تعا تفرج

النسيج السوري الذي تمزق

tag icon ع ع ع

خطيب بدلة

لخص الكاتب، الدكتور راتب شعبو، الوضع السوري، في ظل الانقسامات المجتمعية المرعبة، بقوله: إن من ينظر إلى سقوط نظام الأسد، بعيون أبناء المناطق التي كانت تتعرض لصنوف القصف والحصار والتنكيل، سيجد التغيير الإيجابي هائلًا، حتى لو لم تقدم السلطة الجديدة شيئًا سوى هذا الإنجاز.. ولكن بالنظر إلى التغير الذي حصل، بعيون أبناء الأقليات الدينية، المحبوسين، بحكم منطق السلطة الجديدة، في دائرة أديانهم ومذاهبهم، ستجد أن التغيير ليس سارًا.. كان مؤيدو النظام يقولون “الدنيا بخير”، في وقت كان فيه سوريون آخرون تحت القصف والتنكيل، والآن انقلبت الآية، صار المنكل بهم، سابقًا، يقولون “الدنيا بخير”، في وقت يتعرض سوريون آخرون إلى ما يشبه الاستباحة.

المعضلة الأساسية، التي وضع الدكتور راتب يده على الجانب الأهم منها، تتمحور، من وجهة نظري، في ذلك الإصرار على الجري وراء المصلحة الخاصة، لكل جماعة، والابتعاد، أكثر فأكثر، عن مفاهيم مثل: الوطن السوري، المصلحة الوطنية، استعادة سوريا بوصفها وطنًا لكل أبنائها.

روي عن الزعيم الإفريقي، نيلسون مانديلا، أنه كان في مطعم، ورأى رجلًا جالسًا على بعد أمتار منه، فطلب من مرافقيه أن يدعوه إلى طاولته، ليشاركه الطعام. لبى الرجل الدعوة، وجلس مع مانديلا، وصار يأكل وهو يرتجف، والعرق يسيل منه.. بعد انتهاء الطعام، غادر الضيف، وقال أحد المرافقين لمانديلا إنه هذا الضيف ربما كان مريضًا، فقال: لا، بل كان خائفًا مني، يعتقد أنني سأنتقم منه، لأنه، حينما كنت سجينًا، وهو سجان، كان يختم حفلة تعذيبي اليومية، بالتبول على رأسي. الانتقام لا يبني وطنًا.

لم يكن مانديلا مثاليًا، ولا مراوغًا، فقد أسهم، مع أمثاله، ببناء وطن، ولكنه، بالمقارنة معنا، أعلى من سقف المثالية بكثير، فنحن رفعنا شهوة الانتقام إلى مستويات غير مسبوقة عبر التاريخ، ويا ليتنا ركزنا انتقامنا على الأشخاص الذين أجرموا بحقنا، بل تخطينا الأمر إلى أهاليهم، وأقاربهم، وأبناء مذهبهم.. وفي حين أن مانديلا عفا عن مواطن يعرفه جيدًا، ومتأكد من أنه أهانه، وآذاه شخصيًا، سارعنا نحن للانتقام من جماعات علمنا، من كتب التاريخ، أن أجدادهم، ربما أساؤوا لأناس يفترض أنهم أجدادنا، وخلال هوسنا بالانتقام، قمنا بأعمال لولا أنها قاسية، لقلنا إنها كوميدية، مضحكة، وهي أننا عفونا عن مجرمين كبار، لهم سجل حافل، ومؤكد، في قتل أهلنا، لمجرد أنهم أبدوا استعدادهم لتقديم بعض المال، أو الخدمات التي تساهم في توطيد سلطتنا، وانتقمنا من أشخاص لم يحملوا سلاحًا، ولا أدلوا بتصريحات ضدنا، لمجرد أنهم بلا ظهر، أو سند.

ومن الأمور المخيفة، حقيقة، أن الأشخاص القلائل الذين ظهروا بيننا، وهم يدعون إلى إرساء ثقافة التسامح، صففناهم بجوار الجماعات التي نريد الانتقام منها، ووبخناهم، ووجهنا لهم أسوأ أنواع التهم.. وكأننا مصرون على تجنب السير في الطريق الوحيد الذي يوصلنا إلى بر الأمان، الطريق الذي سلكه كثيرون غيرنا، منهم نظام مانديلا، فتمكنوا من تجاوز أزماتهم التاريخية، وإقامة وطن يستوعب جميع أبنائه.. وسرنا نحن في طرقات ستكبدنا، بلا شك، مزيدًا من الخسائر.



مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة