عنب بلدي – كريستينا الشماس
في زاوية ضيقة من ورشة صناعة الزجاج الدمشقي في باب شرقي بدمشق، يقف الحرفي محمد الحلاق (65 عامًا) أمام فرنه المتوهج، ينفخ في أنبوب معدني طويل، لتتحول الكتلة الشفافة أمامه إلى كوب أو مزهرية ملونة تعكس حرفية العامل وأصالة المهنة.
يواصل الحلاق عمله للحفاظ على مهنته من الاندثار، في ورشة يعمل فيها ثلاثة حرفيين من عائلته، رغم الظروف الاقتصادية الصعبة وتراجع الإقبال على المهنة.
يعود تاريخ حرفة نفخ الزجاج إلى أكثر من 2000 عام، إذ يُنسب ابتكارها إلى الفينيقيين الذين نقلوها إلى مدن البحر المتوسط، ومن بينها دمشق، حيث تطورت وأصبحت جزءًا من الصناعات التقليدية فيها.
منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو) أدرجت، في عام 2023، حرفة نفخ الزجاج التراثية كعنصر تراثي غير مادي جديد باسم سوريا على قائمة “الصون العاجل” ضمن قوائم التراث الإنساني.
ويعني الإدراج في قائمة “الصون العاجل”، وفق “يونسكو”، أن ديمومة العنصر وسلامته معرضة للخطر، وأنه يجب وضع تدابير لإدامة ممارسته ونقله من قبل الجماعات المعنية.
واشتهرت دمشق خلال القرون الماضية بإنتاج الزجاج اليدوي الملون، الذي كان يُصدر إلى الخارج ويُستخدم في الأدوات المنزلية والتحف والزخارف المعمارية.
مراحل التصنيع
تمر صناعة الزجاج الدمشقي بعدة مراحل متتابعة، تبدأ بتحضير المواد الأولية وتنتهي بالزخرفة.
يشرح الحرفي محمد الحلاق أن المرحلة الأولى تبدأ بتقسيم الزجاج إلى أجزاء صغيرة وطحنها، ثم تُنقل إلى الفرن لصهرها في درجة حرارة تتجاوز 1200 درجة مئوية حتى تتحول إلى عجينة شفافة.
يأخذ الحرفي عند هذه المرحلة كمية محددة من العجينة باستخدام أنبوب معدني طويل، ويبدأ النفخ اليدوي لتشكيلها حسب التصميم المطلوب.
ويدور الحرفي الأنبوب في أثناء النفخ للحفاظ على توازن الشكل وسماكة الزجاج، ثم تُترك القطعة لتبرد تدريجيًا داخل فرن آخر بدرجة حرارة أقل تصل إلى نحو 500 درجة مئوية لتجنب تشققها، ومن ثم تبدأ مرحلة الصقل للمنتج ليصبح جاهزًا للاستخدام.
وتُسلّم القطع بعد ذلك إلى الرسام أو المزخرف الذي يستخدم مواد معدنية لإضفاء الألوان والزخارف عليها.
وتستخدم الأصباغ المسحوقة لتلوين الزجاج في أثناء ذوبانه أو لتزيينه بمجرد تبريده وتصلبه.
ويتميز الزجاج الدمشقي المنفوخ بألوان خاصة تزينه منها الأبيض والأزرق والأخضر والقرمزي، بالإضافة إلى الزخارف المطلية بالذهب.
تحديات تواجه الحرفة
تتمثل التحديات التي تواجه صناعة الزجاج الدمشقي وتهدد استمرارها في ارتفاع أسعار الوقود اللازم لتشغيل الأفران، وانقطاع الكهرباء لفترات طويلة، وفق ما تحدث به الحرفي محمد الحلاق، لعنب بلدي.
وقال إن اليد العاملة تراجعت في هذا المجال بشكل ملحوظ، إذ يعزف الشباب عن تعلم الحرفة بسبب مشقتها الجسدية وضعف مردودها المالي.
وأشار إلى أن السوق المحلية تعاني من انخفاض الطلب على المنتجات الزجاجية اليدوية، في حين يزداد الطلب الخارجي على هذه القطع الفنية.
قلة الدعم المقدم للحرفيين أثرت بشكل مباشر على استمرارية المهنة، إذ أغلقت معظم الورشات القديمة أبوابها خلال السنوات الماضية، بينما لا تزال ورشة الحلاق صامدة في وجه هذه التحديات.
ما المطلوب
يرى الحرفي محمد الحلاق أن الحفاظ على المهنة يتطلب خطوات عملية تبدأ من توفير مستلزمات العمل الأساسية كالوقود والكهرباء بأسعار مدعومة للحرفيين، إضافة إلى دعم تسويق منتجاتهم داخل سوريا وخارجها.
ودعا الحلاق إلى إحياء التعليم المهني للحرف التقليدية، وإنشاء دورات تدريبية لتعليم الشباب أصول المهنة على أيدي الحرفيين القدامى.
وأشار الحلاق إلى أن عائلته تحاول نقل الخبرة عبر توريثها للجيل الجديد، في محاولة لضمان بقاء المهنة ضمن العائلة وحمايتها من الاندثار.