا حقيقيًا في أن يأتي يوم يُنظر فيه إلى جرائم الحرب بوصفها جرائم لا تسقط بالتقادم، ولا تُمحى بشعارات جوفاء، بل تعالَج بأدوات القانون والعدالة.

مقالات متعلقة

  1. المتاجرون في سوق البغاء السياسي
  2. خريطة طريق من أجل العدالة
  3. خطوة لأجل العدالة
  4. تسليم بشار الأسد يطغى على العلاقات بين دمشق وموسكو

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي